مرّة جديدة، تثبت بعض أطياف المعارضة السورية (غير الوازنة طبعاً)، أنّها لا تقلّ غباءً عن النظام الذي تدّعي معارضته. تلك ليست افتراضات، بل هي معطيات أثبتتها الوقائع الجارية على الأرض. طبعاً، الحراك الشعبي هو خارج هذا الاستقطاب تماماً. وهذا ما يفسّر قدرته الفائقة على تجاوز النظام والمعارضة معاً، وحشرهما في الزاوية، كلما أرادا له أن ينزلق إلى قعر ما. فمثلاً، رفع بعض المتظاهرين في منطقة تلكلخ (وهي منطقة تابعة إدارياً لمحافظة حمص) أخيراً شعاراً يقول: «ثورتنا ثورة شجعان لا أميركا ولا إيران». والأرجح أنّ صياغة ذلك الشعار لم تأت من فراغ، فإيران، كما نعلم، هي حليفة النظام الذي يعترض المتظاهرون على بنيته الأمنية وسحقه للاحتجاجات. أما أميركا، فهي راعية الجناح الكولونيالي من المعارضة، بحسب ما كشفته لنا أخيراً وثائق ويكيليكس. وحتى لا يُسقط المرء إرادويته اليسارية على الحركات الاحتجاجية، ويصادر تأويلات شعاراتها سلفاً، يجب عليه الاعتراف بأنّ التصويب على أميركا وإيران في بعض الشعارات قد أتى في سياق مغاير تماماً لما اعتادته تقسيماتنا المدرسية الساذجة. سياق يتقصّد دفع التهمة بالأمركة عن الذات، وإلباسها للنظام. هنا، لا وجود ملموساً لنقمة مماثلة على ارتباطات أجنحة معيّنة في المعارضة بأميركا، وهو أمر قد يؤخذ على الحراك الشعبي، لكنّه يكفّ عن كونه كذلك عندما يقاربه المرء من داخل منطق التحالف بين الحراك والمعارضة. فهذه الأخيرة ضحيّة اليوم، ولا يجوز تحميلها أكثر من طاقتها في منطوق الحركة الاحتجاجية، حتى لو تساوت ارتباطات بعض دوائرها بالغرب بارتباطات النظام (والاثنتان تحملان طابعاً استخبارياً مقيتاً). والمحاججة الأخلاقية في هذا الموضع لا تنفع، لأنّ بطش النظام لم يترك مكاناً للحجج العقلانية التي يمكن أن تصيب من المعارضة الكولونيالية (الكولونيالية فقط) مقتلاً. ليس ذلك فحسب، بل إنّ البطش ذاته لم يترك أيضاً للمعارضين العقلانيين الذين يتوسلون حلولاً وسطى حيّزاً كي يتحركوا فيه، حتى أنّ بعضهم بات يوسم من جانب المحتجين الراديكاليين «بالعمالة للنظام»، رغم أنّ معظم هؤلاء، قضوا في سجون هذا الأخير عمراً يزيد على عمر من يتهمونهم اليوم بالتزلّف للسلطة! كيف تقنع مثلاً فتى محتجاً في العشرين من عمره أنّ مقاربات عارف دليلة وحسن عبد العظيم وميشال كيلو المتهمين «بالتزلف للسلطة» يجب ألّا تخضع للمعيار الأخلاقي الذي يختطّه الشارع الثائر، ويقسّم عبره الناس إلى وطنيين وخونة؟ أيّ معيارية تلك التي تساوي بين مناضل قضى عمره في سجون النظام، وانتهازي اغتنم فرصة وجوده في الغرب ليصنع لنفسه شهرة زائفة! وأيّ شهرة! شهرة تتغذّى بالدم المسفوح في الشوارع والارتباط القذر بمراكز صناعة القرار في واشنطن وباريس ولندن. لقد بات ظهور هؤلاء المتكرّر على الفضائيات منفّراً إلى حدّ لا تعود تميّز فيه بينهم وبين أبواق النظام. فكلا الطرفين يقدّمان عرضاً مبتسراً واختزالياً لما يجري. وكلاهما باتا عاجزين عن توفير المخارج الممكنة لحالة الاستعصاء التي نعيشها. من هو الوطني ومن هو الخائن في تلك الحالة؟ لقد حاولت ألّا أصادر تأويلات الناس الذين رفعوا شعار: «... لا أميركا ولا إيران»، لأنّني ببساطة لا أملك هذا الحقّ. هذا مثلاً قد يكون اقتراحاً لمعيارية معينة في مقاربة الاحتجاجات وشعاراتها. هل من يجرؤ على اقتراح معيارية مماثلة عندما يتعلق الأمر بالمقاربات العقلانية للمخارج؟ لماذا نهرع إلى إسباغ وطنية زائفة وملفّقة على «معارض» نعرف حجم ارتباطاته، لمجرد أنّه وصّف حقيقة المجزرة في درعا، وسمّى المجرمين بأسمائهم؟ كثيرون فعلوا ذلك، ولم يحظوا بربع ما حظي به ذلك الانتهازي الذي يتسلّق الحراك الشعبي من مكان ما في واشنطن أو نيويورك. القصة هنا ليست قصة من يجرؤ على نقد الديكتاتور وحاشيته. ففي النهاية، المجزرة هي مجزرة، وكلّنا يعرف ذلك، والبطولة ليست في توصيفها بل في تظهير موقف أخلاقي منها، من موقع لا تحوم حوله الشبهات. هيثم منّاع مثلاً، ينطلق من هذا الموقع، لأنّه غير مرتبط بأجهزة استخبارات غربية، ولأنّ موقفه من القمع في بلادنا العربية ليس انتقائياً. فما يحدث في سوريا اليوم قد يحدث غداً في السعودية. وعندها سنرى من هو الأخلاقي فعلاً، ومن هو القادر على التحلّل من ارتباطات ليست واضحة اليوم بما فيه الكفاية.
نعود قليلاً إلى شعار: «لا أميركا ولا إيران». والعودة هنا ضرورية، لأنّ هذا الشعار تحديداً ينطوي على حمولة نقدية كفيلة بتعطيل كثير من الألغام التي تنتظرنا. ومن تلك الألغام مثلاً، موضوع إقحام إيران قسراً في لجم حراك ديموقراطي، لا ناقة لها فيه ولا جمل. حتى الآن، لا دليل ملموساً على تدخّل إيراني، لمساعدة النظام في قمع الاحتجاجات. حتى عندما صدرت تصريحات في هذا الخصوص، لم تخرج من جانب المعارضة السورية والحراك الشعبي، بل أتت من الجانب الأميركي الذي سكت قبل مدّة عن الاجتياح السعودي للبحرين، لأنّه اشتمّ في الحراك الديموقراطي ضد نظام آل خليفة رائحة إيرانية! إذاً، نسكت هناك لأنّ إيران تدخّلت، ولا نسكت هنا لأنّ إيران أيضاً تدخّلت! إنّها «الإيرانوفوبيا» الأميركية (على نسق الإسلاموفوبيا في أوروبا)، وتلك قضية أخرى تخصّ الأميركيين وحدهم. لنعد إذاً إلى إيران التي «تخصّنا». إيران تلك، يحكمها اليوم نظام ثيوقراطي قمعي، شبيه «تماماً» بالنظام الذي يحكم السعودية (لكنّه ليس قروسطياً مثله). وأيّ حراك ديموقراطي فيها، سيستقطب حكماً تعاطفاً (وقد حصل ذلك فعلاً عشية الانتخابات الرئاسية الأخيرة هناك)، شبيهاً بالتعاطف الذي يستقطبه الحراك في سوريا اليوم (وفي السعودية غداً). لكن، لا يعفينا ذلك من مراجعة علاقتنا، نحن الناشطين السياسيين السوريين، بها. مراجعة تبدأ بالتحرّر من حالة الرّهاب التي تنتاب معارضين سوريين بعينهم، كلّما طرح الموضوع الايراني على بساط البحث. لسبب ما لا يبدو مفهوماً لي، تستنكف أطياف المعارضة السورية (ليس كلّها طبعاً) عن مقاربة طبيعة النظام الإيراني على نحو مجرّد، أي بوصفه نظاماً قمعياً، مثله في ذلك مثل باقي الديكتاتوريات في المنطقة. وبدلاً من لك، تنساق إلى استدعاء سرديات غيبية وجوهرانية، شبيهة بالسرديات الاستشراقية التي أنتجها الغرب الاستعماري عن شرقنا. عندها، لا تعود المسألة تتعلق بنظام تسلّطي قد يتدخّل لمساندة قمع حليفه التسلّطي أيضاً لشعبه، بل تصبح مسألة نظام «صفوي فارسي»، يتدخّل في شؤون سوريا العربية الأموية، ويفرض على بعض شعبها نسقاً مذهبياً أصولياً لم تألفه من قبل! هكذا تعالج طبيعة العلاقة بين إيران وسوريا في بعض الأوساط