يقف الرجل أمام الكاميرا، ويمرّر يده على شعر رأسه، وهو يردد: هرمنا، هرمننننا، بانتظار هذه اللحظة التاريخية. لم يكن ذلك التونسي يتصور أنّه سيتحول إلى أيقونة لنا جميعاً، نحن الذين أدمنّا الأمل. هرمنا، وتسلل الإحباط إلى نفوسنا، وصرنا لا نرى في العالم العربي غير الانكسارات والخيبات. كان لتلك الصيحة الطقسية صداها، وكأنّ الكلمات تعود الى قوتها ومعانيها، حين يصحو الخيال. لقد بدت هذه العفوية القصوى تحمل قدراً هائلاً من الاستقامة والقوة التي ينشرح لها صدر الإنسان الآخر، لأنّها جارحة بميزان استنكار رجل بسيط ومستقيم، لم يكن يجرؤ على الكلام مباشرة طيلة حياته. بل هي أكثر من ذلك، عندما تبثّ قدراً أقل رياءً من العواطف الكبيرة البسيطة والخالدة التي يدور حولها حب الحياة، وهي تأتي من الغابات العذراء لتنمو في أعماق الإنسان وتنحت مصيره.
يمرر الرجل أصابعه على شعره الذي شاب، كأنّ حياته صارت دفعة واحدة بين يديه، ولذا كان يغص بكلمة آتية من عمر مهدور: هرمنا! ليست هناك حقيقة لا تحمل معها مرارتها، ثم تلي حسرته صرخة تونسي آخر: بن علي هرب. صيحة حجرية عظيمة يتردّد صداها بين الأرض والسماء، صمت مليء بالشعر، صحو لا مثيل له يشبه الأمارات الحقيقية للجمال. القلب ينقبض أمام هذه اللحظة الفريدة، ويتحدّد الزمن بها حين يستتب الصمت. شوارع قصيرة ومعتمة نحو قلب المدينة المقفرة، تماثيل الديكتاتور الهارب يحيط بها ديكور غريب من الصمت البارد والحجارة. لقطة سينمائية، تلعب فيها الألوان دوراً خاصاً، وتضفي عليها غرابة وسحراً. لون منع التجول والشارع الخالي، الذي يتردد في زواياه: بن علي هرب...بن علي هرب... ويعود الصدى من قاع بئر عميقة، حفرتها سنوات الخوف الطويل، ويسقط مثل مفتاح في قفل صدئ لباب حديدي كبير، يحبس الحياة خلفه. بن علي هرب، لحظة خارجة عن السياق تنفتح فيها الحياة مثل فم أو جرح، ولا بد للمرء من أن يعيش حقبة طويلة في مدينة يسكنها الرعب وليس لها عزاء، حتى يفهم أي أثر يمكن أن تحدثه الحرية. إنّها ملذّة لا دواء لها، تتطلب أن يقوم الإنسان بفعل صحو، مثلما يقوم بفعل إيمان وحب.
استخدم الرجل التونسي صيغة الجماعة، لم يقل هرمت، بل هرمنا، كأنّه يتحدث إلى جمع غفير من وجوه منقولة بعضها عن بعض إلى ما لا نهاية. لقد تحدث بلساننا جميعاً، وطفرت عيناه بما في قلوبنا جميعاً من دمع، اختزنّاه بانتظار هذه اللحظة. لحظة أحسسنا فيها بأنّنا نشاطر هذا التونسي الشرف الجميل، ليس بفرط العاطفة وحده، بل على العكس، بسبب الهرم على حساب الأمل وراء الجدران الحديدية التي احتفظت بقسوة الموت في ترسانة القمع. أراد ذلك التونسي، الذي ظهر من الغفلة أو الحاضر الأبدي، أن يرمز الى ماضينا جميعاً، أو ما يمكن أن نسميه الجحيم العربي، حين كان كلّ شيء في حياتنا يتجاوزنا. فرحنا معه، لأنّه استدعى لحظة لم يكن فيها أنانياً، ولم نصدق أنّ بن علي هرب، وقلنا في أحلامنا المهدورة إنّ هناك أياماً تكذب فيها الحقيقة. ظللنا نحلم حتى رأينا حسني مبارك ينسحب كالتسماح العجوز، ويرتمي على شاطئ النيل الذي فاض فجأة، ليلفظ من داخله عفونة ونفايات ثلاثة عقود، ضاقت فيها الحياة بأهل مصر الفقراء. فقراء أوصل العوز بعضهم إلى السكن في المقابر، كأنّهم يصلون الحياة بالموت، وهم يعيشون حياتهم عقوبة، وعذاباً رهيباً، مادياً ومعنوياً.
