«لم يلتقِ البابا يوحنا بولس الثاني أسامة بن لادن إطلاقاً، لكن الرجلين كانا، في عقد الثمانينيات، في جبهة واحدة. كانا يسيران منفصلين ويضربان معاً. قائد هذه الجبهة، بلا منازع، هو رونالد ريغان. أما البابا والشيخ، فكانا يؤمّنان له الذخيرة الروحية في الحرب التي أعلنها ضد «إمبراطورية الشر»». بهذه الكلمات، استهّل الراحل جوزف سماحة افتتاحيّته «مقاتلان من أجل الحريّة: يوحنا بولس و... ابن لادن»، في صحيفة السفير (5 نيسان 2005) بعيد وفاة بابا روما. والصدفة التاريخيّة وحدها، تفسّر ارتقاء الأوّل نحو القداسة، وإلقاء الثاني في قعر البحار، في الأوّل من أيّار (بتوقيت واشنطن، ٢ أيّار بتوقيت باكستان)، يوم عيد العمّال. فهما أفنيا سنوات في محاربة الإمبراطوريّة التي ادّعت إرساء حكم العمّال في الاتحّاد السوفياتي ومساندة قضاياهم حول العالم.«لقد نلنا منه»، قال باراك أوباما في أول ردّ فعل له على نبأ مقتل أسامة بن لادن، وكان بول بريمر، الحاكم العسكري للعراق عقب الغزو الأميركيّ، قد صرّح للصحافييّن في بغداد، بُعيد اعتقال صدّام حسين: «سيّداتي، سادتي، لقد نلنا منه». ما يحجبه زهو الاقتصاص الثأري من بن لادن الذي يضع أمّة (نلنا) مقابل عدوّ شخصي (منه) يهدّدها ويروّعها، هو فترة الحرب الباردة، عندما كان بن لادن في صفوف المقاتلين من أجل الحرّية، المدعومين من الولايات المتحدّة. وما التذكير بالحرب الباردة وتحالفاتها إلّا لرسم صورة، عن عالمنا الراهن، أكثر تعقيداً ودلالةً من ثنائية «الخير» و«الشّر»، ولكي تطرح على الممسوسين بنشوة الانتصار أسئلة تتعّلق بمسؤوليّة سياساتهم الخارجيّة. سياسات خلقت بيئة حاضنة، ودعمت مباشرةً حركات راديكاليّة ارتدّت عليهم في ما بعد.
وإضفاء البعد التاريخي على مسار بن لادن السياسي، لا يمسّ فقط ثنائية العزل التام ما بين «الأميركي الطيّب» من جهة، و«الإرهابي الشرير» من جهة ثانية، التي تقوم على أرضية ثقافويّة تضع قيم «التسامح الليبراليّة» مقابل «ثقافة الموت». إنمّا، يصيب أيضاً، من أرادوا تحويل أسامة بن لادن إلى نصير أممي للمعذبّين في الأرض، ووسمه غيفارا القرن الحادي والعشرين، بمجرّد رفعه السلاح والنبرة ضد الإمبراطوريّة الأميركيّة والغرب، بعد قتاله ضدّ السوفيات. كأنّ ذلك شرط لازم للتعاطف مع أيّ مشروع، دون مساءلته عن الوسائل والغايات المرتجى تحقيقها ونتائج أفعاله. إنّ صورة «الرومانسيّة الثوريّة» التي يرسمها هؤلاء عن الشاب الفائق الغنى الذي ترك ملذّات الحياة، وعاش حياة تنسّك، متنقّلاً من كهف إلى آخر خدمةً لقضيّته، لا تغني عن أنّ ما «بشّر» به ملهم القاعدة لا يحمل أيّ مشروع جدّي للمجتمعات العربيّة والإسلاميّة وللقيام بها، خارج العنف وخطاب عُصاب الهوّيات: نحن وهم. وهو، أي الخطاب، كما لاحظ مراقبون كثر، يتبنّى طروحات «صدام الحضارات» نفسها التي ترسم صورة لمجتمعات معزولة بعضها عن بعض، مسوّرة داخل ثقافاتها النقيّة من أيّ «تلوّث» خارجي، وسوف تكوّن أرضية الصراع الكوني الآتي بعد أفول العقائد السياسيّة.
وهذا الخطاب التبسيطي، الذي لا يخرج عن ثنائيّات نحن/ هم وأشرار/ أخيار، مسوّغاً العنف بالاتّكاء على قراءته للتراث، يدغدغ النرجسيّات الجريحة. تلك التي لم يندمل جرحها المفتوح، منذ غزوة نابليون لمصر في ١٧٩٨، التي مثّلت أولى الصدمات للمجتمعات العربيّة بالغرب الحديث؛ ولم تنته الضربات مع اجتياح العراق، كما قد يلقى الخطاب صدىً عند بعض من ذاقوا الإذلال والعنصريّة في بلاد الغرب.
وعقب الصدمة الأولى، برزت أسئلة محوريّة تتالت أجيال من الكتّاب والسياسيّين في الإجابة عنها (ولا تزال)، منها: «من نحن؟»، «من هو الآخر؟»، «ما علاقة الماضي بالمستقبل؟»، «ما العمل؟» على ما ذهب إليه عبد الله العروي، منذ أكثر من أربعة عقود. ويكفي أن يطلّ المرء من النافذة اللبنانيّة الضيّقة، دون التطرّق إلى الغرب أو العراق، ويقرأ بيانات تنظيم القاعدة التي تصف المقاومة الإسلاميّة اللبنانيّة بـ«حرّاس حدود إسرائيل»، وتندّد بالجيش اللبناني وحزب الله لحمايتهما «الجنوب لأجل أمن اليهود»، كي يكوّن فكرة عن مزاج التنظيم، ونمط ردوده على تلك الأسئلة والمستقبل «الزاهر» الذي يعد به أهل المنطقة.

■ ■ ■

في منتصف أيّار ١٩٩٦ أطلّت مادلين أولبريت، وكانت آنذاك سفيرة بلادها إلى الأمم المتحدّة، في برنامج تلفزيوني، فسألتها المقدمّة عن العقوبات الدوليّة المفروضة على العراق: «لقد سمعنا أنّ نصف مليون طفل قد بارحوا الحياة. وهذا أكثر من عدد الأطفال الذين ماتوا في هيروشيما. هل هذا الثمن مستحق؟». فأجابت السفيرة: «نظن أنّه ثمن مستحق». تقتصّ الدول من التنظيمات الراديكاليّة التي تنصب لها العداء، وهذا يصحّ بغضّ النظر عن انتماءات تلك المجموعات العقائديّة، لكن من يسمع أنين ضحايا الدول العظمى؟ من يروي يوميّاتهم؟ من يفكّ أسرهم من جداول الإحصاءات البكماء؟ ومن يحاكم الذي يُنشئ المحاكم؟

* باحث في برنامج الشرق الأوسط
في أوروبا ـــــ برلين