يستثير التحرّك الشبابي من أجل «إسقاط النظام الطائفي» جملة من الإشكاليات والأسئلة والنقاشات والمواقف، وخصوصاً بعد محطته البيروتية يوم الأحد الماضي. بدءاً، ينبغي التأكيد أنّ البعض قد حاول ركوب موجة التحرّك. وهو فعل ذلك في امتداد مناورات ذات أهداف «خاصة» و«عامة»، «داخلية» و«خارجية». ولا يقع في مقدّمة هذه الأهداف، بالطبع، السعي إلى إلغاء الطائفية السياسية، بل ممارسة ضغوط أو التفتيش عن مخارج لأوضاع وتوازنات، لم تعد ملائمة كما كان الأمر في السابق. ورغم ذلك، وفي حالة رئيس المجلس النيابي تحديداً، يمكن إخضاع الشق المناور في موقفه، لعملية اختبار وضغط تفضي إلى أحد أمرين: إما كشف حقيقة الموقف، أو الدفع باتجاه بحث خطوات تشريعية لمصلحة البنود الإصلاحية في «اتفاق الطائف»، ومن ثمّ في الدستور اللبناني.
ثمّ يجب أيضاً التنبّه إلى عملية أخطر، وهي محاولات التشكيك التي يطلقها البعض ضدّ التحرّك بوصفه أنّه، في النهاية، تحرّك طائفي هو الآخر. يجادل هؤلاء من زاوية أنّ فئة من اللبنانيين، هي فئة الطوائف المسيحية تحديداً، تعاني اختلالاً ديموغرافياً، وتوفّر لها «المناصفة»، ما يحول دون المزيد من خسائرها اليوم، وتهميشها مستقبلاً. وهم لذلك، يرون أنّ كلّ حديث عن إلغاء الطائفية السياسية، مسعى «خبيث» يصبّ في مصلحة حصّة الطوائف الإسلامية الآخذة نسبها العديدة في الازدياد، عاماً بعد عام.
ويدفع فريق من هؤلاء، وبما يشبه التذاكي، هذه المعادلة إلى حدّها الأقصى: تريدون إلغاء الطائفية السياسية؟ نحن نريد العلمنة الكاملة! طبعاً هم لا يريدون هذه أو تلك، إنّما يقولون ذلك لسببين: أوّلاً لاتهام كلّ دعوة إلى إلغاء الطائفية بأنّها طائفية هي الأخرى. ثانياً، للردّ بمطلب يرونه مرفوضاً سلفاً من ممثلي الطوائف الإسلامية، أيّ بما يبقي الأمور على حالها الراهنة، مع تحميل المسؤولية للخصم عن استمرار نظام متخلّف بكلّ ما في الكلمة من معنى.
هذا موقف مكشوف الأهداف. وهو في مبرّراته ساقط في أمرين، سبق أن أشار إليهما خصوصاً، المطران المتحرّر والإصلاحي غريغوار حداد. فهو لفت إلى أنّ «المناصفة» لا تلبّي العدالة، ولا توفّر ضمانة لأحد (وهو لهذا الأمر «استحق» اعتداءً سافراً ومجرماً من أحد «المجانين» قبل مدّة ليست
بعيدة!).
يقتضي المنطق الحريص والإصلاحي (الثوري في ظروف لبنان) اعتماد التدرّج في عملية إسقاط النظام الطائفي. ولذلك رفعت الحركة الديموقراطية التقدّمية في لبنان شعار «إلغاء الطائفية السياسية» (برنامج الحركة الوطنية المرحلي للإصلاح السياسي)، وإقرار «قانون مدني اختياري للأحوال الشخصية». وهي بذلك وبوضوح كامل، قد اختارت، مرحلياً، شعار الدولة المدنية التي تحرّر السلطتين، السياسية والإدارية، من الطائفية، دون أن تلغي دور المؤسسات الأهلية سواء منها الدينية أو المدنية.
وفي المقابل، لا يعترف النظام العلماني المعمول به في عدد من البلدان الأوروبية إلا بدور الفرد دون أيّ دور للجماعات (ليس الأمر كذلك في المملكة المتحدة التي لا تزال تعمل بتقليد الملكية الدستورية).
إنّ النضال تحت شعار إقامة الدولة المدنية هو المناسب، قطعاً، في لبنان، في هذه المرحلة التاريخية. وكلّ جنوح نحو المطالبة بالعلمنة الشاملة والفورية، إنّما هو مبالغة ستؤدّي عن قصد أو عن غير قصد، من جانب القائلين بها، إلى محاصرة قوى التغيير وجعل مهمّتها أعقد وأصعب وأطول. وكنا في مقالة سابقة قد أشرنا إلى بندين تنفيذيين كهدفين مباشرين لاختراق النظام السياسي القائم، وهما قانون الانتخاب وقانون الأحوال الشخصية.
