لست ألوم الرأي العام الغربي المؤطر ضمن ما تنقله إليه وسائل الإعلام العالمية التي تحكمها السياسات واللوبيات الصهيونية، ولا الرأي العام، المسلم والمسيحي، المثقل بتاريخ طويل من القمع والحروب والدماء. هؤلاء كما اولئك ليس لهم سوى ما يرونه من «إسلامويين» ينتهجون العنف سبيلاً إلى كل مآربهم ومنطقاً في كل دعواتهم. لكنّ اللوم هو على «المثقفين» كما عرّفهم هشام شرابي، من أمثال أنسي الحاج، المثقفين الذين يحملون هموم الشعوب انطلاقاً، كما هو مفروض، من فهم مجرد، واع للحقائق التاريخية دون تأثر بأحداث معيّنة، أو خلفيّات تاريخية مغلوطة. اللوم على من يمزج بين الإسلام بما هو عقيدة دينية وبين ممارسة المسلمين لها عبر التاريخ. بداية، لاحظتم عن حق أن «بن لادن لم يستطع أن يكون أكثر من إرهاب أعمى في مواجهة إرهاب دولي متطور». إذاً، هذا الإرهاب «الإسلامي» ليس سوى رد فعل على إرهاب «صليبي». طبعاً، لست ممّن يدعون إلى رمي «وردة في بحر العرب» إكراماً لمن «كرّه العالم بالإسلام» مع أن «أكثر من فتكت بهم القاعدة هم مسلمون». لكنني أدعو إلى عدم تحميل الإسلام وزر ما اقترفته أيدي المسلمين. فهل قيام بعض المسيحيين من سياسيي الغرب ـــــ وإن ادّعوا العلمانية ـــــ بإرهاب دول العالم الثالث وإفقارها واستعمارها ونهبها هو دليل على أن رسالة المسيح هي التي دعت الى هذه الوحشية؟ لقد جزمتم بأن «الثورة الدموية» لا تستطيع أن تكون «مسيحية»، وأنا أعجب لهذا التأكيد بعد تاريخ دموي طويل مورس باسم الكنيسة والصليب والمسيحية. ألم تكن محاكم التفتيش والإعدامات والتنكيلات التي حصلت آنذاك بقيادة الكنيسة؟ بالتأكيد سمعتم بالمذابح التي ارتكبها المسيحيون الأوائل بحق اليهود والوثنيين وخصوصاً في الاسكندرية. كذلك ذبح جورج دو كاباديون (الكبوشي) والتنكيل بجثته برضا عدد من الكهنة والرهبان. ألم تكن الحروب الصليبية التي لم تتوان عن سفك الدماء وارتكاب أبشع المجازر بدعوة من الكنيسة وبمباركتها، وأحياناً بقيادتها؟ ما تفسيركم لحرب المئة عام في اوروبا التي أريقت فيها دماء الآلاف بين المذاهب المسيحية؟ ومجزرة سانت بارتيليمي وقبلها مجازر الكنيسة بحق فرسان الهيكل الكاثوليك حتى وصل الدم الى الركب داخل الكنائس؟ ما تفسيركم للصليب النازي الذي، تحت لوائه، ارتكبت أبشع المجازر في العصر الحديث؟ أليست الكنيسة هي التي أمرت بحرق اليهود بعد زلزال لشبونة لتجنّب زلزال آخر؟ ألم يسمع جورج بوش الابن نداء ربه يوجهه في حروبه وسياساته اللاأخلاقية؟ هل يعني كل ذلك أن المسيح قد دعا الى هذا الإرهاب الفظيع؟ إن من دواعي الأسف ألّا يستطيع مثقف أن يميّز بين ما دعا إليه محمد وما مارسه من تبعوه. بصرف النظر عن الناحية الدينية والوحي وما هنالك، اذا نظرنا الى محمد بما هو قائد سياسي، أين كانت ستؤدي رسالته لو لم يحمل السيف ويبدأ القتال لإرساء قواعد حكمه؟ إن انتهاجه لهذا السبيل، اي الجهاد والفتح، هو تكتيك سياسي أثبت عبر التاريخ صوابيته. لقد كان من المستحيل بعد السنوات الطويلة من المعاناة أن تبنى الدولة الاسلامية ويقضى على أعدائها لولا هذه السياسة الحربية التي اتبعها محمد. ولم يكن للإسلام ان يصل الى مشارق الارض ومغاربها لولا ذلك. وهذا السبيل كان هو القانون السائد في ذلك الحين. فليس تسامح المسيح هو الذي أدّى الى هذا الانتشار الواسع للمسيحية في العالم، بل اعتناق الامبراطور الروماني في ذلك الحين للمسيحية وفرضها بالقوة على رعاياه في كل أنحاء دولته. ولم تصبح بريطانيا «الأمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس» بالتبشير. ولم تصبح الدول العظمى المعاصرة كذلك بفضل إعلانات الحقوق والحريات والمواثيق الدولية التي تدّعي التمسك بها. على كل، لم يكن السيف الذي حمله محمد موجهاً لارتكاب المجازر والفظائع كما فعل مسلمون من بعده. وأبرز الشواهد دخوله مكة والتسامح الذي أبداه حقناً للدماء. لقد تكررت دعواته بعد ذلك الى جيوشه بعدم الاعتداء على البشر والشجر ودور العبادة والممتلكات وغير ذلك من الوصايا التي لا تدل الا على أن الحرب ليست الا وسيلة يجب حصرها ضمن سلوكيات أخلاقية بعيدة عن الإرهاب.
