أتعجّب في بعض الأحيان من سذاجة أهل الحكم في تفكيرهم وتصرّفهم، مهما كانت أهواؤهم ومسالكهم. فكلمة السرّ لديهم هي دائماً عند القوى النافذة دولياً أو إقليمياً. وقد يمكن تسمية ذلك «ثقافة وَشْوَشَة القناصل». فهم ينتظرون للتحرّك أن يتفوّه أيّ موظف صغير في سفارة إحدى الدول الكبرى، ويبنون على كلامه هذا النظريات، ويلهون المجالس ويحمّسون الأنصار. وهذا في الحقيقة موروث ثقيل من العهد الاستعماري حيث كان لكلمة الموفَدين من دول أوروبا وقناصلها في لبنان الشأن الأعلى في البلاد، وهم كانوا المهيمنين على المنطقة كلّها والفارضين سيطرتهم على الباب العالي الذي كان قد أصبح الرجل المريض الذي يحتضر وينتظر الضربة القاضية. وليس من الصدفة أن يكون أهمّ مصدر معرفي في تاريخ لبنان الحديث تقارير القناصل في بيروت إلى دولهم، وتجميع هذه التقارير يكوّن عشرات من المجلدات. فالقناصل يهتمّون بكلّ كبيرة وصغيرة في لبنان ويقيمون العلاقات الوثيقة مع الأعيان ورجال الدين، ويقدّمون الخدمات والمشورة، وإذا لم يرضوا على عمل ما، يهدّدون المرتكب بأساطيل دولهم وبطش جيوشها. هكذا أصبحت السياسة في لبنان فنّ استشارة القناصل والتقرّب منهم والتزلّف لهم والتعرّف إلى كلّ جوانب شخصياتهم وتقديم الهدايا لهم، وتنظيم الولائم والحفلات على شرفهم، وعدم الإقدام على فعل ما قبل إجراء المشاورات معهم. وهذا ما أسمّيه «ثقافة القناصل» في لبنان. وقلت سابقاً «وشوشة القناصل» لأن هؤلاء فهموا موقع الضعف هذا في الشخصية اللبنانية وأخذوا يلعبون بعقول أهل السياسة بكلّ سهولة، و«يوشوشون» ويهمسون لهم ببعض الأخبار، وإن كانت غير صحيحة أو منحرفة عن الواقع، للحصول على ردّ الفعل والمواقف التي تحتاج إليها دولهم في تثبيت سياستها ومواقع نفوذها في لبنان. وما أسهلها لعبة لا تزال مستمرّة إلى اليوم وأهل السياسة في لبنان غارقون فيها إلى أبعد الحدود. ويمكن تلمّس مدى خطورة هذه الظاهرة من مراقبة الحياة السياسية عندنا. فالسفارات الأجنبية وأقوال موظّفيها وتحرّكاتهم تحتلّ مركزاً مهمّاً للغاية في الإعلام اللبناني. والسفارات في لبنان حافظت، برضى أهل الحكم، على امتيازات القناصل التاريخية، ولم تتكيّف مع أسلوب ومراسيم العمل الدبلوماسي المعتمدة في دول العالم. فممثّلو الدول الأجنبية في لبنان يتّصلون بالنواب والأحزاب السياسية وبرجال الدين وبالجمعيات الأهلية، ويزورون المناطق ويتّصلون فيها بالمراجع الدينية والنقابية والجمعيات الأهلية والوجاهات المحلّية. هذا مع العلم أن مثل هذا التصرّف في كلّ دول العالم، إلّا في لبنان، محظور حظراً تامّاً. فالدبلوماسي الأجنبي لا يحقّ له القيام بنشاطات عامّة وإقامة علاقات مع أحزاب سياسية ومراجع دينية وكتل نيابية. النشاط العام الوحيد المسموح به هو الاتصال بوزارة الخارجية وببعض الدوائر الرسمية الأخرى عن طريق وزارة الخارجية لتأمين حسن سير شؤون التبادل التجاري ومصالح رعايا الدول التي يمثّلها الدبلوماسيون. هذا هو العرف المعمول به بصرامة لدى كلّ الدول إلّا في لبنان، والدبلوماسي الذي لا يحترم العرف ويتجرّأ على إقامة اتصالات وثيقة مع أحزاب سياسية للبلد المضيف أو مراجع دينية أو نقابية تطلب الدولة المضيفة فوراً سحبه من الدول المنتدبة.

