عام 2002، استضاف «المركز اللبناني للدراسات»، وكان على رأسه آنذاك الراحل الدكتور سليم نصر، مجموعة باحثين ضمن إطار مؤتمر حول «نموذج الدولة التنموية والتحديات أمام لبنان». كان بينهم مايكل جونسون، الذي قدّم مداخلة حول «الدولة النيو ـــــ باتريمونيالية في لبنان قبل 1975»(1). عرفنا وقتها أنّه أصدر كتابه الثاني حول لبنان قبل أشهر(2). كان قد كرّس كتابه الأول، الصادر في 1986، لعرض بنى أو هيكليات الاستزلام السياسي في المجتمع وفي السياسة اللبنانيتين(3).، وهو النص الأهم عن لبنان في هذا المجال، وهو الأفضل بالتأكيد في قراءة التجربة الشهابية. حين عاد شبح الحرب الأهلية يخيّم مجدداً على لبنان بعد 2005، بتنا نبحث عمّا يعيننا على فهم ما يحدث. ترجمت نص مداخلة جونسون إلى المؤتمر إلى الفرنسية، وبتّ أستخدمه مرة بعد مرّة. كذلك أكملت قراءة كتابه الثاني، بعد مضي سنوات على صدوره. ويمكنني القول إنّه عمل موسوعي حول مجتمع لبنان ونظامه السياسي، برزت فيه مسألتان رئيسيتان، عكستا هاجس كاتبه لجهة: 1) تفسير أسباب اعتماد العنف في النظام السياسي اللبناني؛ 2) تفسير العنف الطائفي بأشكاله القصوية والهاذية في تجربة لبنان.
وهو بعد تمهيد من نحو 25 صفحة، شرح فيه ما رأى أنّها نواقص وأخطاء انطوى عليها كتابه الأول، ثم كرّس الفصلين التاليين لشرح وتفصيل ما رأى أنّه ثقافة سياسية جوهرها فرض الاحترام أو الاعتبار على الآخرين بالقوة. قدم في هذين الفصلين عرضاً مليئاً بالتشويق. وفي هذا القسم من الكتاب، بدا لبنان جزءاً من بيئة أوسع هي بيئة المتوسط والبيئة العربية، تؤدي فيها قيم المكانة أو الاعتبار (Honour) وتأكيدهما دوراً مهماً لدى الأفراد، وهي قيم تجد تعبيراً عنها في العمل السياسي، وتفرز نوعاً من الممارسة السياسية يقوم على «فرض النفس بالقوة». من دون هذا الغوص إلى العمق الذي حققه جونسون، لا يمكن فهم النظام السياسي وما ينطوي عليه من ممارسات في لبنان. واستخدم جونسون في الجزء الثاني من كتابه مفهومي القومية ذات الطابع الليبرالي، والقومية ذات الطابع الرومنسي، إطاراً لتحليل أشكال القومية أو الوطنية، كما عبرت عن نفسها في لبنان، منذ القرن التاسع عشر، وصولاً إلى الحرب الأهلية. وعرض تطوّر الطرح القومي في لبنان منذ بداياته مع المعلم بطرس البستاني في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، مروراً بأشكاله التي عبّرت عنها الأحزاب التي استوحت التجارب الفاشية الأوروبية خلال الثلاثينيات، وصولاً إلى التعبيرات التي شهدتها الحرب الأهلية. وصنف جونسون الأحزاب السياسية المنخرطة في الحرب في فئة القومية الرومنسية التي تختلف عن القومية الليبرالية التي استوحاها البستاني.
وفي الجزء الثاني من كتابه، بحث عن جذور العنف في الشخصية السلطوية والعائلة النيو ـــــ بطريركية والتيارات القومية الرومنسية. ويُظهِر هذا الجزء أنّ «إعادة إنتاج الهوية الطائفية هي نتيجة لحالة التمدين (Urbanization) بالطريقة التي حصلت فيها في التجربة اللبنانية». أي إنّ الشعور بالانتماء الطائفي والحاجة إلى التعبير عنه، واكبا عملية التمدين القسري والصعب التي عرفها اللبنانيون خلال السنوات الخمس عشرة التي سبقت الحرب الأهلية.
وقد تكون هناك مبالغة في التفتيش عن جذور النزاع الأهلي في المجتمع اللبناني فقط. وقد يكون الأمر أكثر بساطة مما يبدو، ويجد تفسيره في استراتيجيات النخب وقدرة هذه الأخيرة على وضع استراتيجياتها موضع التنفيذ، معوّلة في ذلك على الدعم الذي توفره لها قوى خارجية، ويرمي إلى تحقيق أهداف استراتيجية وسياسية لهذه القوى. وهذا في كلّ الأحوال، ما يؤكده الكاتب بالقول إنّ «شروطاً خاصة»، عنى بها «التدخل الخارجي بالشؤون اللبنانية»، أملت انتصار الانتماءات الإثنية الرومنسية وانهيار الليبرالية. أي إنّ جونسون، بعد قراءة متأنية اقتضت قرابة 223 صفحة، للجذور الاجتماعية للحرب الأهلية في لبنان، ختم قراءته لهذه الحرب، بتأكيد دور التدخل الخارجي في افتعال النزاع الأهلي في لبنان.
ظهرت أولى نصوص جونسون في بداية السبعينيات، وصدر كتابه الأول بعد 15 سنة من ذلك التاريخ. ثم صدر كتابه الثاني بعد 15 سنة من صدور كتابه الأول. أي إنّ جونسون «ترهّب» كلّ مرة 15 سنة لإصدار كتاب عن لبنان. قلّة من الباحثين فعلت ذلك. تمثّل كتابات جونسون منارة للمتطلّعين إلى فهم لبنان، ولمن يفتشون عن تغيير يجعل منه دولة حديثة ومحترمة. توفر لهم كتابات كهذه تأسيساً علمياً دقيقاً لمواقفهم. ولو كانت لنا دولة، لاستضافت مايكل جونسون، واقترحت منحه الجنسية اللبنانية.
هوامش
(1) - Johnson Michael‚ “ The Neo-Patrimonial Lebanese State before 1975”‚ Contribution to the L.C.P.S. Workshop on: “ the Developmental State Model and the Challenges to Lebanon”‚February‚ 15-16‚ 2002‚ Beirut
(2) - Michael Johnson‚ All Honorable Men: The Social Origins of War in Lebanon‚ London: Centre for Lebanese Studies and I.B. Tauris‚ 2001
(3) - Michael Johnson‚ Class and Client in Beirut: the Sunni-Muslim Community and the Lebanese State‚ Ithaca press‚ 1986
* كاتب لبناني