«داحس وغبراء» أخرى اندلعت مقدماتها الإعلامية قبل بضعة أيام بين العراق والكويت. سلطات الإمارة وضعت الحجر الأساس أخيراً لميناء ضخم أطلقت عليه اسم ميناء «مبارك»، الذي يعدّه بعض المؤرخين المؤسس الفعلي لإمارة الكويت. اسم الأمير «مبارك» يثير في ذاكرة الكويتيين والعراقيين مشاعر تتّسم بالغرابة والحدَّة. فقد أقدم هذا الأمير سنة 1896على ذبح شقيقيه المتشاركين في حكم المنطقة التي باتت تعرف اليوم بالكويت، الشيخين جراح ومحمد، ابنيْ صباح الثاني، وانفرد بالحكم. فرَّ إثرها أولاد الشيخين الذبيحين إلى البصرة ليدركا ثأرهما من عمِّهما بمساعدة واليها حمدي باشا، لكنَّ العمَّ أفشل مسعاهما بأنْ أغدق الأموال والهدايا على والي بغداد آنذاك رجب باشا (ص 71 من «قصة الخليج» للمؤرخ لبيب عبد الساتر). اليوم يعود «مبارك» لكنْ على هيئة ميناء، اختارت له حكومة الإمارة موضعاً يقع شمالي جزيرة «بوبيان» الجرداء وغير المسكونة والملاصقة للمياه الإقليمية العراقية، ووضعت ركائز المشروع الأساسية وبدأت الشركات الأجنبية المكلفة بالعمل فوراً وبحماسة.قبل هذا الحدث بأربعة أعوام تقريباً، كانت السلطات العراقية قد وضعت الحجر الأساس لميناء كبير أطلقت عليه اسم ميناء «الفاو الكبير»، لكن البيروقراطية والفساد الحكومي أعاقا المضيّ قدماً في تنفيذه. ميناء مبارك، كما يقول المتخصصون، سيجعل من الشريحة البحرية الصغيرة التي تُركت للعراق بعد إقامة دولة الكويت، أشبه بمستنقع بحري ضحل ومحاصر لا يصلح لأي مشروع. أما العنق الملاحي العراقي البالغ عرضه الآن 4 كيلومترات، فسيصبح عرضه، بعد إنجاز ميناء مبارك، كيلومتراً واحداً، كما قال خبراء لصحيفة «الحياة»، عدد 20/5/2011. خلص الخبراء إلى أن الاقتصاد العراقي سيكون تحت رحمة سكين ميناء «مبارك» الذي سيقطع ثلاثة أرباع العنق الملاحي العراقي كما سَلَفَ، وسيقضي عملياً على مشروع ميناء الفاو الكبير، إضافةً إلى تأثيره الخانق على ميناءين عراقيين صغيرين آخرين هما «أم قصر»، الذي خسر العراق ما يقرب من نصف مساحته بموجب قرار الأمم المتحدة لترسيم «بصيغة الفرض» للحدود، وميناء «خور الزبير» الملاصق له. خبراء القانون الدولي يؤكدون أنه ليس من حق أية دولة تجاوز المياه الإقليمية لدولة أخرى، لكن المنطقة التي يدور عنها الحديث لا تزال موضعَ أخذ وردّ بين العراقيين والكويتيين، لأنّ الأمم المتحدة تدخّلت فوقياً وحسمت موضوع الحدود البرية والبحرية بين البلدين بعد حرب الخليج الثانية، دون أخذ هواجس العراق واعتراضاته في الحسبان. إنها المرة الأولى التي تتدخل فيها الهيئة الدولية لفرض تعديلات على حدود دولية بين دولتين في التاريخ، والعراق المحتل والمدمَّر الذي ضيعته مغامرات صدام حسين ليس بمقدوره الاعتراض.
كالعادة، جاءت ردود الأفعال العراقية الشعبية حادّة وشاملة ورافضة بقوّة للمشروع الكويتي، فسُيِّرَت تظاهرات في البصرة المحاذية للكويت ليومين متتاليين، رفع المتظاهرون خلالها شعارات جذرية مطالبة بالدفاع عن مصالح العراق، دون أن تنسى الربط بين ما سمّاه المتظاهرون البصريّون عدواناً ومؤامرة كويتية وتعدّيات إيران على حقل «الفكة» النفطي، أو تعديات تركيا وحبسها لمياه الرافدين. من الواضح أن ردود الأفعال الشعبية موجهة ضمناً إلى الحكومة العراقية وتقاعسها وتخبطها، مثلما هي موجهة إلى المشروع الكويتي. أما ردود الأفعال الحكومية، فجاءت مفاجئة وأقرب إلى الفضيحة. وزير الدولة الناطق باسم الحكومة علي الدباغ، أدلى بتصريحات لصحيفة كويتية، مع اشتعال الأزمة، قال فيها إنَّ العراق لا يعترض على مشروع ميناء مبارك. أثارت تصريحاته غضباً شديداً لدى الجمهور العراقي وبعض الساسة، ما حدا بالوزير إلى التراجع عنها متّهماً الصحيفة الكويتية باجتزاء تصريحاته وحذف أشياء مهمة منها. ووعد بأنَّ الصحيفة ستنشر اللقاء كاملاً لاحقاً. بعد خمسة أيام، تنبّه الدباغ إلى أنَّ الصحيفة قد حرّفت تصريحاته، وبعدما قال إنها ستعيد نشر التصريحات كاملة، مرت الأيام ولم يحدث ما وعد به!