عدم تقييد الدولة اللبنانيّة تحرّكات سفراء الدول على خلاف كلّ الأعراف الدبلوماسيّة

ومن جهة أخرى، نرى في الدول الأخرى مدى الاستهجان الذي يصيب القوى المحلّية الدينيّة أو الحزبية أو المناطقية أو النقابية التي تقيم علاقات خاصة مع سفارة من السفارات الأجنبية. أمّا في لبنان، فالعكس هو الذي يحصل، إذْ تُعدّ إقامة علاقات وثيقة مع سفارة من السفارات الأجنبية سببَ وجاهة إضافياً ومدعاة اعتزاز بالنفس. والغريب في الأمر أن الدولة لم تمانع في ذلك بتاتاً ولم تفرض على السفارات الأجنبية التقيّد بالعرف الذي يقضي على ممثّلي الدول الأجنبية المعتمدين لديها عدم التدخّل في الشؤون المحلّية، وبالتالي عدم إقامة علاقات مميزة مع أحزاب سياسية ومراجع نيابية أو دينية أو مراجع أخرى خارج اللقاء في المناسبات الرسمية القليلة. وفي هذا الجوّ من عدم اهتمام الدول نفسها بتطبيق هذا العرف المعمول به دولياً، لا يشعر أحد من أهل السياسة في البلاد بأدنى حرج إذا اشتهر في الأندية السياسية المحلّية بصداقة حميمة مع هذا أو ذاك من سفراء الدول الكبرى أو أعوانهم. بل العكس، فإن لعبة التباهي بصداقة القناصل هي جزء لا يتجزأ من اللعبة السياسية المحلّية.
ولا يمكن تفسير مثل هذه الظاهرة الغريبة الشاذّة إلّا بنسبها وتواصلها بالقرن الماضي وحكم القناصل في أيّام نظام المتصرّفية. فاستقلال البلاد عام 1943 لم يغير شيئاً في عرف خاصّ اختص به لبنان، وهو ترك ممثّلي الدول الأجنبية يؤدون علناً أدواراً مركزية في الحياة السياسية اللبنانية. وأعتقد أنه إذا لم يتبادر إلى ذهن أحد من أهل الدولة منذ الاستقلال أن يطلب من السفارات الأجنبية احترام العرف الدبلوماسي، فقد يعود ذلك إلى تكوين عقلية أهل الحكم عبر الأجيال، التي تعمل على أساس التكيّف الدائم مع المعادلات الخارجية في المنطقة، وهي عاجزة عن تصوّر أيّ نمط آخر للحياة السياسية اللبنانية خارج التشابك المستمرّ بين القضايا المحلّية والقضايا الإقليمية والدولية. زد على ذلك أن أهل السياسة لهم مرجعية طائفية بحكم النظام نفسه، وأن الطوائف تسيّست ولها مرجعيات في الخارج، وتكتمل الحلقة الدائرية التي تأسر الكيان وتشرط وجوده بألف شرط، ومنه وجود «القناصل» في صميم الحياة السياسية المحلّية.