لم نعد نريد أن نكذب على أحد أو يكذب علينا أحد، فنحن نتشبث بأن نعيش الصحوة حتى الثمالة. عانقنا اللحظتين التونسية والمصرية، ونحن نحلم بأنّنا استعدنا شبابنا وتجاوزنا حالة الهرم، وقرّبنا المسافة التي باتت تفصلنا عن العالم، لندخل إلى فرح الإنجاز الكبير في عالم أضعناه إلى الأبد. ها هو الشعب الذي نسيناه في غمرة ثوراتنا الدونكيشوتية يلتقط المبادرة لكي يحررنا من الاستسلام، ولم نكن ندرك أنّ هناك من يخبئ لنا مفاجآت. ظننّا أنّ الثورة عملية تتجاوزنا، وأنّنا فشلنا في الوصول اليها لنقص كامن فينا فقط نحن الذين اغتربنا عن الواقع.. ولم نحسب حساب الغول النائم الذي عاش على الغرائز الدموية، حتى وقف العقيد معمر القذافي وأولاده على المسرح.
ظهر سيف الإسلام القذافي ليهدّد باستخدام القوة، ودون خجل، صوّر الشعب الليبي بأنّه عبارة عن مجموعة من متعاطي عقار الهلوسة، وتلاه والده، الذي يحلو له لقب ملك ملوك أفريقيا، لكي يتلو خطبة التطهير، بيتاً بيتاً، وزنقةً زنقةً، وفرداً فرداً. لم يكن أحد يتصور أنّ العقيد وأولاده سوف يتحولون إلى كتيبة من الذئاب، بل ساد الاعتقاد أنّهم سوف يلتقطون الرسالة من بلدين جارين، تونس ومصر، ويتركون الشعب الليبي وشأنه. إلا أنّ العقيد وأولاده، أصحاب الرؤوس الحامية، ذهبوا إلى الحرب بحملة دعائية، كالحملات التي كانت تسخرها الجماهيرية للقروض والمساكن الشعبية وترويج الكتاب الأخضر، وهم يعرفون أنّ حياة الليبيين، على مدى اربعة عقود، ما كانت تسير في الهواء الطلق، بل في باحات السجون.
الشعب الليبي لم يهرم فقط، بل كاد أن يختفي عن الخريطة كلياً. لقد ترسخ في أذهان العالم أنّ ليبيا تحوّلت الى صحراء من جراء حكم العقيد الذي دام 42 سنة. ولو لم تحدث الثورة، ويخرج الليبيون الى الشوارع، لما رأينا أشكالهم، ونتعرف إلى قسماتهم التي تتحدث جلياً بأنّهم نالوا كلّ سوء من حكم العقيد. بفضل هذه الثورة، تعرفنا إلى بشر مثل الآخرين. نساء ورجال وأطفال، يريدون من العالم أن يراهم وهم يخرجون من الكهف. الامتحان أكّد أنّ العقيد وحده لم يهرم، بقي يحتفظ بطاقة استثنائية على نفي الليبيين من الحياة. كان الرجل يحيى في عالمه الخاص. أبان عن نموذج استثنائي للطاغية الذي لا يريد أن يصدق أنّ العالم تجاوزه، ولا يمكنه أن يقتنع بأنّ هذه البلاد ليست ملكه وحده، وهؤلاء الذين يعيشون فوقها ليسوا شعبه، بل هم عصابات من الأوغاد، الذين يستحقّون أقسى عقاب لأنّهم تجرأوا على رفع رؤوسهم التي طأطوها طيلة هذا الزمن، وهم يهتفون له بصوت أصمّ، بإذعان الببغاوات العمياء، في حفل يفتقر الى الحبور.
نجح العقيد، عن سابق إصرار، في أن يعكّر علينا فرح الرعشتين التونسية والمصرية، ويحوّل العرس الشعبي إلى مأتم طويل. من يمعن النظر في المشهد الليبي يُصب بالرعب. هو الخراب ذاته الذي خلّفه صدام حسين وراءه،حين ترك بغداد للأميركيين، وذهب لكي يتخفى في حفرة. فتح يومها مخازن السلاح، وتركها نهباً لشعب حطمه وأشاع في صفوفه كل النزعات الانتقامية والنعرات الثأرية. كان يريد أن يقول، لا حياة للعراق من بعد صدام، ولا بد من مذابح دائمة، لكي يرتدع الشعب. أنا أو الفوضى، رددها بطل الضرورة، مرات عدّة، قبل أن يتسلل من الباب الخلفي، بما لا يليق برجل وطني، بل بشقي لا يستحقّ سوى العار.
