أمام ثورات العالم العربي، يبدو المشهد اللبناني باهتاً أكثر من أيّ وقت مضى. ولعلّ المفاجأة الوحيدة، وهي مفاجأة غير سارّة، هي قدرة هذا البلد الصغير على مفاجأتك دائماً بكم هو عصيٌّ على التغيير. فباستثناء تظاهرات متواضعة تحت شعار عام يدعو إلى «إسقاط النظام الطائفي»، يسود رضى جماعيّ عن إمساك أمراء الطوائف بطوائفهم. بمعنى آخر، ينعم البلد بغياب الديكتاتور، فيعدّ نفسه غير معنيّ برياح التغيير، ما دام اللّه قد أنعم عليه بديكتاتوريّين صغار يمنحون طوائفهم كامل الحريّة ما داموا محبوسين داخل القنّ، يردّدون بفرح أصوات البَقْبَقْبقيق.لكنّ النظام الذي لم تهزّه الحروب الأهليّة وما يوازيها خطورةً، بات يئنّ تحت وطأة نقص السيولة. كأنّ لعبة تقاسم الجبنة القديمة لم تعُد متاحة. الهجوم على المشاعات حيث «الشاطر بشطارته» يتمكّن من تسوير قطعة أرض وادّعاء ملكيّتها، تماماً كما فعل المهاجرون إلى «العالم الجديد»، يشير إلى زوال القدرة على توزيع الثروة من داخل الدولة، ما دفع البعض إلى توزيع ممتلكات الدولة نفسها.
والواقع أنّ النظام حاول في السابق التحايل على شحّ موارد الدولة وتعاظم مطالب الطوائف، فلجأ إلى لعبة الدين العام الذي لم يموّل الإعمار كما هو شائع، بل موّل عمليّة رشوة زعماء الطوائف كي يصمتوا عن النهب المنظّم الذي جرى تحت شعار «الإعمار» نفسه، والذي تمكّن من قيادة توزيع الثروة إلى أصحاب المصارف والمضاربين العقاريّين. وها نحن، أسوة بدول كثيرة، عالقون في حلقة الدين المفرغة، حيث تتبخّر موارد الدولة في خدمة الدَّين، وتتبخّر معها قنوات التوزيع الرسميّة وغير الرسميّة.
وفي حمأة الصراع بين فريقَيْ 8 و14 آذار، لم يُشغَل أحد طبعاً بخلق فرص عمل جديدة، فيما أسهمت أحداث داخليّة وخارجيّة في سدّ أبواب الهجرة أو الحدّ منها، وخصوصاً في الإمارات العربيّة المتّحدة وسائر الخليج، وفي بعض مناطق أفريقيا.
إذاً، تراجعت فرص العمل، أبواب الهجرة لم تعد مشرّعة، الاستدانة للتوزيع لم تعد متاحة، موارد الدولة تمتصّها الفوائد. لكنّ كلّ ذلك لا يستدعي التفكير في إسقاط النظام أو إصلاحه. لبنان يرحّب بكم.