قدسيّة كلمة القنصل لدى الزعامات المحليّة

فوق ذلك جميعاً، لا تزال كلمة «القناصل» الى اليوم كلمة مقدّسة مُنْزَلة، لا أحد من الذين يسمعونها يمارس النقد الفكري والعقلي لمعرفة ما إذا كانت ذات قيمة فعلية، وإلى أيّة حدود، بل هي تؤخذ في الحسبان أكانت كلمة من كلمات الثرثرة والدردشة أو الدسّ المتعمّد، أم بالعكس كلمة موزونة ذات صدقية وحرية بأن يُلتفت إليها. وكأن القناصل وأعوانهم مخلوقات غير البشر العاديين، لا يتفوّهون إلّا بما له دلالة عميقة وتعبير عن حقائق ثابتة جلية. ومردّ ذلك أن الدول الكبرى، في نظر الزعامات السياسية اللبنانية، شيء عظيم خارق، وأنها عندما تعبّر عن نفسها من خلال ممثّليها فلا تعبّر إلّا عن واقع أكيد وحدث مستقبلي لا مناص منه. وأهل السياسة اللبنانيون، الذين يتقنون فنّ المناورة السياسية في ما بينهم والخدعة والأنانية ـــــ وكلّ هذه الصفات يولّدها حبّ السياسة بنحو طبيعي في أيّ بلد كان ـــــ يجمدون أمام القناصل وكلمتهم، وينسون أن الدولة متقلّبة الأهواء والسياسات ولا تحترم وعودها بل هي تتراجع عنها. فقد يقول سفير أو وزير أو رئيس دولة أجنبية شيئاً ثمّ يعود عنه لأنه قاله دون استشارة أهل الخبرة في الدولة أو دون معرفة كافية بالموضوع الذي تحدّث عنه، أو لأن الظروف التي أدّت به إلى التفوّه بهذا الكلام تغيّرت في اليوم الثاني أو لألف سبب وسبب.
أمّا بالنسبة إلى أهل السياسة في لبنان، فالكلمة التي يتفوّه بها أصغر موظّف في سفارة أو وزارة خارجية أجنبية، تُتخذ وكأنها قرآن أو إنجيل، وعليها تبنى المغامرات والمراهنات دون التفكير ببدائل وخطوط رجعية في حال عدم تطابق الكلمة المسموعة مع حقيقة موقف الدولة الأجنبية. وفي تقاليد المغامرة السياسية في لبنان أن «الشطارة» اللبنانية قد تصل إلى درجة التوهّم بأنه قد يمكن جلب القوى الخارجية وتورطها في السياسة المحلّية لمصلحة المغامرة. فهذا الأمير بشير يتصوّر، بحالة الغرور التي أصابته، أن فرنسا ستنقذه حتماً وهو الذي أمّن لها مصالحها طوال العقود. وهذا بشير الجميّل تصوّر أنه يمكن التحالف والتلاعب مع إسرائيل لمحاربة المقاومة الفلسطينية والحصول على السلطة في لبنان والاستقلال بها في ظل احتلال عسكري إسرائيلي، وعليهما قِسْ...

أهل السياسة عاجزون عن فهم قواعد ومنطق العلاقات الدولية فهماً صحيحاً

وهذا ما أُسمّيه السذاجة في العقلية السياسية اللبنانية. فأهل السياسة، مع كلّ براعتهم في التنافس المحلّي على الوجاهة، لم يفهموا إلى الآن قواعد السياسية الدولية وأنماط تصرّف الدول ومنطقها. وهم لم يفقهوا الى يومنا هذا أن لا عواطف للدول ولا مشاعر، بل مصالح ومصالح نسبية اذا كانت القضية صغيرة لا تستحقّ الدخول في حروب، وأن كل الكلام عن العطف والاهتمام كلام منمّق يخفي نيات مبيّتة. صحيح أنه يمكن ممثل دولة ما أن يتعاطف، مع هذه أو تلك من الطوائف ويجاهر بذلك، لكن هذا لا يعني أن الأساطيل والجيوش مستعدّة للانطلاق، أو أن «الضمانات» الشفهية المعطاة ستتحقّق. وكم من وزير خارجية في لبنان أخذ ضمانات متكرّرة على سيادة لبنان واستقلاله من سفراء الولايات المتحدة في بيروت، ووعوداً بأن الجيش الإسرائيلي لن يضرب تحرّك الجيش اللبناني في الجنوب، وعمل على أساسها دون التفكير، ولو ثانية واحدة، بأن الضمانة وهمية ومجرّد كلام بلا محتوى، الأمر الذي يفرض على الدولة إعداد سياسات بديلة، فالعجز هنا شامل وهو ليس عجزاً لبنانياً فقط، بل نلاحظه أيضاً عند السياسيين العرب الذين لهم عموماً، ميل مفرط الى هذا التصرّف، أي إلى عدم ممارسة النقد والوعي في التعاطي مع ممثلي الدول الكبرى، ربما اعتقاداً منهم بأن الغربيين والدول الكبرى لهم كلمة واحدة تمثّل المنطق والحكمة ولا مجال للتعامل معها بحذر وحنكة.
أمام كل هذه الظواهر الخطيرة ما العمل؟

