الأزمة التي يعاني منها أردوغان حالياً هي أزمة شرعية سياسيّة بالدرجة الأولى، ولذلك يبدو مستعجلاً في تصديرها للخارج ومنع أيّ معالجات لها في إطار الداخل التركي. وفي هذا السياق يمكن فهم انضمامه إلى التحالف الذي كان يرفض حتى وقت قريب المشاركة فيه بدعوى أنه لا يراعي الأولويات الاستراتيجية لتركيا. ورغم أنّ الأولويات بقيت مختلفة بين الطرفين إلا أنّ أردوغان يبدو على عجلة من أمره للانضمام، واضعاً جانباً كلّ تحفظاته السابقة الخاصّة بالتعامل المباشر مع نظام بشار الأسد.
والحال أنّ حلفاءه الأطلسيين الذين استدعاهم للتدخّل ليسوا مستعجلين بالقدر نفسه، وان كانوا «مرتاحين» للوضعية التي تجعلهم يتخلّصون من داعش وحزب العمال الكردستاني في الوقت ذاته (حماسهم للخلاص من الحزب ليس أساسياً في هذه المرحلة). بدا ذلك واضحاً من خلال التصريحات الأميركية والأوروبية التي كانت حذرة في تناول المسألة الكردية من منظور العدالة والتنمية لها، وفضّلت الإبقاء على مسافة بينها وبين المقاربة التركية الحالية التي تضع الأكراد في سلّة واحدة مع داعش. بالنسبة إلى الأميركيين فإنّ انخراط تركيا في التحالف يجب أن يكون من ضمن المظلّة التي تبقي على الاستقرار في هذه الدولة العضو في حلف شمال الأطلسي، وما يجعل هذا الاستقرار ممكناً في نظرهم بالإضافة إلى إزالة خطر داعش هو تسوية معقولة وممكنة للمسألة الكردية. ولذلك يصرّون على تحييد المسألة الكردية عن الانخراط التركي في الحرب ضدّ التنظيم، وحين يدينون نشاطات حزب العمّال الكردستاني وهجماته الأخيرة ضدّ تركيا يحرصون على تبيان استثنائية هذه الأعمال وعدم شمولها لباقي التنظيمات الكردية الموجودة في المنطقة. في حين أنّ ما يفعله أردوغان هو العكس تماماً، حيث تقوم استراتيجيته على الاستهداف المنهجي «للبؤر» الكردية الناشطة في شمال العراق، ولا بأس إذا تمدّد هذا الاستهداف ليشمل أيضاً مواقع لوحدات حماية الشعب داخل سوريا كما حصل الأسبوع الماضي حين استُهدفت مواقع للوحدات على أطراف عين العرب - كوباني. السلطة في تركيا تقول إنها غير معنية باستهداف الوحدات، وإنها تحصر بموجب الاستراتيجية المُتفق عليها مع أميركا نشاطها القتالي في إطار مواقع حزب العمّال في جبال قنديل شمال العراق، ولكنها عملياً لا تميّز بين الأجنحة الكردية المختلفة وتعتبرها جميعاً خطراً على «الأمن القومي التركي»، بدليل ربطها المستمرّ بين نشاطات حزب العمّال العسكرية والتغطية السياسية التي تقول إن حزب الشعوب الديمقراطي يوفرّها لها.

تحطيم «العملية السياسية»

يتأكّد هذا الربط من خلال الخطوة الأخيرة التي أقدمت عليها السلطة، حيث استعانت بذراعها القضائي لتوجيه تهم ضدّ صلاح الدين دميرتاش الرئيس المشترك لحزب الشعوب الديمقراطي، ومضمون هذه التهم يشبه من حيث الصياغة ما كان يُواجَه به الناشطون السياسيون ضد الأنظمة العربية التي دعم أردوغان الاحتجاجات ضدّها، وخصوصاً في سوريا وليبيا ومصر.

