رغم أنّها نقلت الثورات المتنقلة في العالم العربي، قوبلت تغطية قناة «العالم» الإيرانية، لأحداث البحرين باتهامات التسييس، ولا سيما من الجانب البحريني. فالتظاهرات في هذا البلد الخليجي، التي جرى التعتيم عليها على معظم الفضائيات، تابعتها «العالم» بتغطية مكثفة، ما فُسّر على أنّه اهتمام بخلفيات سياسية ومذهبية. يمكن أن يقال الكثير عن دور الفضائية الناطقة باللغة العربية التي تتبع لهيئة الإذاعة والتلفزيون الإيراني (IRIB)، الخاضعة بدورها لإشراف المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية. فقد جاء إطلاقها عام 2003، في لحظة سياسية حساسة، عشية سقوط نظام صدام حسين (العدو اللدود لإيران)، ودخول الاحتلال الأميركي للعراق. كان بثها في البداية، موجهاً نحو المشاهد العراقي، قبل أن تطل على الجمهور العربي عامة. يرى الباحث الفرنسي «مايكل براه» في دراسة له عن القناة «أنّ إنشاء قناة العالم ينبع من إرادة طهران التعبير عن الأحداث، من خلال رؤية منسجمة مع التفسيرات التي تقدمها للتطورات الإقليمية والعالمية».
ويضيف إنّ «العالم» هي «أداة للدعاية السياسية، تُستخدم أساساً بهدف حشد الرأي العام العربي حول الرؤية الإيرانية من مختلف التطورات».
في خطاب «العالم» ما يؤكد هذه الفكرة. فهي، مستندة الى وجود رأي عام عربي ساخط على السياسات الأميركية، لا توفر جهداً لإظهار مخاطر التدخل الغربي في شؤون المنطقة، وضرورة مواجهته عبر وحدة الموقف. يتضح ذلك جلياً عند كلّ عدوان إسرائيلي يقع على لبنان، أو في ممارسات الاحتلال الإسرائيلي داخل فلسطين المحتلة. حينها، تلبس القناة عباءة «الإعلام المقاوم» المندد بالاحتلال، الذي عرفنا نموذجه عبر قناة المنار اللبنانية، التابعة لحزب الله. انسجاماً مع هذا الموقف، لا تستضيف القناة شخصيات إسرائيلية، ولا تلزم نفسها تقديم «الرأي الآخر» الإسرائيلي، حتى لو انتدبت مراسلاً لها من داخل القدس الشرقية (اعتقلت قوات الاحتلال مراسل القناة في القدس المحتلة خضر شاهين، بتهمة التخابر مع دولة «عدوة» وجرت محاكمته). ورغم أنّها تفتح الهواء لأصوات مدافعة عن السياسات الأميركية، تحرص على استبعاد شخصيات أميركية تحمل صفة رسمية حالية. يسجل للقناة أيضاً، أنّه رغم العلاقة التي تربط طهران بحركة حماس الفلسطينية، وببعض أطراف المعارضة اللبنانية، تفتح شاشتها لأصوات توجه اتهاماتها إلى إيران وسوريا بالتدخل في الشأنين اللبناني والفلسطيني.
العالم هي واحدة من القنوات الأجنبية التي تخاطب العالم العربي مثل «الحُرة»، «فرانس 24»، «بي بي سي»، «التركية»، «أورونيوز»، «روسيا اليوم»... وهي جميعاً لم تتمكن من حجز حضور لافت لها لدى المشاهد العربي، الذي ظلّ وفياً لقنواته العربية النشأة، لكن ما يميز «العالم» عن باقي تلك القنوات أنّها تركن الى هوية «إسلامية» تجمعها بجمهور ذي غالبية مسلمة (جميع مذيعاتها، على سبيل المثال، يرتدين الحجاب الإسلامي). قد تمثّل هذه الهوية المشتركة عامل ثقة وإقناع، ولا سيما حينما يجري التعرض لقضايا تهمّ جميع المسلمين، من الرسوم الكاريكاتورية الى حرق القرآن الكريم على يد قسّ أميركي متطرف. ورغم حرص القناة على التمسك بهذه الهوية الجامعة دون إظهار أصولها «الشيعية»، سرعان ما تُواجه بها مع كلّ احتكاك سياسي يأخذ طابعاً مذهبياً: بدءاً من النزاع في العراق، الى حرب صعدة في اليمن، والخلافات السعودية ـــــ الإيرانية، وصولاً الى تغطيتها الحالية للثورة البحرينية. يتجلى هذا التوتر المذهبي في برامج الاتصالات المباشرة، إذ تتلقى القناة شتائم تطاول المسلمين الشيعة على خلفية تغطيتها لبعض الثورات واتهامها ببث الفرقة والتحريض. لعل اللافت، أنّه في تغطيتها للثورات التي تتحرك في العالم العربي، اختارت «العالم» أن تصف ما يجري بأنّه «صحوة إسلامية». هي اختارت للثورات توصيفاً ذا بُعد إسلامي، فالقناة الواعية لهويتها غير العربية وإن تكلمت «بالعربي»، تبحث في الدين عن رابط يشدها الى جمهور عربي بات البعض منه يتوجس من القادم من بلاد فارس.