العقد في النفسيّة اللبنانيّة وحالة فقدان الثقة بالنفس

يتخبّط لبنان في حلقات مفرغة منذ عهد الأمير بشير، وهي حلقات دائرية مختلفة تربط الجسم اللبناني وحياة اللبنانيين بروابط ثقيلة من أنواع مختلفة، وطريقة الربط معقّدة في أماكن متعدّدة في العقلية اللبنانية. وفكّ العقد هذه ليس من الأمور السهلة، ويشكّ اللبنانيون بإمكانية تحقيقها، خاصّة بعد ما أصابهم من ويلات موجعة مدمّرة لنفسيتهم خلال الأحداث الأخيرة. والفشل الذريع الذي تميزت به السياسات اللبنانية المختلفة منذ الاستقلال أفقد اللبنانيين الثقفة بالنفس وأبعدهم عن السياسة، ولو بقيت المشاعر والأحزان والكبت دفينة في النفوس. وقد سهّلت هذه الحالة وانتقال الزعامات إلى لعبة المال والإعمار، نسيان قضية الإصلاح وضياع الكيان الى درجة القبول بمحو التراث المعماري للعاصمة لمصلحة لعبة المال والمضاربات والمبارزة الجديدة في "النجاح الاقتصادي". كما أن آلية التغيير هذه تندرج في نفس العقدة التي تربط العوامل الخارجية بالعوامل الداخلية، ولذلك ليس لها قدرة حقيقية على مباشرة الإصلاح وتثبيت الكيان على أعمدة متينة ومتناسقة، بل إن اللعبة مستمرة لكن على إيقاع جديد: إيقاع النقود.
ويبدو لي أن لا إصلاح في الأفق ما دام اللبنانيون لم يتّفقوا على تشخيص مرضهم، بل أمراضهم، على فكّ عقد الحبال التي تسجنهم في حالات انفصام الشخصية والضباب الفكري والتبعية لثقافة القناصل في كلّ كبيرة وصغيرة. ومن الأقوال الدارجة التبسيطية أن الزعامات اللبنانية على صورة الشعب اللبناني الذي هو ـــــ حسب هذه الأقوال ـــــ شعب غير ناضج للممارسة الديموقراطية، لِما له من تعلّق بالعشائرية والمحسوبية والطائفية. وأنا أعتقد أن مثل هذا الحكم السريع على أطباع «الشعب»، الذي نسمعه من بعض المثقفين ومن أصحاب الوجاهة المادية، المتعلّمين وغير المتعلّمين، فيه الكثير من الجور والظلم.
وفي تقديري أن من يطلق هذا النوع من الأحكام له نفسية طبقية قوية وهو قليل الاحتكاك بالشعب، وما يعنيه بالشعب هو ابن الشارع الفقير أو الذي لم ينل قسطاً وافراً من العلم ولا مال لديه. وفي هذا المجال أيضاً ضبابية كبيرة وقلّة وعي لآليات تصرّف «الشعوب» أي الفئات غير الميسورة مادّياً وعلمياً.
مسؤوليّة عدم الإصلاح بين عقليّة النخبة وذهنيّة الشعب
وكثيراً ما أسمعُ في المحافل الدولية والندوات حول العرب والمسلمين أن العقلية الشرقية ليست مهيّأة لتقبّل الأفكار الديموقراطية وممارسة مبادئها ميدانياً.