لقد مارس كثير من المسلمين بعد ذلك أبشع انواع الاستبداد والفساد والعنف، وأعطوا صورة بشعة عن دين من الأكيد أن أولى مهماته هي الناحية الروحية في العلاقة بين المخلوق والخالق. لكن الدعوة الى جعله ديناً محض روحي تعني تحويله الى أحد الأحزاب العقائدية التي تدير ندوات وتدعو الى محاضرات دون أن يكون لها أي تأثير على سير المجتمع. إن الحل معقّد ويحتاج الى تحولات تاريخية جذرية تبدأ: أولاً، برفع الظلم عن المجتمعات الاسلامية بتحريرها من الطبقات الطاغية التي تكتم أنفاسها، لكن ليس للوصول الى ديموقراطية مزيّفة لا تكون اكثر من مسرح دمى تحرّكه اصابع امبريالية خفية، نيتها تجاه هذه الشعوب أسوأ من نيات الحكام السابقين.
ثانياً، العمل على نهضة هذه الشعوب وتوعيتها لا «بتغريبها» أي افتتانها بالغرب لدرجة التّنكر لأصولها وماضيها المشرّف (رغم كل النقاط السوداء التي أسلفناها) وتعريفها إلى الجوانب المشرقة من هذا الماضي (بعلومه وفنونه وتسامحه وتقدمه....). إن الانبهار امام الغرب ومحاولة تقليده ومجاراته على العماء هو أشبه بمن يبني بيتاً دون أسس، لا بد أن ينهار سريعاً. إن البناء يكون متيناً عندما يستند الى أصولنا وجذورنا التي نكون فخورين بها مع الاستفادة من التجربة الاوروبية لإعادة تكوين الحضارة الاسلامية، بتزويدها ما فاتها خلال قرون الظلام والجهل.
ثالثاً، تطوير المفاهيم الدينية، لا التنكر لها، بحيث تصبح صالحة للتطبيق في القرن الحادي والعشرين. إن الإرهاب ليس المشكلة الوحيدة التي يعانيها الاسلام في عصرنا هذا، بل الأحكام الشرعية الثابتة منذ نزول الوحي دون تقدم وتطوير. والتقدم والتطوير لا يعنيان تغيير أسس الدين بل تفسيرها بما يتماشى مع التطورات الحديثة ومتطلبات العصر. لم يعد جائزاً هذا الجمود الذي أصاب حضارتنا حتى راحت موروثاتنا تعاني الاهتراء، وبات الذين يطبقون حرفية النص الديني أشبه بشخصيات خارجة من كتب التاريخ القديمة.
رابعاً، إن «أشباح السيف والرمح والخنجر والغزو وإيثار الاستشهاد على السلامة، دفعاً للظلم ومناصرة للحق وذوداً عن الحياض» ليست صورة بشعة توجب الخجل. بل هذا بالضبط ما يفعله كل جندي في أية دولة «حضارية» أو تدّعي الحضارة اليوم: إنهم اليوم يقصفون بالطائرات والبوارج الحربية، ويطلقون القذائف والرصاص وغيرها دفعاً للظلم ومناصرة للحق وذوداً عن الحياض. إنهم طبعاً لا يؤثرون الاستشهاد على السلامة، ربما لأن السلامة عندهم هي الجنة والعيش الرغيد اللذان ينشدهما الاستشهاديون في الآخرة، إذ لا وجود لهما في بلاد المسلمين. عندما يصل الإنسان المسلم الى الجنة على الأرض، التي وصل اليها الإنسان في الغرب، عندما يعيش غير خائف وغير مخنوق وغير محتاج، عندها سيتمكن من رفاهية إنشاد «مزامير الحب» لإلهه!