وتيرة استهداف حزب
العمال لقوّات الجيش التركي هي في ازدياد مستمرّ

في «التحقيق القضائي» الذي فُتح ضدّه يواجه دميرتاش تهماً مثل التسبّب باضطرابات في النظام العام والتحريض على العنف والخروج على «الشرعية السياسية»، وهي بالضبط نفس التهم التي سِيقت في مراحل مختلفة ضدّ معارضي أردوغان من مختلف الانتماءات السياسية، ولكن ما يميّزها هذه المرّة هو السياق الذي يجعل منها تصعيداً حقيقياً من السلطة ضدّ العملية السياسية التي لا تقوم أيّ شرعية سياسية أو انتخابية من دونها. أردوغان عبر هذه الخطوة لا يخسر فقط دعم القاعدة الشعبية التي استفادت من إطلاقه لعملية السلام مع الأكراد فحسب، بل يفقد أيضاً قدرته على «قيادة العملية السياسية» التي أصبحت في ظلّ هذه الاتهامات بلا أيّ مضمون، أقلّه لناحية ادعائها تمثيل الشعب الذي صوّت أكثر من 12% من ناخبيه لحزب الشعوب في الانتخابات الأخيرة. تقول وكالة الأناضول الحكومية في معرض تغطيتها للخبر إنّ دميرتاش قد يُحكم بالسجن لمدة تصل إلى 24 سنة إذا أُدين، وهذا يعني أنّ فعل المعارضة لنظام الحكم في تركيا قد «فقد شرعيته» وأصبح من الأفعال التي يُحكم بموجبها على الناس بالسجن لمُدَد طويلة، ممّا يحوّل النظام إلى حالة انقلابية شبيهة بتلك التي كانت قائمة في تركيا إبان وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة. حينها لم يكن ممكناً وصول أيّ من الأحزاب التي تمثّل الأكراد والإسلاميين إلى البرلمان، وفي حال نجاح حزب ما من هؤلاء بالوصول تكون السلطة له بالمرصاد، فتحرّك ضدّه ملفات قضائية أو تسارع إلى تنظيم حملات اعتقال جماعي لأعضائه بدعوى إخلاله بالنظام العام، وقد تلجأ أيضاً إلى حلّ الحزب (كما حصل مع حزب الرفاه بقيادة نجم الدين أربكان في نهاية التسعينيات من القرن الماضي) إذا تعذّر عليها لأسباب معيّنة القيام بالخطوتين السابقتين. هذه الأمور تغيّرت بعد وصول العدالة والتنمية إلى الحكم في عام 2002، حيث ساهمت مدة حكمه الطويلة نسبياً في حصول «استقرار سياسي» أتاح لأردوغان وغول ورفاقهما تغيير قواعد اللعبة في البلاد «على نحو جدّي». هكذا، تقلّصت الدولة العميقة وعاد الجيش إلى ثكناته، و»بات من المستحيل» استعمال القضاء مجدداً كأداة في وجه الخصوم السياسيين. حصل «التغيير» هنا من أعلى، إذ أتاحت السيطرة على القرار السياسي الفرصة لدخول فاعلين جدد إلى العملية السياسية، وهؤلاء بالتحديد هم الذين يواجهون سيطرة حزب العدالة والتنمية حالياً، ويتعرّضون جرّاء هذه المواجهة إلى ما تعرّض له هو حين كان على رأس المعارضة لحكم القوميين المتشدّدين. وفي هذه المواجهات لا تخسر المعارضة عادةً وإنما تزداد شعبيتها ويتأكّد للناس الذين اختاروها أنها رهان المستقبل فعلاً، بينما تخسر السلطة بمواجهتها كلّ شيء، بما في ذلك قدرتها على الاحتفاظ بالقواعد التي كوّنتها خلال نضالها ضدّ نظام الحكم السابق. وهو التحدي الأكبر الذي يواجه أردوغان حالياً، على اعتبار أنه يعتمد في حربه المستجدّة ضدّ حزب العمال الكردستاني وحليفه السياسي حزب الشعوب على الكتلة التصويتية القومية التي كانت تصوّت تاريخياً ضد الأحزاب الإسلامية، معتبرةً إياها خطراً على وجود الدولة نفسها، وليس فقط على طبيعة نظام الحكم فيها. هذا التعويل سيفقده القدرة على المناورة وسيعيد «العملية الديمقراطية» التي استعادها من الجيش و»الدولة العميقة» إلى موقعها السابق حين كانت تُستخدَم كأداة لإيصال من تريد الدولة إيصاله. وفي هذه الحالة فإنّ دوائر السخط التي جرى استيعابها وإدماجها في «العملية السياسية» ستعود من جديد لتمارس دورها المعتاد في الاحتجاج. وهذه المرّة لن يكون احتجاجها مماثلاً لاحتجاجات السبعينيات، لأنها في السابق لم تكن موجودة وفاعلة داخل المؤسّسات المنتخبة (البرلمان تحديداً)، وإذا وُجدت فليس بهذا القدر ولا بهذه الإمكانية على التأثير في القرار السياسي من موقع الاعتراض «الشرعي».