وصورة الشرقيين لدى الغرب، ولدى العديد من المثقّفين العرب واللبنانيين، صورة جامدة وسطحية لمميّزات يُدّعى أنها أبدية سرمدية غير قابلة للتغيير. فالشرقي ـــــ حسب هذه النظرية ـــــ متعلّق بدينه وطائفته المذهبية وبعشيرته أو زعيم الحي، وهو أيضاً عاطفي، ينفعل بسرعة، لا يتوسل الرشد والعقل عند اتخاذ المواقف، بل يتبع ما يقوله زعيمه، لذا لا قدرة له على تطوير رأي ذاتي في الأمور السياسية، وعند الانتخابات يصوّت آلياً لزعيم طائفته أو عشيرته أو منطقته، أو يبيع صوته لمن يدفع أكثر إذا تنافس أكثر من زعيم على مقعد واحد في الدائرة الانتخابية التي يصوّت فيها.
هذه هي أيضاً الصورة الجامدة السلبية السائدة لدى الكثير من أعضاء النخبة المفكّرة اللبنانية أو أهل الوجاهة. وكم سمعت في ختام أحاديث الصالونات البيروتية: «يا للشعب هذا» أو «مثل هذا الشعب يستحقّ مثل هذه الزعامات». وهذا النوع من الازدراء لـ«ابن الشارع» لا ينمّ فقط عن روح طبقية أو عن انفصال النخبة عن الشعب، بل هو أيضاً ظاهرة مدمّرة، سلبية، لا يمكن أن نبني عليها وطناً. والفئات التي تتفوّه بمثل هذه الآراء تجهل أن ابن الشارع من الشعب تتكوّن أفكاره وثقافته وذهنيته ممّا تسكبه عليه النخبة المتعلّمة من جوّ فكري حضاري عامّ. فالنقض في العلم والمعلومات العامّة يجعله يأخذ بسهولة ما يتناقل في الجوّ العامّ عبر الإذاعة والصحف والتلفاز من أحوال الدنيا، أو عبر شخص من الأشخاص المقرّبين عائلياً، والذي تمكّن من الانتقال إلى حالة اجتماعية ومادّية أحسن.
وعند الأمم الناهضة هناك اهتمام بالغ بـ«الشعب» وبما يتلقّى ابن الشارع من معلومات وثقافة عامة عبر المدرسة الإجبارية على الأقلّ لمدّة معيّنة وعبر الوسائل السمعية البصرية والمتاحف والمعارض. وهناك أيضاً نوع من النظر الإيجابي الى أبناء الشعب وقدراتهم وعبقريتهم، أكانوا فلاّحين أم عمّالاً أم مجرّد فقراء، بل تعطي النخبة المثقّفة نوعاً من الصورة المثالية للشعب، ولو كانت مخالفة تماماً للواقع. فهذه المثالية في النظرة الى الشعب ضرورة منطقية لبناء وطن متماسك قادر على الصمود أمام التحدّيات الخارجية والتغييرات الداخلية التي تولّدها مثل هذه التحدّيات، ذلك أن في ازدراء الشعب أكبر سبب لوهن الأمم في الزمن المعاصر الذي نعيش فيه. وهذا ما فهمه العديد من فئات النخبة في دول العالم، أمّا في لبنان، فلا نزال نعيش في ظل أفكار مجزأة، تبسيطية الطابع، حول ذهنية الشعب التي ترى النخبة أنها هي وحدها، (أي الذهنية)، مسؤولة عن التمسك بتقاليد دينية ومذهبية وعشائرية تحول دون تحديث النظام السياسي وإصلاحه ودون التمكّن من بناء الوطن.
والحقيقة أن مثل هذا الموقف هو الذي يحول دون شعور أهل السياسة والنخبة المتعلّمة، أو التي نالت نصيبها من الوجاهة المادّية بمسؤولياتها هي عن الوضع الذي نحن فيه. وتحميل «الشعب» سلبيات المجتمع وعاهاته حصراً، لعبة سهلة وبشعة في آن معاً من جميع فئات نخبة مجتمعنا اللبناني. وهذه اللعبة مكوّن من المكوّنات الأساسية في الحلقات المفرغة التي نتخبّط فيها بحثاً عن الإصلاح المستحيل.

