أعلن فجأة مشروع انضمام المغرب إلى مجلس التعاون الخليجي. لو كان هذا المشروع طرح قبل أن يحرق البوعزيزي نفسه في سيدي بوزيد، لكنت ابتسمت من الخبر، وانتهى الأمر. بل لكنت اقترحت أن تنضمّ المغرب إلى تجمع أميركا الجنوبية، لنلعب في كوبا، ونرى البرازيليين والأرجنتينيين يسددون على الشباك في الدار البيضاء. لكن هذه الأيام ينطبق عليها وصف أليكسيس دو توكفيل «إنّنا نرقد على فوهة بركان...
ألا تلاحظون ارتجاج الأرض من جديد؟ إنّ رياح الثورة أخذت بالهبوب، والعاصفة تكتسح الأفق». في هذه الأيام، لا يجوز الابتسام، فالأمور تسير بسرعة تفوق الخيال. يمكن غداً أن نجد المغرب والأردن عضوين في مجلس التعاون الخليجي. لكن ما الذي سيتعاون عليه المغرب مع الأردن والسعودية؟ الجواب المعلن هو صدّ النفوذ الإيراني.
عملياً لا تحتاج المغرب إلى تبديد جهدها وروحها في هذا الصدد، فليس لها ما تخسره ضد إيران، فلا أقلية شيعية فيها، وغلبة المذهب المالكي على السكان بارزة. الغريب أنّ المغرب أشبه بإيران منها بالدول الخليجية. ففيهما دولة ذات عمود فقري عريق، لا تحالف قبائل ظرفي. الدليل؟ يمكن تغيير كلّ الوزراء والمحافظين غداً، بلا مشكلة. في الكويت والبحرين رؤساء وزراء خالدون، مثل الأزمة.
لم يخضع البلدان للسيطرة العثمانية، وهكذا حوفظ على دولتين مستقلتين سياسياً بين القرنين الخامس عشر والتاسع عشر، رغم الصراع على الحدود مع العثمانيين. في المقابل، جلّ المنطقة الفاصلة بين المغرب وإيران خضعت لسلطة الإنكشارية.
كذلك، امتلك البلدان عمقاً استراتيجياً بديلاً، تمثل لدى إيران في آسيا الوسطى، ولدى المغرب في جنوب الصحراء. وصل الملك المغربي الذي هزم البرتغاليين وقتل ملكهم في معركة الملوك الثلاثة (وادي المخازن) في 1578 حتى نهر السينغال. (بالنسبة إلى المغرب لا يزال سكان مالي والسينغال يزورون فاس، وبالنسبة إلى إيران أظهر التدخل الأميركي حجم العمق الإيراني بدل أن يطمسه).
كذلك هناك في البلدين وحدة مذهبية: التشيّع في إيران والمالكية في المغرب. جرى ذلك في مئات السنين حتى ترسخ. بالإضافة إلى ذلك، تعززت قوّة الحوزة العلمية والحسينيات في إيران، مقابل الزوايا في المغرب. وهي تنظيمات ساهمت بدرجات مختلفة، اجتماعياً وسياسياً، في تعويض الدولة في لحظات ضعفها. لذلك، لم يسحق المجتمع كما حصل في بلدان كثيرة خرجت من السيطرة العثمانية لتقع تحت الاستعمار الغربي. صدر أول دستور في إيران في 1906، وفي المغرب في 1908.
كذلك، يوجد في البلدين تيار اجتماعي مركزي محافظ دينياً، ومتفتح اجتماعياً، متشبث بولاية الفقيه في إيران وبإمارة المؤمنين في المغرب. هذا هو التفتح الذي تفتقده الوهابية.
يخضع المنتخبون للمرشد والملك، مثلاً، طلب الرئيس أحمدي نجاد من المرشد الأعلى إقالة وزير فرفض، وهو ما أدى إلى توّتر العلاقة. طالب المحافظون الرئيس بإعلان طاعته للفقيه، فأعلن هذا الأخير في بداية ماي/ أيار 2011 تشبثه بولاية الفقيه وأنّه يطيع آية الله المرشد «كابن يطيع والده»، ومن حسن الحظ لم يقل كخادمه. قال نجاد ذلك أمام وزرائه، ومنهم الوزير الذي طالب فخامة الرئيس بإقالته.
في المغرب يريد المحافظون وزيراً أول بلا صلاحيات، يطبق سياسة أمير المؤمنين. هنا تجري تعديلات وزارية دون علم الوزير الأول. في 1994، فشلت الإصلاحات لأنّ زعيم حزب الاستقلال رفض بقاء وزير الداخلية المعتق إدريس البصري. وفي حكومة التناوب في 1998، فُرض البصري على الوزير الأول عبد الرحمن اليوسفي، وهو خادم الأعتاب الشريفة في معجم القصر. في الحالتين، المسؤول الحكومي بلا صلاحيات، لذا يطيع الفقيه وأمير المؤمنين، ليستمر في مكانه.