منذ انطلاقة الشرارة الأولى لتحركات الشارع العربي، حضرت القناة كمثيلاتها من الفضائيات الإخبارية. هكذا، تابعت سقوط نظامي زين العابدين بن علي وحسني مبارك، رغم تواضع إمكاناتها اللوجستية. كان للحراك المصري حصته الواسعة من التغطية التي يمكن النظر اليها وتقويمها ضمن الأداء المهني العام، لكن المتابع لا يمكنه أن يغفل عن خلفياته السياسية، ولا سيما أنّ القناة عرفت علاقة لطالما اتسمت بالحساسية مع نظام مبارك. فقد سبق لسلطات الأمن المصرية أن أغلقت مكاتب القناة في 2008، بدعوى عدم حصولها على تصريح بالبث من مصر، لكن استياء القاهرة حينها، يعود، في الواقع، الى بث طهران فيلماً وثائقياً عن الرئيس المصري الراحل أنور السادات، واتهام قناة العالم بالاشتراك في تمويل الفيلم الذي يسيء، بحسب النظام المصري، إلى السادات، وهو ما نفته القناة. بعد عام، أوقفت إدارة قمر «النايل سات» بث القناة على تردداتها، ومثلها فعلت إدارة قمر «العرب سات». فُسّر حجب صورة القناة عن القمرين العربيين بأنّه ترجمة لتأزم علاقات طهران بكلّ من القاهرة والرياض، ولاستياء الأخيرتين من دور القناة الإعلامي المفترض كصوت إيراني داخل العالم العربي. فقد كان ثمة تركيز واضح من «العالم» على قضايا لطالما مثّلت استفزازاً للنظام المصري السابق، كتناول قضية «التوريث» أو مسألة العلاقات المصرية ـــــ الإسرائيلية، وما يمكن أن يساق فيها من اتهامات للقاهرة بالتخلي عن دورها العروبي، لمصلحة حماية المصالح الإسرائيلية والأميركية.
مع اندلاع الثورة المصرية حشدت القناة الإيرانية كلّ فضائها لمواكبة التحول السياسي في مصر، من خلال تغطية مباشرة ومستمرة تنقل نبض الشارع «بحماسة» لا تقل عن «حماسة» قناة الجزيرة. بالطبع لا مجال هنا لإجراء مقارنة بين التغطية الإعلامية للمحطتين، فالجزيرة تبقى القناة الفضائية العربية الأكثر مشاهدة لدى الجمهور العربي، بل يذهب البعض إلى اعتبارها أكثر من مجرد ناقلة للحدث، إلى كونها مشاركة في صنعه، لكن الجزيرة ستُغيّب ثورة أخرى عن شاشتها، نعني بها التظاهرات البحرينية التي لن تجد لها مساحة في الفضاء الإعلامي. ثمة اتهام للقناة القطرية بالخضوع لحسابات سياسية خليجية وقطرية، تفرض عليها التعامل بهذا القدر من «اللامبالاة» مع ثورة تُراق فيها الدماء ولا تقل شعاراتها أحقية عما رفع في مختلف الشوارع العربية. في كتابها «قراءة في ثقافة الفضائيات العربية، الوقوف على تخوم التفكيك»، تتحدث الدكتورة نهوند القادري عيسى عن مفارقة العلاقات الملتبسة للفضائيات العربية مع الأنظمة الحاكمة التي تمتلك هذه الفضائيات، فتقول إنّ «المواقف التي تضطر هذه المحطات إلى اتخاذها لأسباب سياسية، تأتي أحياناً بطريقة لا تتوافق مع مهنية العمل الإعلامي الذي يتطلب حداً أدنى من الحيادية، ويتطلب تأمين شيء من التوازن بين مختلف الأطراف، يحترم عقل المشاهد». تأسيساً على ما تقدّم، يمكن تفسير صمت الفضائيات العربية عما يجري في البحرين، فتداخل المصالح السياسية يفرض على هذه الفضائيات، التي تملكها أصلاً الأنظمة الحاكمة الالتزام بأجندات بلادها، لكن هذا التغييب المقصود للمسألة البحرينية عن المشهد الإعلامي العربي العام، سيقابَل بتغطية مكثفة من «العالم» الإيرانية، التي واكبت ولا تزال، الحدث البحريني، محاولةً تكوين وعي جماعي حول ما يجري في المملكة الصغيرة.
