وصلتُ إلى مقر مكتب الإرشاد قبيل صلاة المغرب يوم الأحد 30/1/2011. وبعد ذلك بقليل، وصلتني حقيبة ملابس جديدة، ووصل الدكتور الكتاتني الذي تمكن من السفر إلى المنيا. التقينا على صلاة المغرب، وقررنا الذهاب معاً إلى ميدان التحرير لتحية المعتصمين هناك، والاطمئنان على الأوضاع.وصلنا إلى قرب الميدان في شارع قصر العيني، ووجدنا الطرق مسدودة بالمصفحات والدبابات، وعشرات المواطنين يتجهون من كل حدب وصوب إلى الميدان.
سرنا على الأقدام باتجاه المدخل من كوبري قصر النيل، وفق توجيهات الأخوة المرافقين، واجتزنا الحاجز العسكري. عندما وصلنا إلى الميدان فوجئنا بمئات الشباب يلتفون حولنا، ويهتفون هتافات إسلامية وإخوانية. طلبنا منهم الالتزام بالمتفق عليه وتوحيد الهتافات فاستجابوا سريعاً. كانت الروح المعنوية في السماء، وازدادت عندما وصلنا إلى الحشود الملتفة حول المنصة الرئيسية. هناك، فوجئنا بالشباب يحملوننا على الأعناق. كان الأمر بالنسبة إليّ معقولاً، بينما نظرت مبتسماً إلى الكتاتني، مشفقاً على الشاب الذي يحمله.
كان الهتاف السائد وقتها بين الحشود «مش هنمشي... هو يمشي». كنا نتبادل الهتافات، أنا والكتاتني، حتى ذهب صوتي، واضطررت إلى تناول الأدوية الخاصة بالتهاب الحبال الصوتية لمدة أسبوعين تقريباً، حتى أستعيد صوتي.
أراد بعض الشباب أن أصعد إلى المنصة للحديث، فاكتفيت بشكر هؤلاء المعتصمين وقلت لهم: «إنّ صمودكم وثباتكم كان بتوفيق الله تعالى هو السبب المباشر لخروجنا من السجن، وإنهاء الاعتقال الظالم في فترة قياسية لم تحدث في تاريخ السجون من قبل» (58 ساعة فقط). طالبتهم بالصمود حتى رحيل الرئيس، والوحدة خلف شعار واحد، وقطع الطريق على كل من يحاول تمزيق الصف الوطني.
اصطحبنا شباب الإخوان المشاركين في ائتلاف شباب الثورة لجولة في الميدان، مع محمد القصاص وأحمد عبد الجواد وهاني محمود وإسلام لطفي، وغيرهم.
كان الحضور الإخواني بارزاً من كثير من المحافظات، وظهر من التفاف الشباب حولنا وتعبيرهم عن التقدير الكبير لمشاركة الإخوان في الانتفاضة التي لم تكن قد تحولت بعد إلى ثورة.
عند العاشرة مساءً، قررنا العودة إلى المكتب، وفي الطريق جاءني اتصال من الأستاذة منى الشاذلي، خلال برنامج «العاشرة مساءً»، وكانت الأسئلة عن كيفية خروجنا من السجن، وملابسات الأمر، وظروف السجون الأخرى... إلخ.
استمر الحوار على الهواء لمدة تزيد على 20 دقيقة، وقلت بوضوح إنّ هناك شبهات قوية في إثارة التمرد داخل السجون، وكان أقوى دليل قدمته هو إذاعة خبر استشهاد اللواء محمد البطران مدير سجن الفيوم في إذاعة البرنامج العام باستمرار في نشرات الأخبار. واليوم، وقد صدر تقرير لجنة تقصي الحقائق الخطير، اتضح فيه أنّ الرصاص الذي قتل به اللواء البطران كان رصاصاً حكومياً.
سيكشف التحقيق القضائي النزيه ملابسات ما حدث في السجون؛ لأنّها جريمة بشعة قتل فيها العشرات، وخاصة في سجون أبي زعبل والمرج، بينما لم يسقط في سجن وادي النطرون أي ضحايا.
كان محمد مرسي قد تحدث مباشرة عقب خروجنا من السجن إلى قناة الجزيرة. ومن الطرائف أنّ الدكتورة هبة رؤوف عزت، المدرسة في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، كلمتني صباح الاثنين مشفقة علينا من تداعيات خروجنا بهذه الطريقة، وطلبت مني أن نستشير بعض المحامين أو القانونيين، وكأنّي لمست في حديثها أننا يجب أن نسلم أنفسنا إلى الجهات الرسمية أو القوات المسلحة. طبعاً، رفضت هذا المنطق بقوة، وأعلنت لها أنّه لا قرار رسمياً بحبسنا، وأنّنا كنا مخطوفين من دون قرار قضائي. بعد ذلك بأيام، قرأت خبراً في جريدة يومية أنّ النائب العام المساعد أصدر قراراً بالإفراج عن 34 معتقلاً سياسياً، أظن أنّه يتعلق بنا.