أخذاً لهذه العوامل التاريخية والزمنية في الحساب، يبدو لي أنّه ليس هناك من سبب لصراع مغربي ـــــ إيراني. حسناً، إذا كان الامر كذلك فلماذا تريد السعودية أن تجلس مع المغرب في مجلس التعاون؟ ما الذي سيتعاونون عليه؟
سيتعاونون على إعادة تنظيم العالم العربي. وتعبير «إعادة تنظيم» مأخوذ من معاهدة فيينا في 1815، التي هدفت إلى كسر أحلام الشعوب الأوروبية التي أشعلتها الثورة الفرنسية. وتنص معاهدة فيينا على أن يكون ذلك تحت ظل الملكيات الكبيرة الأربع: النمسا وروسيا القيصرية وبروسيا وبريطانيا.
للإشارة، عقدت الدول المنتصرة على نابليون بونابرت مؤتمر فيينا، ونصت قراراته من جهة أولى على إعلان حرب لا هوادة فيها على الأفكار التحررية والمطامح القومية التي نادت بها الثورة الفرنسية. ومن جهة ثانية، الدفاع عن شرعية الملوك والأمراء المخلوعين أيام الثورة الفرنسية، بل إرجاعهم إلى عروشهم رغماً عن الشعوب، وتطبيق إجراءات حكم مطلق يعمل على محو كل ما زرعته الثورة الفرنسية، لتعود أوروبا إلى ما كانت عليه من خضوع تام لأشباه لويس الرابع عشر.
بعد إصلاح مصائب الماضي، يريد المتآمرون الرسميون في فيينا محاربة الحركات التحررية والقومية والليبرالية والتدخل للقضاء عليها حيثما وجدت. وقد حقق الحلف المقدس أهدافه ظرفياً، لكن الأرض عادت لترتج من جديد في 1848. لذلك، تحدث السياسي الفرنسي توكفيل بقلق، وهو يطمح إلى حلف جديد شبيه بذلك الذي قاده المستشار ميترنيخ في فيينا، حلف يطفئ الثورات...
في 2011، عندما نجح آل سعود محلياً بشراء ولاء الرعايا، واستأصلوا في البحرين دوار اللؤلؤة، واشتروا في اليمن ولاء القبائل، فكروا بإنقاذ حسني مبارك. فكروا في شراء الفايسبوك... بدا الأمر مستحيلاً، خصوصاً أن الرئيس أوباما زار مقر الموقع الإلكتروني ليقدم له الشكر...
حينها، غيّر آل سعود خطتهم، بهدف إرجاع العالم العربي إلى ما قبل إحراق البوعزيزي نفسه. لكن لا أمل لهم في السيطرة على الشبكة العنكبوتية، السيطرة على الأرض أسهل. يريدون تصدير خبرتهم لباقي الدول، فلديهم الخطة والتمويل. أنعشهم قتل بن لادن، وعينهم في هذه المرحلة على مملكتي المغرب والأردن اللتين تجرى فيهما إصلاحات دستورية من الضروري إجهاضها في المهد، وقبل أن تصير معدية. فحلف مقدس فيه السعودية والبحرين والأردن والمغرب، سيضمن ألا تسقط الملكيات الأربع من البركان الذي يجتاح العالم العربي. وبذلك، سيتأكد الجميع أنّ الجمهوريات هي مصدر الشرور، يستنتجون أنّه لو بقي السنوسي في ليبيا، والشاه في إيران لما حصلت مشاكل.
ليس صدفة أنّنا بُشّرنا قبل أسبوعين بأنّ صناديق سيادية خليجية ستستثمر 14500 مليون دولار في السياحة بالمغرب. وفي هذه الأيام التي يتراكم فيها البترودولار، ويعلو سقف السلفية في المغرب، سيجد اقتراح انضمام المغرب إلى مجلس التعاون الخليجي مرحبين كثراً. المسافة الجغرافية لا تهم، ألم يعلن الحسن الثاني الوحدة مع القذافي في 1984، رغم عدم وجود حدود مشتركة بين المغرب وليبيا؟ لماذا لا نقيس اللاحق على السابق؟
ثم إنّ الجزائر، جارتنا الشرقية، لا تريد أن تفتح الحدود، على أمل أن تفلس الدولة المغربية، فلماذا لا نبحث عن بديل، حتى لو كان بعيداً؟
هنا، يجب أن نذكّر بخطر سابق، فحين قررت الجزائر تعريب تعليمها بداية الستينيات من القرن الماضي، طلبت مدرّسين مصريين، فأرسل لها عبد الناصر كلّاً من يوسف القرضاوي ومتولي الشعراوي، وأشباههما. وقد رأينا النتيجة بعد ثلاثين سنة. دم الحرب الأهلية لا يزال طازجاً في الجزائر، وليس من الخير لهذه الدولة التي رفضت وساطة آل سعود لفتح الحدود، أن تدفع المغرب إلى أحضان الوهابية، وليس من مصلحتها أن تمكن آل سعود من سحق ثورة الشباب الغاضب الذي يريد إسقاط الأوليغارشيات...
الآن من الأفضل للجزائر أن تفتح الحدود فوراً مع المغرب، قبل أن يُفتح باب شمال أفريقيا للتشدد من جديد. دون مبادرة جزائرية، سيذهب المغرب بعيداً. عندها، يبقى فقط تغيير اسم مجلس التعاون الخليجي، ليصبح «مجلس الحلف المقدس ضد التغيير».
من الجيّد أن نتعلم الدروس من التاريخ.
* صحافي مغربي