تبدو السياسة السعودية كأنها داخلة في حرب ضروس ضد زحف الثورات الشعبية العربية. والسبب مفهوم. فالحكم السعودي يخشى اقتراب النار من بيته، ومن حرق حكم العائلة، في بلد يمتاز عن كلّ دول العالم بأنّ اسمه مشتقّ من اسم عائلة تحكمه، وكأنّ كلّ السكان لا شيء يميّزهم، لا من جغرافيا ولا من تاريخ، إلا أن يكونوا رعايا ومن بقية أملاك العائلة التي تفرض عليهم اسمها، وتحتكر السلطة لأمرائها، وتأخذ نصف الثروة فوق البيعة.فزع العائلة السعودية من الثورات غريزيّ وتاريخي معاً، وكلّنا يتذكر ما جرى في الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين. فقد توالت وقتها موجات وانقلابات حركات الضباط الأحرار، وتحول بعضها إلى ثورات سياسية واجتماعية فوارة، وظهرت حركة القومية العربية مؤثرة على مسرح الحوادث، وبدا أن الحياة العربية تتغير على نحو عاصف كاسح، وأن المنطقة تخرج من معادلات القرون الوسطى الكسيحة، وتهدد الممالك التي وجدت سندها وحاميها في عواصم الاستعمار. وكانت الثورة المصرية في القلب مما يجري، وبدت أقواس حركتها للشام واليمن، ولحركات تحرير على حواف الخليج العربي. بدت أقواس حركة الثورة المصرية كأنها تحاصر مملكة العصور الوسطى في الرياض.
ونشأت حركة الأمراء الأحرار من أبناء العائلة السعودية ذاتها، وبدت مملكة العائلة كأنها في مهب ريح، ولم تجد سنداً في بقاء بغير عون صريح من القوة الأميركية الحارسة لمصالحها البترولية، التي دعمت انقلاب السادات على اختيارات ثورة عبد الناصر بعد حرب 1973 وانطفاء شعلة الثورة العربية وانحسار دور مصر القيادي، وأفسحت الطريق لسيادة العصر السعودي الذي بدا ممهّداً ـــــ بطبع الركود فيه ـــــ لزحف العصر الإسرائيلي فالأميركي، إلى حدّ بدت معه جامعة الدول العربية مجرّد وكالة إضافية تابعة للخارجية الأميركية.
في السياق نفسه، بدا التحوّل السعودي ظاهراً في صورة أنظمة الحكم، وساد الحكم بالحق العائلي مشرقاً ومغرباً، وتحوّلت الجمهوريات الناشئة إلى ملكيات، على ذات الطريقة السعودية؛ عائلة تحكم ومن حولها طائفة من مليارديرات المال المنهوب، ومن تحتها خازوق أمني متضخّم ومتورّم، وطوائف دروشة دينية وسياسية، تسبّح بحمد العرش، وتدير حملات مدفوعة الأجر السعودي لتحطيم ذاكرة الأمة، وتكفير الثورات، والتذكير بفضل خادم الحرمين، وفضل خليفة المسلمين الساكن في البيت الأبيض، الذي يذود بجيوشه وحاملات طائراته عن حياض الممالك، ويقصف الثائرين والمتمردين.
بدا الحكم السعودي كأنه يريد أن يثأر لنفسه، على طريقة الإغراء بالولائم البدوية، وبمليارات فوق مليارات من فوائض البترول هذه المرة، تجتذب إليها طوائف من المتاجرين بالدين والسياسيين المترفين والإعلاميين الكتبة والكذبة. وتكوّنت إمبراطورية ضغط هائلة، جهدت في تجريب نفوذ قديم لدى جماعات الإخوان المسلمين، لكن القصة تعثرت كثيراً، واتجهت جماعات من الإخوان إلى معارضة نظم الحكم بالحق العائلي، فيما مالت جماعات أخرى إلى الالتحاق بخط المقاومة المسلحة للاستعمار الأميركي ـــــ الإسرائيلي، وخرج الذين دعمتهم العائلة السعودية في حرب أفغانستان عن طوعها، وتحولوا إلى عدو مشترك للأميركيين والعائلة السعودية معاً. كاد السحر ينقلب على الساحر، ويدفع الحكم السعودي إلى مزيد من الالتصاق بالحماية المباشرة للأميركيين، إضافة إلى الخوف من النفوذ الإيراني الراديكالي، وطرقه السالكة إلى دعم جماعات المقاومة الإسلامية على خط القتال في فلسطين وفي لبنان.