لا يمكن بأيّ حال إنكار أنّ ما تقوم به «العالم» يدخل في إطار ممارسة الوسيلة الإعلامية دورها المهني بنقل الحقائق وإعلام الجمهور، وهي نقطة تسجل لمصلحتها من دون أن تعفيها من النقاش بشأن «التعاطف هنا» و«التغاضي هناك»، تحديداً في سوريا، حيث خطاب «العالم» لم يتجاوز وجهة نظر النظام السوري للأحداث (تقليل من أهمية التظاهرات المعارضة وحديث عن مندسين...). هو نقاش تُواجَه به، ليس فقط «العالم»، بل معظم الفضائيات، التي بدا أنّها «تحتفي» بالثورات، بحسب ما تمليه عليها مصالح بلادها، أو بحسب ما تراه «نظاراتها»، إذا ما استعرنا تشبيه الباحث الفرنسي «بيار بورديو». ففي نقده اللاذع للتلفزيون، يقول بورديو إنّ «للصحافيين نظارات خاصة يرون من خلالها أحداثاً ما، ولا يرون أخرى، ويروون بطريقة معينة الأشياء التي يرونها». ويذهب مواطنه الباحث باتريك شارودو الى تسمية الصحافيين بأنّهم «آلة للإعلام» (Machine à informer)، فهم ينتقون من الأحداث، ومن ثم يشكلون ما سبق أن جرى انتقاؤه ليخرج الى الفضاء العام. لا تأتي الانتقائية التي تمارسها وسائل الإعلام من باب الصدفة، ولو اختلفت «النوايا». وفي تغطية «العالم» لأحداث البحرين، قد يقال الكثير عن خلفيات متابعتها لهذا الملف وربطها بأسباب مذهبية، وهو أمر قابل للنقاش بالطبع، لكن ما هو غير جائز إنكار حق أيّ مؤسسة إعلامية في تغطية حدث ما. إنّ الاتهامات بممارسة التحريض والمبالغة في نقل الوقائع التي تطلق ضد «العالم»، لم تثبت صحتها من عدمها، فالصورة التي تنقلها القناة عن البحرين تكاد تكون هي الاسثناء الوحيد، في ظلّ غياب باقي الفضائيات العربية الممتنعة عن الخوض في الحراك البحريني. لقد اتهم التلفزيون البحريني الرسمي «العالم» صراحة بالتحريض، وذهبت الجمعية العربية للصحافة وحرية الإعلام، «ارابرس» (التي تتخذ من لندن مقراً لها) إلى تصنيف القناة على أنّها معادية للعرب، وأنّها تعمل على ضرب الوحدة العربية وشقها، وذلك للدور الذي تقوم به في تغطية التحركات في البحرين والسعودية، واصفة أداءها بأنّه تحريض طائفي. لا شك أنّه في مقاربتها للوضع البحريني، تنطلق «العالم» من موقف سياسي يظهر جلياً، ولا سيما في مفرداتها المستخدمة، من تسمية القوات السعودية في درع الجزيرة بأنّها قوات «احتلال» الى تشديدها على الخليج «الفارسي». هذا الموقف، على وضوحه، ليس لحظوياً بل هو امتداد لتأرجح العلاقات الإيرانية ـــــ السعودية التي تترجم على فضائيتي البلدين. فمقابل اهتمام «العربية» بحراك المعارضة الإيرانية، تتصدى «العالم» للشأن السعودي بمختلف تفاصيله، كأن تخصّص برامج حوارية للحديث عن سيول جدة أو عن الوهابية أو عن مصير المملكة بعد مرض الملك! ويصل «الكباش» الإعلامي الى مستوياته العليا خلال تغطية حرب صعدة، إذ أفردت «العالم» مساحة واسعة لإيصال صوت الحوثيين. أما التظاهرات التي شهدتها بعض مدن السعودية، فكان لا بد أن تلقى متابعة خاصة بدورها من القناة، الى جانب إيلائها بالطبع الشأن البحريني أولوية في التغطية. هذه التغطية التي لاقت اعتراض البعض، ورضى البعض الآخر، لا يمكن الحكم على مدى نجاحها في تحويل تظاهرات البحرين الى قضية تحجز لها مكاناً في الفضاء العربي العام. فتلاقي الهوية الفارسية الشيعية لقناة «العالم» مع معارضة بحرينية تنتمي بغالبيتها إلى المذهب الشيعي، إضافةً الى تخلي الفضائيات العربية الأكثر مشاهدة عن متابعة الوضع البحريني، كلّها عوامل لم تكن في مصلحة ثوّار البحرين، الذين خسروا فرصتهم في تكرار التجربة المصرية والتونسية. فالتلفزيون، كما قال عنه بورديو، «أصبح الحَكم للوصول الى الوجود السياسي والاجتماعي».
* أستاذة في علوم الاتصال والإعلام
في الجامعة اللبنانية