لا يعني ذلك منع المطالبين بدولة علمانية من أن يكون لهم دورهم وحضورهم في التحرّك وفي مجرياته كافة، لكنّ هذا التحديد يمليه السعي من أجل اختيار الشعارات والمطالب المناسبة في هذه المرحلة من تطوّر الوضع اللبناني، وبما يوفّر للتحرّك فرصاً أكبر وأسرع في تحقيق أهدافه. ولا بأس من أن نشير في امتداد هذا الأمر، إلى أنّ الدستور اللبناني، قد نصّ على إنشاء «مجلس شيوخ» على أساس طائفي. وهو مجلس يهتمّ بأمور عامة «مصيرية»، بينما يجري تحرير كلّ السلطات اللبنانية من الانقسام الطائفي والمذهبي: السلطات السياسية والقضائية والإدارية والعسكرية.
وكذلك يجب تكرار أنّه بسبب أنّ النظام السياسي الطائفي اللبناني منظومة متكاملة من المؤسسات والعلاقات والنشاطات، فمن الضروري تعبئة كلّ المتضرّرين، في الحراك الراهن تحت شعار إسقاط هذا النظام، وخصوصاً الشباب والشابات منهم.
ويقود هذا الأمر إلى مسألة لا بدّ من نقاشها ولو بخطوطها العامة، وهي مسألة قيادة التحرّك، ومسألة توسيع المشاركة فيه: السياسية والشعبية على حدّ سواء. اكتسب التحرّك الراهن زخمه وجاذبيته بسبب عفوية القوى الشبابية التي أطلقته تأثّراً بالحراك العربي وبالأزمات المتفاقمة، لكنّ هذه العفوية تحتاج إلى نضج قيادي، من سماته وضوح الأهداف كما ذكرنا (دون قمع أو مجافاة التطلعات الجذرية...)، وتطوّر صيغ وآليات العمل والتفاعل، دون فئوية، أو في المقابل، دون إغراق وانفلاشية.
وتشير المعطيات المتوافرة، وخصوصاً بعد تراجع المشاركة في تظاهرة 10 نيسان، قياساً على سابقتها في 20 من الشهر الماضي، إلى أنّ بعض النقاش يراوح في النطاق نفسه، ولم يتعدّه إلى متطلبات توسيع المشاركة السياسية في التحرّك.
ستبقى بالتأكيد المشاركة الشعبية، في تظاهرة الشارع هي الأساس، لكنّ السعي إلى توفير دعم سياسي من جانب المهتمّين: من شخصيات وأحزاب ومؤسسات مجتمع مدني... هو أمر في غاية الأهمية أيضاً. إنّ عقد لقاءات مركزية ومناطقية لهذا الغرض، هو أمر في غاية الأهمية، ومن شأنه، بالفعل، أن يبلور الخيار غير الطائفي الجديد الضاغط على الاستقطابين القائمين، وخصوصاً على القواعد الشعبية الأكثر تهميشاً والأكثر تضرّراً من النظام القائم، فضلاً عن النخب المتنوّعة التي تتطلّع إلى إقامة نظام مساواة ومؤسسات وعدالة وتنمية في
لبنان.
وفي امتداد توسيع التحرّك وتنويعه، ينبغي العمل أيضاً على تعميق الوعي بأهدافه وبشعاراته، في عملية ربط مستمرّة ما بين أزمات لبنان واللبنانيين المتعدّدة والمتفاقمة والمتعاظمة، والنظام السياسي الطائفي الراهن.
ومن البديهي أنّه، في سياق توسيع التحرّك وتوحيد أهدافه وتنويع قواه السياسية والاجتماعية والمدنية المشاركة، يمكن تصوّر تحوّلات طبيعية في قيادته بما يعكس المشاركة ويعزّزها في مستوياتها كافة. ويصبح عقد مؤتمر وطني أو أكثر، وعلى نحو منسّق مع آلية تحرّك متكاملة، احتمالاً ضرورياً لإضفاء مزيد من الصفة العامة والشاملة والوطنية، على التحرّك.
بديهي أنّه يترتب على الأحزاب والشخصيات اللاطائفية والمواقع دور مهم في تنسيق تعاونها، بما يرفد التحرّك بعناصر الدعم والمشاركة، دون السعي إلى تحقيق أيّ مكاسب فئوية، صغيرة كانت أم كبيرة.
ويبقى النقاش مفتوحاً، من أجل التخلّص من نظام الطائفية السياسية، وإنقاذ لبنان واللبنانيين من أزماته المتنوّعة
والخطيرة!
* كاتب وسياسي لبناني