مشهد رجل عراقي هرم يقف أمام كاميرا تلفزيون «سي إن إن»، تبدو على وجهه علامات الإعياء، وهو يحمل بيده زجاجة ماء التقطها من شاحنة عسكرية أميركية. يشرب الماء كما لو أنّه يستردّ الحياة بعد معاناة طويلة. عطشان في بلاد الرافدين، كأنّه في الربع الخالي. توحي ملامحه بأنّه قدم من بلاد المجاعات، لا من بلاد طافحة بالنعمة. يسأله الصحافي الأميركي عن رأيه باحتلال أميركا لبلاده. يصمت ثم يطرح سؤالاً مضاداً: لو لم تُسقط أميركا صدام، فمن كان سيخلّص العراقيين منه؟
العقيد القذافي ليس ببعيد عن شبيهه الرئيس العراقي الراحل. برع كلاهما في احتقار شعبه وازدرائه، إلى الحد الذي لا يرى فيه غير فضل الله على هذا الشعب بأنّه منّ عليه بهذا القائد العبقري، الذي لا يستحقّ أقل من تخليده، وبناء تماثيل له حتى في غرف النوم. راعي سرت، كما ابن عشيرة التكارتة الأشاوس، استدرج كلّ ما يمكن أن يفسد اللحظة الجميلة التي حملها الى العرب الموت الدراماتيكي للشاب التونسي محمد البوعزيزي. لحظة الولادة النادرة من رحم آلام العرب وخيباتهم، وتوقهم إلى معانقة أشواق العصر الجديد، حوّلها القذافي الى عاصفة دموية. وفجأة، وجد المعذّبون الليبيون الذين حلموا باسترداد بلادهم، أنفسهم وسط لعبة تتجاوزهم، إلى حلف الأطلسي والإرهاب والقاعدة والقبائل وشرق وغرب، والتدخلات الأجنبية، التي تتكالب من حول ثرواتهم الخرافية. لخّص القذافي علاقته بشعبه كمن يتسلم شخصاً حراً يوضع تحت تصرفه المطلق، فيمعن في تدميره وإذلاله. قال لهم «أنا لست رئيساً، ولو كنت كذلك لرميت الاستقالة في وجوهكم». أراد أن يقول إنّه جاء بمرسوم من العناية الإلهية، وإنّه بدونه ستحل الفوضى وتضمحلّ ليبيا.
سيسجّل تاريخ الثورات العربية للعقيد القذافي براءة اختراع حرف البوصلة عن اتجاهها السليم. فبدلاً من أن يترك الشارع يذهب في خياره الديموقراطي نحو مداه، مثلما حصل في تونس ومصر، حرفه من سحره العفوي الى الأهوال البدائية وحمامات الدم. حمامات ستغرق الاحتجاجات الشعبية، وستجرّ ليبيا إلى السيناريو العراقي الذي تحلّ فيه مرارة الاحتلال محل فرحة رحيل الطاغية.
عقيد آخر لا يقلّ تعقيداً هو الرئيس اليمني علي عبد الله صالح الذي لم يوفر وسيلة لقتل خصومه ومنافسيه إلا جرّبها، لا حديثة ولا بالية، من السم والخنجر، حتى كواتم الصوت. فرّغ البلد من نخبه السياسية لكي يبقى جالساً على الكرسي، وبدلاً من أن يكفّر عن سجله الأسود ويرحل، ها هو يطالب بأن يبقى رئيساً شرفياً لليمن، وكأنّ البلد نادي رياضة، أو مؤسسة مصرفية. يريد أن يبقى رئيس مجلس ادارة للوطن الذي حوّله إلى مؤسسة عائلية، كان يعمل على توريثها لنجله، وأبناء إخوته. ومنذ أن ضاق الخناق حوله، وأيقن أنّه سوف يفقد السلطة، تحوّل الى مجنون مصاب بنوبة حقيقية من الهذيان العصبي، متعكر المزاج طيلة الوقت. ولم يعد يهتمّ حتى بصبغ شعره، فبان البياض الكثّ، وتسرب الهرم الى ملامحه دفعة واحدة، والحال أنّنا، خلال ذينك الشهرين، تمكّنا من رؤية عيني الرئيس شاخصتين دائماً بنظرة رعب، وكأنّهما تسألان صفحاً. يشي وجه الرئيس اليمني بأنّ الطرد من السلطة عبرة، بل تبدو جراحة غليظة بكلّ ما فيها من عبرة. لذا، على الشارع أن يطيل أمد بقائه في السلطة، لكي تتاح للناس رؤية تلك التفاصيل، حتى لا يكون أحد على جهل بهذه العبرة، ولكي يزهد الناس جميعاً بالسلطة. ليس هناك عقاب أقسى من هذا العقاب، فهو متوّج بأزهار البلاغة. فالذي ظلّ يحلق ذقنه كلّ صباح، طيلة 32 عاماً، وهو يفكر بقتل الناس، من المناسب والعبرة أنّه سيلقى العقوبة أمام جميع من يحلقون أذقانهم صباحاً.
* من أسرة «الأخبار»