الحرب على حزب الشعوب

الملاحظ حالياً أنّ وتيرة استهداف حزب العمال الكردستاني لقوّات الجيش والشرطة التركية هي في ازدياد مستمرّ، وهذا مؤشّر واضح على حجم السّخط الموجود لدى الكوادر الكردية المقاتلة التي تشعر بأنها قد خُدعت حينما ألقت السلاح وانسحبت من قواعدها تلبيةً لطلب الزعيم التاريخي للحزب عبد الله أوجلان. حصل ذلك أثناء التفاوض الذي كانت تقوده الحكومة مع أوجلان عبر ممثّلين له، سواء في جزيرة ايمرلي حيث يقبع أو في العاصمة أنقرة، وكانت نتيجة المفاوضات ايجابية إلى حدّ كبير بدليل توقّف الأعمال القتالية بين الطرفين لمدة تزيد على السنتين. وفي هاتين السنتين أُنجز الكثير على صعيد استيعاب الأكراد في العملية السياسية وحملهم على نقل احتجاجهم من الشارع إلى داخل المؤسسات المُنتَخبة، فأصبح لهم حزب يمثّلهم ويتبنّى مطالبهم بعد محاولات عديدة لم يُكتب لها النجاح. وهذا التمثيل لا يقتصر عليهم وحدهم بل يتعدّاهم ليشمل مختلف الفئات التي همّشتها سياسات الحكومات التركية المتعاقبة بما فيها حكومة العدالة والتنمية نفسها. حزب الشعوب بهذا المعنى هو حزب المهمّشين الذين لم يجدوا من يستمع اليهم طيلة عقود من هيمنة اليمين واليسار القوميين على السلطة في تركيا، وحين يُحاكَم هذا الحزب بشخص رئيسه وتُسحَب منه شرعية تمثيله لهذه الفئات على وقع طبول الحرب التي تقرعها السلطة فهذا يعني أنّ استيعاب هؤلاء داخل مؤسّسات الدولة قد انتهى، وان عودتهم إلى الشارع ليست إلا مسألة وقت. وكما يبدو من طبيعة العمليات التي يشنّها حزب العمال فإنّ الرفض لفكرة العنف ضدّ الدولة وأجهزتها لن يكون على أجندة المحتجين هذه المرّة، وهذا واضح من ردود الفعل التي أبداها حزب الشعوب حتى الآن، حيث لا يزال يرفض إدانة العمليات وإن لم يعلن تأييده لها، وهو ما سينعكس بالضرورة على توجّهات القواعد التي سيتطوّر احتجاجها باتجاه المسّ برموز الدولة الأمنية، إن لم يكن بشكل مباشر، فعلى الأقلّ رمزياً، على اعتبار أنّ هذه الرموز هي التي تقود الحرب ضدّ «الشعب» حالياً. بالطبع لن تكون هذه السياسة محلّ إجماع بين الأتراك وستحدث انقساماً عميقاً في صفوفهم، ولكن الانقسام هنا يبدو مبرّراً أكثر، وقد يقود المجتمع والعملية السياسية إلى اصطفافات راديكالية يمكن على أساسها الانتهاء من الإفرازات الطائفية التي تسبّبت بها سياسات العدالة والتنمية. وهنا يتوجّب على المجتمع التركي أن يختار بين التأييد المستمرّ لحزب تتسببّ سياساته بشروخ مستمرّة داخل المجتمع أو المفاضلة بين الأحزاب على أساس السياسات والبرامج وليس الانتماءات المسبقة، وفي هذه الحالة لن يكون العدالة والتنمية هو