المعارضة، وهكذا تحوّر عادة طبيعة التناقضات بين دول متجاورة تحكمها المصالح والاعتبارات الاقتصادية، لنغدو على «حقيقة» مدرسية يختصرها بعض السذّج والخبثاء بالقول: فرس شيعة وعرب سنّة. يا لهول هذا العنوان الذي يراد لعلاقتنا بإيران أن تندرج فيه. من هنا، نفهم ماهية بعض الشعارات التي رفعت في الأيام الأولى للانتفاضة السورية، ثم سحبت لاحقاً من التداول، وأشهرها: «لا إيران ولا حزب الله، بدنا مسلم (أو سني) يخاف الله». من يتحمل مسؤولية رفع شعارات مذهبية بغيضة كهذه؟ طبعاً ليست المعارضة السورية بجناحيها القومي واليساري (ولا حتى الإسلامي) من يفعل ذلك، رغم مسؤولية بعض أفرادها عن تهيئة الأرضية الملائمة له، ولا الحراك الشعبي الذي رفع بالأمس شعار «لا أميركا ولا إيران...»، ليدرأ عن نفسه تهمتي العمالة والمذهبية اللتين يريد النظام إلباسهما إياه. حسناً. من رفع الشعار إذاً؟ ولماذا سحبه لاحقاً بعد رفعه وتوضيبه ليعلق في الأذهان، وليوحي للرأي العام بدور ما لإيران ولحزب الله في ما يحدث في سوريا، وفي درعا خصوصاً؟ الأرجح أنّ الأرض كانت جاهزة سلفاً لتعبئة مماثلة، وأنّ جزءاً لا بأس به من الحراك الشعبي، أريد له أن يظهر بمظهر من يتبنى الخطاب الثقافوي المدرسي تجاه إيران. وقد وقع هؤلاء في الفخ فعلاً، ورفعوا شعارات سرعان ما ناقضها رفاقهم في مكان آخر. ومناقضتها على هذا النحو، في غضون أقلّ من شهر، تعني أنّ منسوب التسييس المنهجي للصراع بات يرتفع باطراد، على حساب مذهبته الآخذة بالتآكل تدريجاً. طبعاً، هذا لا ينفي وجود بؤر تكفيرية لا تزال مصرّة على ترهين اللحظة المذهبية وتجميدها (شعار «العلوية عالتابوت والمسيحية عابيروت») ، لكنّها لم تعد وازنة بما يكفي للقول بأرجحيتها على ما عداها. وتلك لحظة تأسيسية يمكن البناء عليها، لأنّها ستبدّد كثيراً من الهواجس، وستقضم من رصيد من يريد أخذ هذا الحراك إلى أماكن لا علاقة لها أبداً بطموحات الشعب السوري إلى الحرية والكرامة وإيقاف عجلة النّهب المنظّم. تلك الطموحات هي ما يوحّد الشعب السوري اليوم، ويصهر مكوّناته الفئوية التي عمل على تغذيتها طويلاً. ما يوحّدنا إذاً، ليس العداء لإيران ولا حتى المواجهة مع أميركا، رغم أنّها يجب أن تكون أولوية قصوى في مرحلة لاحقة (تماماً كما حصل في مصر الثورة). الآن، نحن بأمسّ الحاجة إلى نقل الصراع مع السلطة من ضفّة إلى أخرى. من ضفّة استبعاد البعض إلى ضفة استقطاب الكلّ. وهذا أمر لا يحلّ باستدعاء الشعارت وحدها. ذلك أنّ الشعارات هي خلاصة حراك شعبي ناضج سياسياً وواضح طبقياً وعابر للطوائف. هكذا أنضج رفاقنا في مصر حراكهم الثوري. لم يجهّزوا الشعارات إلا عندما أدركوا أنّها باتت تتويجاً لحراك شعبي عابر للمناطق والطوائف والطبقات. في سوريا، الأمر مختلف بعض الشيء، لكنّه ليس عصيّاً على الحلول. هنالك دائماً حلول لما قد يبدو عصياً على أي حلّ. ولتكن المسافة التي قطعها حراك البعض بين «مواجهة إيران» مذهبياً، و«مواجهتها» سياسياً، مثالاً على ذلك. طبعاً، ليس مطلوباً منّا، ولا محبّذاً حتّى، أن نورّط أحداً (وخصوصاً إيران) في صراعنا مع السلطة، لكن إذا أراد أحد ما أن يتورّط في ذلك، فلتكن ورطته ورطة ناضجة، وخارجة من عباءة السياسة، لا من أيّ عباءة أخرى.

* كاتب سوري