إن مكافحة السلفيين والمتعصبين الذين يشوّهون معنى الإسلام تكون يوم لا يعودون هم الوحيدين الثائرين على المستعمر او الوحيدين الذين يتباهون بذلك الماضي حين كان الاسلام القوة العظمى في العالم ويحاولون استرجاعه. يبطل مبرّر وجودهم عندما ترفع «الحضارة الغربية» وصايتها المشبوهة عنا وتعيينها لحكامنا حسب مفاهيم ديموقراطية مشوّهة لا تخدم الا مصالحها هي وتقضي بالتأكيد على أي فرصة لنهوض شعوبنا.
الحلّ ليس بالقضاء على الفكر الإسلامي، بل بتشذيبه وإخراجه من الفوبيا التي يعيشها تجاه الآخرين ليتعايش مع الفكر المسيحي والعلماني وحتى الملحد، وغيره، في حوار حضاري راق يبتعد عن أي تكفير او قهر او قمع. وإني أربأ بمفكر كبير كالسيد أنسي الحاج أن يكون ـــــ دون قصد طبعاً ـــــ جزءاً من الحملة التي تشنّ ـــــ عن قصد طبعاً ـــــ لتشويه صورة الإسلام في العالم اليوم.
* كاتبة لبنانيّة

إيضاح من صاحب المقال:

عندما قلت في مقال «من حسن الصبّاح إلى بن لادن» إن «الثورة الدمويّة لا تستطيع أن تكون مسيحيّة» عنيت، كما هو واضح، أن سفك الدم مخالفٌ للروح المسيحيّة مخالفةً جذريّة، مما يستتبع أنَّ كل عمل دمويّ ارتُكِبَ تحت ستار المسيحيّة هو جريمة ضد المسيحيّة، والمسيحيّة الحقّة منه بَراء.
وهذا ما يقوله حكماء المسلمين عندما يتنصّلون من المجازر والأعمال الإرهابيّة التي تُرتكب باسم الإسلام.
والذين يُرهبون بلدان العالم الثالث ويفقرونها ويحتلّونها وينهبونها ليسوا «بعض المسيحيّين من سياسيي الغرب» بل هم بعض السفّاحين من سياسيي الغرب. وهؤلاء لا دين لهم. وجرائمُ الكنيسة والملوك ضدّ اليهود والعرب لم تكن «جرائم مسيحيّة» بل جرائم ضدّ المسيحيّة ارتكبها متوحّشون ومتعصّبون، لا نريد لمسلمينا البناء عليهم لتبرير ردود فعل من الطبيعة نفسها.
المسيحيّة هي المسيح لا السلطة. المسيح أنتي ـــــ سلطة. الغرب على العموم لا يُقيّم مسيحيّاً إلّا في حضارته الإبداعيّة، الفكريّة والأدبيّة والفنيّة، وفي توصّله إلى تقديس حقوق الإنسان. لماذا في حضارته الإبداعيّة؟ لأنّها قامت على الحريّة لا على التحريم. وحيث ساد التحريم طَلَع مَن ينتهكه وَوَجَدَ مَن يحميه.
لعلّ من واجبنا الكفّ عن تبرير الإرهاب بالبؤس الاجتماعي والفقر. كأننا نقول إن التسامح وَقْفٌ على السعداء. لا فضل للمترف بأن يتسامح. الفضائل إمّا أن تكون خصالاً عامّة أو لا تكون.
أمّا اتحادي بمشكلات محيطي، كشرقي وكعربي، وكإنسان أوّلاً وأخيراً، فواضحٌ لمَن يعرفني، وأحد براهينه هو في ما يتحامل عليّ محيطي بالذات أحياناً بسببه، وبسبب رفضي التعامي عنه. ومما يُعزّيني في مواجهات كهذه أنني عانيتُ مثلها من أبناء طائفتي ومذهبي مثلما عانيتُ وأعاني وقد أعاني من أبناء الطوائف الأخرى. وهذا يثبت، إذا كان ثمّة حاجة لإثبات، أن الحلّ لعُصابيّاتنا الدينيّة يكون شاملاً أو فلا حلّ.
إنّ رغبتي، أخيراً، بأن نخرج معاً، أنا ومحيطي، ومحيطي الإسلامي قبلي وأكثر منّي، من أَسْر الصور الجهنميّة التي لا تزال تُغذّي مخيّلة كارهينا وتُسلّح أعداءنا لرمينا في المزيد من التراجع، هذه الرغبة هي، في عرفي البسيط، شهادةٌ كافية على هذا الاتحاد.
أُنسي الحاج