الخيار الوحيد، وبالتالي سيكون الاعتراض على سياساته جزءاً أساسياً من الحصانة الاجتماعية ضدّ التمزق والانقسام على أساس قومي أو طائفي. وهذا بالضبط ما يحاول حزب الشعوب فعله منذ البداية، حيث يقدم عبر تغليبه الانتماء السياسي والطبقي على الجهوي والطائفي نموذجاً للأتراك الراغبين في الخلاص من الإرث الذي خلّفته سياسات الهوية بشقيها العلماني والاسلاموي، ولذلك تخاف منه السلطة وتخشى من تأثيره على القواعد التي لا تنحاز إليها بشكل مباشر. حتى وهو يغطّي عمليات حزب العمال الكردستاني لا يبدو تأييده نابعاً من انحياز جهوي أو قومي بل بالعكس يعتمد في مواقفه المنحازة بشكل واضح لهذا الحزب على تحليل دقيق وواضح للواقع ومساراته. إذ تقوم رؤيته للأحداث الحالية على اعتبار ما يفعله الجناح العسكري لحزب العمّال ردّاً متوقعاً و»طبيعياً» على عنف السلطة ضدّ الأكراد واحتضانها مجموعات داعش الناشطة ضدّهم في الداخل التركي. وهو ليس بالتفسير الجديد على أي حال، حيث يُعتبَر هذا المنهج في الفهم وقراءة الواقع أساسياً في تفسير كثير من الحركات والأحزاب السياسية المؤيدة للمهمّشين وحركات التحرّر الوطني لما يواجهها من تحديات إزاء السلطة. وعندما يتبناه الحزب ويعتمد عليه في تحليله للواقع لا يكون قد أظهر انحيازاً ميكانيكياً لجناحه العسكري كما يُتهم دائماً من جانب السلطة وأبواقها. مثلاً في تصريحين أخيرين له يُقدّم صلاح الدين دميرتاش نموذجاً عن هذا الفهم، حيث يقول في تحليله للعمليات العسكرية التركية ضدّ مواقع حزب العمال الكردستاني: «المهمة الرئيسية للعملية العسكرية التركية تتمثل في منع قيام وحدة كردستانية في شمال سوريا». ثم يضيف: «جرَّ حزب العدالة والتنمية الحاكم البلاد إلى هذا النزاع للثأر من خسارته الغالبية في البرلمان عقب انتخابات 7 من يونيو/ حزيران، فيما تمكن حزب الشعوب الديمقراطي من الدخول إليه أول لمرة».

خاتمة

ما يحصل في تركيا إذاً وفقاً لكلام دميرتاش هو نتاج لهذه الخسارة التي قادت حزب العدالة والتنمية إلى إنهاء عملية السلام مع الأكراد والشروع في عمليات عسكرية تحت غطاء دولي لاستئصالهم سياسياً. بهذا المعنى لن تكون العملية مضمونة العواقب لأنّ الغاية من الاستئصال هذه المرّة سياسية وليست عسكرية، وفي السياسة كلّ شيء ممكن إلا سحق الكتل الاجتماعية ومنعها من التعبير عن نفسها. إذا فكّر أردوغان في ذلك جيداً فسيجد أنه أمام طريق مسدود، وعليه بالتالي أن يراجع استراتيجيته الخاصّة بتحطيم البيئة السياسية الكردية قبل أن يخسر كلّ ما بناه خلال السنوات الماضية، ويتحوّل كما يقول الأميركيون إلى «مجرّد بطّة عرجاء».
* كاتب سوري