الازدراء المتبادل بين الشعب والزعامات في ظاهرة شراء الأصوات الانتخابيّة

وربّما تكون لحظة تبادل الازدراء الواضح بين الزعامات والشعب، هي الانتخابات، حيث تدفع الأموال لشراء الأصوات. والزعيم، بعرضه مالاً على الناخبين من الفئات الشعبية، يعبّر عن استخفافه بضمير الناخبين وعن اعتقاده بأن ابن الشعب يمكن شراء صوته لأنه، حسب الزعيم، لا مبادئ له ولا ضمير. أما ابن الشعب، فهو يأخذ الأموال المعروضة وهو بذلك يعبّر عن عدم إيمانه بكفاءة المرشح وجدارته، إذ بأخذه المال يقول صراحة إنه لا يصوّت بقوة ضميره، كذلك يعبّر عن شعوره بأن الديموقراطية المطبّقة ليست صحيحة، بل هي لعبة ومسرحية. وكم يمكن أن نذكر من أمثلة في لبنان والخارج، حيث ينال المرشح الجديد الذي له أفكار عادلة وتاريخ معروف بالنزاهة وخدمة الفئات الشعبية دون مقابل، (وهو ما يفعله بعض الأطباء مثلاً)، الآلاف من الأصوات دون دفع أي قرش ويفوز بكل سهولة على زعيم تقليدي أو وجيه من الوجاهات الغنية التي تنفق الأموال الطائلة في حملاتها الانتخابية.
للشعوب منطقها وهو غير منطق الفئات الحاكمة، خاصة في البلدان حيث انحرفت الدولة الحديثة عن المهمات التي يتطلع الناس إلى أن تقوم بها، في تعادل الفرص وحماية الفقراء وإيصال حقوقهم وحمل قضاياهم. وعند اشتداد الضيق وفترات الاضطراب الداخلي، قد تنقل الفئات الشعبية ما تسمعه في الجو الثقافي ـــــ السياسي العام من أفكار مسبقة أو تبسيطية، وهذا خصوصاً في قضايا التناحر الطائفي ونظرة كل طائفة إلى الأخرى. وهذه مسألة مهمة حَريّة بأن نتوقف عندها، خاصة أننا نسمع مراراً في صالونات بيروت أن الشعب طائفي وأنه متمسك بالتقاليد الطائفية الطابع، وذلك يجعل التطور نحو نظام سياسي علماني صعب المنال. وأهل السياسة والحكم كثيراً ما يقولون في أحاديثهم الخاصة إنهم غير طائفيين إنما بنية البلاد وعقلية شعبها المتمسك بالطائفة هي التي تؤدي بهم إلى مراعاة هذا الشعور وعدم الاصطدام به. وهنا أود أن ألخّص فحوى مشاهداتي وتجاربي في الاحتكاك مع «ابن الشارع» من جهة ومع المثقفين والوجهاء من جهة أخرى.