حكومة المالكي استفاقت متأخرة، ولم تفوّت الفرصة دون أنْ تلجأ إلى الحل السحري الذي فضّلته وتفضّله دائماً، وهو «تأليف لجنة» من وزارتي الخارجية والنقل لمناقشة الموضوع والاتصال بالجانب الكويتي. وتأليف اللجان في العراق غدا أشبه بحبوب الأسبرين التي يصفها طبيب القرية لجميع الأمراض والأوبئة والكوارث.
جهات سياسية، لعلّ أبرزها قائمة «العراقية البيضاء»، المنشقّة عن «العراقية الأم»، حاولت استغلال الحدث على نحو فعّال، فأطلقت تصريحات متحدية وعالية النبرة ضدَّ الكويت ومشروعها، ثم نشأ نوع من تحالف الأمر الواقع بينها وبين جهات برلمانية أخرى كالكتلة الصدرية لمجابهة مخاطر الميناء الكويتي على العراق. جهات أخرى أرادت أن تبدو أكثر جذرية، فطالبت بطرد السفير الكويتي وإغلاق السفارة في بغداد، لكن الضجة ما لبثت أن هدأت وانصرف البرلمان العراقي إلى التمتّع بإجازة لمدة شهر كامل، تاركاً خلفه 250 مشروع قانون دون إقرار أو مناقشة!
الجانب الكويتي بدا هادئاً في البداية، بل وغير مكترث، ثم لجأ إلى سلاح الاتهامات التشنيعية التي وجّهها إلى أشدّ المستنكرين لمشروعه من العراقيين، واصفاً إياهم بـ«البعثيين الصدّاميين»، وخصَّ بالاسم منهم النائب عالية نصيف من «العراقية البيضاء»، كما أكّد الجانب الكويتي أنّ مشروعه سيستمرّ قدماً. ذروة ردود الأفعال الكويتية تمثّلت في المناورات الحربية التي أعلنت الإمارة إجراءها في جريرة «بوبيان» ذاتها، يشارك فيها سلاح المدرعات، وسط قرع صاخب لطبول الحرب وعناوين متشنجة من قبيل: قواتنا مستعدة لصد أيّ هجوم! كما عنونت صحيفة «السياسة» الكويتية تقريرها الحربي المبكر.
خبراء ومتخصصون قالوا إن الكويت ليست بحاجة إلى ميناء جديد لصادراتها ووارداتها البحرية، فلديها العديد من الموانئ، وساحلها على الخليج طويل بما فيه الكفاية، فهي شبه جزيرة تقريباً، لكنها تريد إنشاء هذا الميناء للاستفادة منه واستثماره في الساحة العراقية ذاتها ليكون ميناؤها هو رئة العراق الوحيدة على الخليج. يمكن أن يقال هنا إنَّ هذا المشروع هشّ ولا مستقبل له، ومن الممكن وأْده تماماً حتى إذا أُنجز بقرار عراقي رادع يحظر التعامل مع ميناء مبارك ليتحول من ثم إلى ركام من المعدات والأرصفة المهجورة، لكن ماذا عن الثمن السياسي والنفسي والاجتماعي الذي ستتركه هذه المغامرة الاستفزازية على مستقبل العلاقات بين البلدين والشعبين الشقيقين، وهل فكّر مطلقو هذا المشروع من الجانب الكويتي في ذلك الثمن؟
إذا كانت ردود الأفعال العراقية، والشعبية منها بخاصة، قد طبعتها العاطفة ومشاعر الاستهداف لـ«كريم قوم ذُلَّ» بفعل الاحتلال الأجنبي والتدمير الذي جاء به، إضافةً إلى استمرار الكويت في عرقلة إخراج العراق من وطأة عقوبات البند السابع، واستمرارها في رضع المليارات من الدولارات كتعويضات عن غزو صدام حسين لها، فإن ردود الأفعال الكويتية لا تخلو من البواعث الثأرية والاستقواء بالأجنبي، وهو هنا الحليف الأميركي الذي يصارع ويبتزّ حلفاءه حكام العراق اليوم من أجل البقاء على أرض الرافدين. ثمة من قال، ولقوله بعض الوجاهة والحجج الميدانية، إن مشروع «ميناء مبارك» برمّته ليس إلا مخطّطاً أميركياً لابتزاز الجانب العراقي: مدِّدوا بقاء جيوشنا على أرضكم وسننقذكم من سكين «مبارك» جنوباً، وربما من سدود «أتاتورك» شمالاً!
وأخيراً، فإن ردود الأفعال الكويتية لم تخلُ من تأثيرات عُقْدَة «الصدّاميّون قادمون»، مع أن هذه العقدة لم يعد لها ما يبرّرها بعدما أمسى نظام صدّام وتجربته في الحكم شيئاً من رماد التاريخ.
في الكويت، كما في العراق، لم تخلُ الساحتان من أصوات العقلاء الذين ينظرون إلى المستقبل ويفكرون بعقلية بنّاءة وإيجابية، وخصوصاً في الكويت ذات التجربة البرلمانية العريقة. ويعوّل المراقبون المتفائلون على تعالي تلك الأصوات العاقلة والمعتدلة قريباً لِجَبِّ هذا الفتيل وإنهاء مسبّبات هذه الأزمة، بما يخدم مصلحة الشعبين الشقيقين ومستقبل الأجيال القادمة. لا العراق بحاجة اليوم إلى مزيد من المعاناة والخنق والحصار والعداوات، ولا الكويت سترحل من جوار العراق إلى كاليفورنيا برحيل الاحتلال الأميركي من أرض الرافدين... الكلمة الأخيرة ستكون للقدر الجغرافي والتاريخ المشترك، اللذين يحكمان حاضر ومستقبل البلدين والشعبين، لا للمعادلات والتحالفات السياسية المتغيرة باستمرار.

* كاتب عراقي