ومثلما فوجئ الحماة الأميركيون بالثورات الشعبية العربية، وبعنفوانها واندفاعها الكاسح، ونجاحها المذهل في خلع عروش العائلات، مثلما فوجئ الأميركيون وأخذوا يضربون أخماساً بأسداس، فوجئت العائلة السعودية التي تكره كلمة الثورة بالخلقة، وتتخوف من دواعيها المهددة لحكم العروش والكروش. فالثورات هذه المرة أتت من حيث لا يتوقعون. لم تأت بانقلابات الضباط الأحرار، بل بحركة الناس الأحرار، وبنزح طوفاني من آبار غضب مختزنة، وبدواعي شعور عميق حارق بالمهانة، تدفقت معه الملايين الغاضبة إلى الشوارع، في ما بدا أنه حكم الأقدار الذي لن يذر عائلة تحكم بالغصب، حتى لو ظنت نفسها في بروج مشيدة، وفوق تلال من مليارات بل تريليونات المال المسروق، وفي حمى سلاح أميركي ثبت أنه لا يقدر حتى على حماية مؤخراته، ولا على حماية رجاله في لحظة الخطر.
ولم يكن للحكم السعودي أن يتصرف بغير الطريقة التي يعرفها، والتي تتجنّب كل معنى للإصلاح أو التغيير، خشية الزوال، وتؤثر أن تدفع المال دفعاً للخطر، وتفضّل التوقيع على دفتر الشيكات، وكان الشيك الأول من نصيب الشعب في السعودية. فقد دفعت العائلة من حسابها ثلاثين مليار دولار في صورة معونات عاجلة، وعلى ظن أنها تهدّئ النفوس، وتتجنّب مصير عائلة بن علي في تونس. لكنّ الشعور بالقلق راح يجتاح صفوف الآلاف من أمراء العائلة السعودية. فقد قفزت الشرارة فوق الحدود، ونشبت الثورة في مصر، حيث تكتب مصائر الأمة من جديد، بأيدى الناس هذه المرة لا بأقفال الحراس.
كان انتقال الثورة من تونس إلى مصر مثيراً لرعب العائلة السعودية، ونشطت الاتصالات في الكواليس، وتوالت جهود الضغط المحموم، وفتحت الرياض دفتر الشيكات ثانية، وبدا التحرك العائلي السعودي منسّقاً بالكامل مع الأميركيين مباشرة، ومع الإسرائيليين من وراء ستار. بدت حملة إنقاذ مبارك مموّلة سعودياً بالكامل، لكنّ الفشل كان من نصيبها، فهي لا تفهم لغة الثورات، وحظها من العلم محصور في أرقام الثروات. فقد خُلع مبارك رغم عرض الخمسة مليارات دولار، وصدر قرار حبسه رغم التهديد بطرد مليون مصري عامل في الديار السعودية، ودفع الفشل عائلته إلى تصرفات انتقامية مكشوفة، بينها دفع جماعات من السلفيين ـــــ المموّلين سعودياً ـــــ إلى إشعال النار في مصر.
وفي المحصّلة، يبدو الفزع السعودي غريزياً، وبدواعي حفظ الملك العائلي العضوض، والمنقطع الصلة بصحيح الإسلام، وجلال تعاليمه. فالإسلام لا يسوّغ الظلم، ولا يقبل نهب الثروات، ولا جعل الحكم حكراً على شخص أو عائلة. وقد جاءت ساعة الحساب، بإرادة الشعوب التي هي من إرادة الله، وبالصمود الباسل لملايين الناس ذوي الصدور العارية، والنفوس المعبأة بأشواق استعادة الكرامة الإنسانية، وبحسّ هائل للتضحية تسيل معه دماء الشهداء بالمئات والآلاف، وبتصميم قاطع على كسب الحرية، وتحطيم نظم الحكم الديناصورية، وخاصة أن قانون المنطقة ذاته يسري هذه المرة كما في كل مرة. فقد تناسلت ثورة مصر في ثورة اليمن، وقبلها في ثورة البحرين، وبعدها في ثورة الشام، وفي ثورة ليبيا المأزومة الآن، وفي انتفاضات الأحرار من بغداد إلى مراكش، والعظة ظاهرة. فما يجري في مصر يؤثر بشدة في عواصم العرب كلها، ويخلق روحاً ثورية جديدة تنتصر لحلم بناء جمهوريات وطنية ديموقراطية، وتقيم حكم الشعوب، وتقصي حكم العائلات، ولن تكون عائلة الرياض في منأى ولا في منجاة، فالثورة الآن على الحافة السعودية، وآتية من جبال اليمن.
* كاتب مصري