عندما خرجنا من سجن وادي النطرون، كانت آثار «جمعة الغضب» واضحة. نزل الجيش مساء الجمعة عقب سقوط مئات الشهداء، وفشلت قوات الشرطة في منع تظاهرات آلاف المصريين الذين تدفقوا إلى الميادين والشوارع الرئيسية في كافة مدن مصر.قاد عمر جمال، زوج ابنتي الكبرى سارة، السيارة بسرعة وأنا بجواره، ورأينا على الطريق الصحراوي، من مدينة السادات إلى مدينة 6 أكتوبر، آلاف المساجين بملابس السجن الزرقاء، يحملون أمتعتهم ويستوقفون أي سيارة نقل لتحملهم. ترفض الأغلبية، ويرقّ قلب القليل النادر، فيستمرون في السير وعليهم ملامح الإعياء الواضح، ويتساقطون على جانبي الطريق.
عندما وصلنا إلى بوابة الرسوم، رأينا دبابات ومصفحات الجيش تسد الطريق، فاتجهنا إلى الطريق الجانبي المتجه إلى مدينة أكتوبر. كنت بملابسي العادية لأنّنا لم نمكث فى السجن إلا ليلة واحدة، ولم يكن معي بطاقة هويتي. لكن، كان برفقتنا زوج ابنتي الوسطى سمية محمد عبد الناصر، وهو طبيب جراح له حق التنقل بحرية أثناء حظر التجول.
لم يتوقف عمر واستمر في السير، ولم يستجب لمحاولات توقيفنا، لعله خشي أن يتعرفوا على شخصيتي من جراء ظهوري المتكرر في الإعلام، فيعيدوني إلى السجن من جديد، أو تتأخر إجراءات عودتي إلى البيت أو وصولي إلى المكتب الذي كنت قد قررت الذهاب إليه مباشرة.
أطلق الجنود الرصاص باتجاه السيارة، لم نفزع أو تهتز أعصابنا، إذ كانت الطلقات في الهواء، أسرع عمر وبدأنا نتنفس الصعداء.
عقدنا، نحن أعضاء مكتب الإرشاد السبعة، اجتماعاً مغلقاً قصيراً، عقب تناول الغداء في مدينة السادات، لنرتب إجراءات تأمين وصولنا، ثم توزيع المهمات علينا. كان نصيبي أن أذهب مباشرة إلى مكتب الإرشاد.
اكتفيت بالاتصال بزوجتي وأولادي للسلام عليهم والاطمئنان عليهم، وأمهلتهم بضعة أيام أخرى من الغياب، حسب الظروف، حتى نلتقي من جديد ويلتئم شمل الأسرة.
كنّا على ثقة من اجتماع الشمل من جديد، فلحظة القبض عليّ، قال لي محمد عبد الناصر، زوج سمية، «لا تقلق يا عمي، كلّها يومين، إما أن تعود إلينا من جديد أو نأتي نحن إليك في السجن». وقال محمد رسلان، زوج صغرى بناتي أسماء «لا يا عمي كلّها فقط يومان وستعود إلينا بمشيئة الله».
اتجهت مباشرة إلى المكتب دون المرور على أسرتي، وطلبت منهم إعداد حقيبة بملابس أخرى لتغيير ما ألبسه منذ 3 أيام.
رأيت مشاهد الغضب في كلّ الطريق، مجمع «هايبر وان» التجاري محطم ومنهوب، الشوارع تكاد تكون خالية، الكمائن العسكرية على مفارق الطرق، وفى الأماكن الحساسة. كانت آثار يوم الجمعة المشهود واضحة للعيان.
حكى لي أولادي وأزواج بناتي عن وقائع يوم الجمعة العظيم، الذي نستطيع القول إنّ الثورة بدأت به تشق طريقها نحو الانتصار.
السبب الرئيسي للتحول العظيم يوم 28/1/2011 يعود إلى اعتبارات عدّة:
أولاً: انضمام الشعب بمئات الآلاف إلى التظاهرات.
ثانياً: توّحد الشعب تحت شعار ملهم، هو «الشعب يريد إسقاط النظام». ويقال إنّ شاباً من «ناهيا»، البلدة التي نشأت بها، هو الذي أطلق الشعار، مستلهماً التجربة التونسية، وذلك أثناء توجه التظاهرات القادمة من شارع ناهيا إلى شارع جامعة الدول العربية، في اتجاهها إلى ميدان التحرير.
ثالثاً: اتساع التظاهرات إلى كافة أنحاء القطر المصري، من الإسكندرية إلى أسوان، وقد كان للإخوان دور كبير في تحفيز الشعب للخروج العظيم، وترك المطالب الفئوية الاجتماعية، والاتحاد خلف مطلب سياسي واحد.
رابعاً: غباء النظام عندما تصدى بقوات الشرطة والأمن المركزي للتظاهرات التي لم يكن في مقدور أي قوّة منعها، وإطلاق الرصاص الحي على الشعب المصري، ثم سحب الشرطة ونزول الجيش، وإصدار مبارك الأوامر للجيش بمنع التظاهرات بالقوة. أمر رفضه الجيش تماماً، ما أدى إلى اتساق نطاق التظاهرات التي تحوّلت إلى اعتصامات بالميادين الرئيسية في القاهرة (التحرير) والإسكندرية والمنشية.