التمسك بالطائفيّة بين «ابن الشارع» والنخبة

ما يهم ابن الشارع، في طريقة ممارسة الحكم، ليس الانتماء الديني أو المذهبي للحاكمين بل عدالتهم ورصانتهم وحرصهم على تأمين مصالح كل شرائح المجتمع. فما ينفع ابن الشارع إذا كان الحاكم من دينه أو مذهبه لكن حكمه جائر لا يؤمّن استقلال الوطن وازدهاره والعناية بالفئات الشعبية؟
صحيح أننا نسمع في فترات الأزمات الحادة والفتن الأفكار العنصرية والبدائية العدائية الطابع من طائفة ضد طائفة أخرى، غير أن هذه الأفكار نجدها بالكثافة نفسها عند أهل العلم والثقافة والوجاهة التي نجدها في «الشارع»، بل إن ما سمعته في «الصالونات» كان أكثر إيذاءً وشماتة وتزمّتاً في كثير من الأحيان مما سمعته في الشارع. والحقيقة أنني كثيراً ما سمعت في الشارع خلال الأحداث الدامية كلاماً عفوياً مؤثراً بريئاً مفاده أن كل ما يحصل من صنع الزعامات والدول، وأن لا قضية تستحق التفرقة بين المسلم والمسيحي اللذين يعيشان معاًً منذ مئات السنين دون اللجوء إلى مثل هذا العنف الفتّاك.
إن الأفكار المسبقة والنظرة السلبية إلى الآخر من الطوائف الأخرى نابعة من بعض أوجه تراثنا الثقافي الحديث وتشابكه بالتيارات الإسلامية المتناقضة التي كانت جزءاً من احتكاك أوروبا مع الشرق وتبرير الحملات الاستعمارية. وقد ذكرت مراراً في ما سبق تسيّس الطوائف وثقافتها التي أصبحت تتعدى حدود الشعور الروحي، كتطور إحساس المسيحيين بأنهم «ضحية تاريخية» لانتشار الإسلام في ديار المشرق وحكم الأغلبية المسلمة على الأقلية المسيحية؛ وإحساس المسلمين بأن المسيحيين قلبوا كل المعادلات واستأثروا بالحكم في لبنان بمساعدة الاستعمار الأوروبي الذي أغدق عليهم المال وأساليب التربية الحديثة. هذا بالإضافة إلى ما نجده في تراث المذاهب الإسلامية المختلفة من خلافات تاريخية عميقة الجذور بأمور الحكم وبتأويل الرسالة المحمدية الشريفة وبطرق تطبيقها اجتماعياً وفلسفياً.
إن بقاء هذه الأفكار الطائفية السلبية وانتشارها بعنف عند اضطراب الأحوال هما من مسؤولية الفئات المثقفة لا من مسؤولية ابن الشعب الذي لم يتمكن من الولوج بعد إلى العلم والمعرفة. وبقاء الأفكار تلك، بل تصاعدها، جزء من الفشل في إدارة الكيان وتوجيهه في تطوره توجيهاً بنّاءً صحيحاً، بدلاً من تركه في الحبال والعقد التي وصفناها بإسهاب. وإذا انخرط بعض اللبنانيين في الميليشيات المسلّحة الطائفية الطابع، عند المسيحيين في البداية، فقد انتشرت هذه الظاهرة لدى أبناء الطوائف الأخرى وتحولت إلى ظاهرة طائفية عامة أصابت أحزاب الحركة الوطنية ذات البرنامج العلماني. وقد نبع هذا الانخراط من رغبة الجميع في التخلص من العقد والحبال والحلقات المفرغة وتأسيس حياة جديدة متحررة من الكبت والعناء. غير أن هذه التضحيات في الأرواح، التي ولّدت أبشع العنف، وقد وقعت وطأتها على الناس الأبرياء غير المسلحين، وذهبت سدى إذ لم يتعافَ الكيان ولم تتغيّر ذهنية أهل السياسة والحكم، ولم يزل التشابك بين العوامل الداخلية والخارجية يدور في سلسلة من الحلقات المفرغة...
هل يمكن أن تزول الطائفيّة من النفوس قبل أن تزول من المؤسّسات؟
أراني مصرّاً على الاختلاف الشديد مع كل هذا الكلام مهما كانت درجة محبتي وتقديري لأصحاب الموقف الآخر وشأنهم العلمي والثقافي، وذلك لسبب منطقي واحد واضح، هو أن الطائفية لا يمكن أن تزول من النفوس ما بقيت هي أساس كل المؤسسات الاجتماعية والسياسية والقانونية، ما لم تفصل الطوائف عن البنية القانونية والمؤسساتية للبلاد. فالمؤسسات هي التي تعجن ذهنية المواطن، وهي التي تفرز الزعامات. ولا أرى كيف أُغيّر الذهنية، أكانت شعبية، (وأشعر أنها أقل طائفية بكثير في هذه الحالة من تلك الموجودة لدى الوجاهات والنخبة)، أو نخبوية، إذا لم تتغيّر بنية المؤسسات. فالمؤسسات الطائفية والقوانين الانتخابية الطائفية والنظرة الطائفية إلى التاريخ لا يمكن إلا أن تنتج زعامات وفئات مثقفة ذات نظام إدراكي مبني على الإحساس الحاد بوجود الطائفية وأهميتها كركن من أركان الدنيا المحسوسة.
وفي تاريخ لبنان الحديث، أعتقد أنني أوضحت أن المؤسسات السياسية وبنيتها الطائفية الحديثة العهد نسبياً، (أي منذ نظام القائمقاميتين)، هي وليدة التناقضات التي كانت تهزّ السلطنة العثمانية من جراء السياسات الاستعمارية، ثم تحولت عنصراً مهمّاً من الوضع الإقليمي ولا تزال إلى اليوم هذا. فهي لا تجسّد ذهنية شعب، لكنها قائمة على نقاط تشابك بين العوامل الخارجية والتطورات الداخلية التي تدور على نفسها منذ مئة وخمسين سنة دون تحقيق أي تقدم للوطن. وهذا الوضع، لسوء الحظ، مريح جداً لأهل السياسة، فالمنافسة تحصل ضمن الأطر الطائفية الضيقة بمكوناتها المناطقية والعائلية، (والمالية اليوم)، وقواعدها سهلة وبسيطة، خاصة عندما ينشأ جو عام من التخوّف من العلمانية ومن المساس بالنظام الطائفي، وحين لا أثر لمبدأ المحاسبة والمسؤولية نظراً للضبابية العامة في الثقافة والفكر، ولاستحالة الرؤية خارج الأطر التقليدية.
والظريف في الموضوع أن الكثير من الشخصيات التي تعي خطورة البقاء على هذا الوضع وضرورة الانتقال إلى مجتمع لاطائفي، تتجنّب التفوّه بكلمة «العلمانية»، مع أن صقلها لغوياً من عمل شيخ جليل له مكانة رفيعة في الأدب والفكر في لبنان، هو الشيخ عبد الله العلايلي. وأنا أتساءل بقلق كيف ندّعي الإصلاح ونحن نخاف من التفوّه بكلمة «علمانية»؟!

* وزير لبناني سابق