يوم الجمعة، كانت الاتصالات مقطوعة في شبكات المحمول وعلى الإنترنت، فنفذ الإخوان جميعاً قرار مكتب الإرشاد بالنزول بكثافة، وحث الشعب على المشاركة. فكانت الملايين لأول مرة في ميادين وشوارع مصر كلّها، ولم تكن هناك أي فرص للمتابعة والتقويم.
قرر الشباب الاعتصام في ميدان التحرير وعدم الانصراف حتى تتحقق المطالب الشعبية. لذلك، كان الهتاف يومها «مش هنمشي... هو يمشي». والهتاف الآخر «الشعب يريد إسقاط النظام» والمقصود هو تنحية الرئيس مبارك كبداية ورمز لإسقاط النظام.
يوم السبت، اتجه الإخوان جميعاً إلى مقر مكتب الإرشاد. كان هذا يوم انعقاد هيئة المكتب. وكان نصف المكتب معتقلاً، والمتحدثون الإعلاميون جميعاً وراء القضبان. قرر المكتب تكليف محمود غزلان متحدثاً إعلامياً، فلم يمكث إلا قليلاً، وقرر الاستعانة بإخوان من خارج المكتب من رؤساء المكاتب الإدارية في القاهرة وأعضاء مجلس الشورى لسد العجز في القيادة. وأصدر الإخوان بياناً يوم السبت في 29/1/2011، كان أبرز ما فيه: إلغاء حالة الطوارئ فوراً ودون إبطاء، حلّ مجلس الشعب والشورى المزورين والدعوة إلى انتخابات جديدة تحت إشراف قضائي كامل، الإفراج الفوري عن جميع المعتقلين والمسجونين السياسيين، إعلان تأليف حكومة وطنية انتقالية من غير الحزب الوطني، تتولى إجراء الانتخابات النزيهة ونقل السلطة نقلاً سلمياً، تأليف لجنة وطنية للتحقيق وتقصي الحقائق في وقائع استخدام العنف والقتل غير المبرر ضد المتظاهرين الذي أدى إلى عشرات القتلى ومئات الجرحى وآلاف المعتقلين.
كان أهم قرارات المكتب هو تأليف لجنة للإشراف والمتابعة والاتصال بميدان التحرير وبقية المحافظات لاستمرار الانتفاضة ودعمها المستمر. وطالب الإخوان بإلحاح، بضرورة نزول رموزهم إلى ميدان التحرير؛ إذ توافد عليه من صباح السبت رموز سياسية عديدة، بينما استمر الإخوان على قرارهم الحكيم، وهو عدم صبغ الانتفاضة بأي صبغة إخوانية، ومن ذلك عدم نزول الرموز المعروفة إعلامياً إلى ميدان التحرير.
كلف المرشد محمد علي بشر وحلمي الجزار النزول إلى ميدان التحرير يوم السبت عصراً، وقاما بجولة تفقدية للميدان. وتألفت لجنة الإشراف من رؤساء المكاتب الإدارية بالقاهرة والجيزة وأكتوبر وحلوان ونوابهم والأمناء المساعدين لديهم، وأشرف عليها محمد بشر الذي ترك الإشراف إلى مشرف القاهرة بعد خروج محمد مرسي.
كانت مهمة اللجنة هي: متابعة ما يحدث في ميدان التحرير باستمرار وبصورة مباشرة، الاتصال بشباب الائتلاف من الإخوان والتنسيق معهم، الاتصال بالمحافظات لمعرفة ما يحدث والتنسيق معهم، ثم قرروا دعوة كل المحافظات للنزول إلى ميدان التحرير لدعم المعتصمين مع الاحتفاظ بالتظاهرات يوم الجمعة فقط في عواصم المحافظات، تقديم تقارير ساعة بساعة إلى قيادة الإخوان مع الاقتراحات المطلوبة لإصدار قرارات بشأنها.
تنقلت اللجنة بين 5 أماكن خلال أيام الاعتصام، في شقق قريبة من ميدان التحرير، واحتفظت بوسائل اتصال مؤمنة. في ذلك الوقت، ومنذ يوم الجمعة، اعتصم في ميدان التحرير اثنان من الرموز، محمد البلتاجي النائب عن شبرا الخيمة، والداعية الإسلامي صفوت حجازي. كان دورهما بثّ الحمية بين المعتصمين، والحوار مع الشباب والرجال والنساء، والتنسيق مع الرموز السياسية الموجودة بالميدان .
بدأت الانتفاضة تتحول إلى ثورة خلال أسبوع الغضب، حتى جاء يوم موقعة الجمل في 2/2/2011. وتحوّل أداء مكتب الإرشاد مع تحوّل الانتفاضة إلى ثورة، فكان هناك الانعقاد الدائم للمكتب لمتابعة الأحداث واتخاذ القرارات اللازمة، وانعقاد دائم ومستمر للجان المعاونة والداعمة للمكتب، وهي: لجنة الخطة، القسم السياسي، اللجنة الإعلامية، والأمانة العامة. كذلك أُنشئت لجان مؤقتة إشرافية، ووُزعت على أعضاء المكتب، هي: لجنة إدارة ميدان التحرير، لجنة التواصل مع الشباب، ولجنة البيانات والتصريحات.

* قيادي في جماعة الإخوان المسلمين في مصر