خامساً: التزام القوى السياسية ووحدتها، إذ لم يرفع أحد أي شعارات أو أعلام خاصة، باستثناء ما رأيته من تظاهرة لحزب الوفد ترفع أعلاماً وفدية.
سادساً: نجاح ائتلاف شباب الثورة في التماسك وبروزه كقيادة ميدانية. وقد نجح الإخوان بالتنسيق معه عبر لجان متعددة للإعاشة والإعلام، دون أي بروز إخواني.
وإذا كانت هناك أيام سيؤرخ فيها لثورة مصر فهي: 1) 25 يناير/ كانون الثاني، بداية التظاهرات الغاضبة؛ 2) 28 يناير/ كانون الثاني، جمعة الغضب وسقوط الشهداء؛ 3) 2 فبراير/ شباط، موقعة الجمل وحماية الثورة؛ 4) 11 فبراير/ شباط، يوم تنحي مبارك وبداية الانتصار (ليلة ذكرى استشهاد الإمام الشهيد حسن البنا)؛ 5) 19 مارس/ آذار، يوم الديموقراطية والاستفتاء، عندما خرج 18 مليون مصري لأول مرة في حياتهم للتصويت الحرّ النزيه؛ 6) 13 إبريل/ نيسان، يوم سجن مبارك وأولاده، وانتصار سيادة القانون.
بدأ الاحتشاد يوم الجمعة عقب الصلاة، فتوجهت التظاهرات من كافة أنحاء محافظة الجيزة إلى الميادين التي شهدت ملاحم الإصرار والتحدي.
توجه ابني إبراهيم من مسجد عكاشة بالهرم إلى نفق الجيزة، مع بضع مئات استطاعوا بسهولة إزاحة أول تجمع من قوات الشرطة عند النفق. لكنّهم فوجئوا، عند ميدان الجيزة، بحشود أمنية هائلة، الظاهر أنّها كانت محتشدة لمنع الدكتور محمد البرادعي من صلاة الجمعة في مسجد الاستقامة بالميدان، وهو ما كنا اتفقنا عليه ليلة الجمعة.
استطاعت الآلاف التي تدفقت إلى الميدان من الجيزة القديمة وجنوب الجيزة والهرم، اجتياح الشرطة، وسقط بعض المصابين. واتجهت التظاهرة إلى شارع مراد (الجيزة) ووحدت الحشود أكثر فأكثر عند سفارة العدو الصهيوني. وكان الانطباع بأنّ حماية السفارة أهم بكثير من حماية النظام الذي اتضح للجميع الآن أنّه إنما بقي واستبد وطغى وتكبر، لحماية العدو، ولا لحماية لمصالح الشعب.
اتجهت التظاهرة إلى ميدان «الجلاء». لم تجد صعوبة في الوصول إلى الميدان، وهناك بدأت ملحمة جديدة. تجمعت آلاف مؤلفة قادمة من كل الجيزة تريد أن تتجه إلى ميدان التحرير، قبلة المتظاهرين والملايين.
الطريق من الجيزة إلى القاهرة إلى قلب ميدان التحرير، يمر عبر جسر الجلاء، ثم مروراً بجزيرة الزمالك، إلى جسر قصر النيل، انتهاء بميدان التحرير. هناك كانت ملحمة كبرى، دارت بين إصرار الآلاف على المرور وتصدي الشرطة لهم، تقدم وتأخر، إطلاق رصاص في الهواء للتخويف والإرهاب، وسقوط مصابين نتيجة التدافع تحت الأقدام.
يحكي لي ابني إبراهيم، أنّ عامة الشعب، وخاصة الشباب، كانت بهم طاقة هائلة وإصرار عجيب وعناد ثابت للمرور. لم يكن يهمهم شيء، يواجهون الموت بصدور عارية.
السياسيون ذابوا وسط الآلاف، ولهم خبرة في مواجهة الشرطة، والشباب ليس لهم انتماء سياسي، ودون تلك الخبرة، لذلك انتفعوا ببراءتهم الأصلية، وهزموا جحافل الشرطة. هذه الأخيرة تعودت على مواجهة تظاهرات السياسيين المحدودة العدد والهوية، المتفق سلفاً، ضمناً أو صراحة، مع الشرطة على كل التفاصيل.
سألت ابني إبراهيم، هل سقط وسطكم شهداء؟ قال لي: «لا، لم أتعرف على شهداء، لأنّ غالبية الشهداء سقطوا عندما توجهت تظاهرات أخرى في اتجاه وزارة الداخلية، وهى من الجهة الأخرى لميدان التحرير، تريد القبض على العادلي وكبار رجال الوزارة للقصاص منهم».
أكثر الشهداء، كما أرى حالياً من الإعانات العاجلة التي تقدمها لهم نقابة أطباء مصر، سقطوا في المحافظات بالدلتا: الشرقية، الدقهلية، المنوفية، الغربية، والإسكندرية، والسويس.

* قيادي في جماعة الإخوان المسلمين في مصر