من حقّ عائلات ضحايا بن لادن أن ينظروا إلى الأمر كنوع من «الإغلاق» بلغة علم النفس الحديث. لكن الإغلاق مستحيل في ما يتعلّق بأبرياء قضوا في تفجيرات قاعديّة حول العالم (باستثناء إسرائيل التي حظيت وتحظى برعاية خاصّة من تنظيم «القاعدة»). تركت «القاعدة» أنهاراً من الدماء، كما أنها قدّمت لأعداء العرب والإسلام خدمات مجّانيّة، مثلها مثل تنظيم أبو نضال البائد. لوّث التنظيم أفعال مقاومة الاحتلال في العراق، كما أنه خلط في أذهان العالم بين الدين وعقيدة التكفير والجهاد المتفلّت من أي عقال.
لكن بن لادن يجب ألا يُدرّس كظاهرة في داخل الدين الإسلامي أو الثورات العربيّة المعاصرة. يجب ألا يُدرّس كظاهرة إجراميّة وإفراز للسياسة الخارجيّة للولايات المتحدة. هذا ما عناه جون كولي في كتابه عن «الحروب غير المُقدّسة» (ينتمي كولي إلى صنف مختلف من المراسلين الأجانب، فيما تحتفي الصحافة العربيّة بأمثال توماس فريدمان الذي يناصبنا العداء ويفتقر إلى الحدّ الأدنى من العلم والمعرفة والذكاء التي لدى جيل سبقه من المراسلين الأجانب ـــــ حتى صحيفة «الشروق» تنشر مقالات فريدمان مُترجمة).
قد تكون ظاهرة بن لادن انتهت قبل مقتل بن لادن. قد تكون ظاهرة بن لادن نتاجاً لمرحلة أفلت بعد اندثار الحرب الباردة. الولايات المتحدة تسعى إلى نصر مبين. التهاني الذاتيّة سمة من سمات الثقافة الأميركيّة. أصبح بن لادن عنواناً لإرهاب عانت منه أميركا وغيرها قبل 11 أيلول وبعده. لكن جذور الظاهرة البن لادنيّة غائبة في تحليلات الإعلام الأميركي. يصبح بن لادن نتاجاً لحقبة الحرب الباردة، ولنهايتها المتعثّرة. بن لادن أميركي أكثر مما هو عربي، وهو وهّابي متطفّل على أديان الجزيرة العربيّة.
ليس بن لادن ظاهرة مقطوعة عن جذورها الطائفيّة والسياسيّة. خلفيّة الرجل باتت معروفة. كيف وقع تحت تأثير عبد الله عزّام الذي كان يجول في الأرض بالنيابة عن الأنظمة الخليجيّة الشخبوطيّة المتحالفة والمتعاونة مع الإدارات الأميركيّة المُتعاقبة في الحرب الباردة. والحرب الباردة كانت مستعرة في المنطقة العربيّة، ليس من خلال الارتداد الذي أنتج الحرب العربيّة الباردة بين عبد الناصر وخصومه في حقبة أرّخ لها مالكولم كير أفضل تأريخ وتحليل، وإنما من خلال الحروب الذي خاضتها أميركا في منطقتنا، بالاشتراك مع الحليف الخليجي الرجعي (وكان النظام الإيراني مرضيّاً عنه أيّام الشاه من قبل محرّضي آل سعود (العروبيّين هذه الأيّام، مثلهم مثل سمير جعجع وفارس سعيد) لأنه شارك السعوديّة رجعيّتها وتحالفها الضمني ـــــ وغير الضمني في ما بعد ـــــ مع إسرائيل). كانت أميركا وحلفاؤها الرجعيّون (الذين جعلوا من بيروت والإعلام اليميني فيها مقرّاً ومستقرّاً) يطاردون كل من حمل فكراً يساريّاً وتقدميّاً وعلمانيّاً. النقابي الشيوعي المناقبي، مصطفى العريس (هذا الذي يستحق أن يُطلق اسمه على ساحات وشوارع وجادات بدلاً من المستعمرين والمُستشرقين والمُحتلّين وباعة الوطن المتجوّلين من أمثال رفيق الحريري، أو صائب سلام)، كان لا يحطّ في عاصمة أوروبيّة لحضور مؤتمر تقدّمي أو عمّالي من دون أن يكون طريد أجهزة استخبارات عربيّة وغربيّة. كان أقطاب وأفراد من اليسار يتعرّضون للاغتيال وللخطف على أيدي تلك الأجهزة الرجعيّة عينها. رفع أي شعار تقدّمي كان يعرّض الفرد للاضطهاد، وكانت سلطات الأمن اللبنانيّة تقوم بالمهمّة الرجعيّة مقابل المال، فيما كانت الأجهزة الشخبوطيّة تقوم بالمهمّة نفسها مجّاناً نظراً الى القناعة والعقيدة والارتهان الذي رضعته مع الحليب.
تزامن الاحتلال السوفياتي لأفغانستان مع صعود واحد من أسوأ الحكام العرب وأكثرهم فساداً (على المستوييْن الشخصي والسياسي): الملك فهد بن عبد العزيز. لم يكن راضياً عن مستوى الخدمات التي تؤدّيها المملكة (الرجعيّة المتخلفة في الزمن) للسيّد الأميركي القهّار. أراد أن يرتقي بالعلاقة إلى مستوى يحلم به أمراء آل سعود وملوكه في المنام: مستوى التحالف الأميركي مع إسرائيل. (وبعدما فقد آل سعود الأمل في الارتقاء بالعلاقة إلى ذلك المستوى بعد 11 أيلول، قرّروا التحالف المباشر مع إسرائيل للاقتراب أكثر من أميركا). قدّم الملك فهد ومعاونه بندر خدمات المملكة لسند السيّد في كل دول العالم: من أميركا اللاتينيّة إلى أفريقيا إلى آسيا وأوروبا (وفّرت السعوديّة المال لدعم الأحزاب اليمينيّة في إيطاليا لإفشال نصر مؤكّد للحزب الشيوعي الإيطالي في السبعينيات، فيما حاكت المؤامرات الخبيثة والإرهابيّة ضد النظام الماركسي في اليمن، وأقامت علاقات وطيدة مع دولة نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا ووفّرت له النفط).
لم ينبت بن لادن من فراغ، ولم تولد الحركة الإسلاميّة الرجعيّة عام 1979. بدأت قبل ذلك بكثير. عملت الولايات المتحدة والأردن والسعوديّة والكويت وقطر (وإسرائيل بصورة خفيّة) على احتضان الحركات الإسلاميّة التي حاربت (وحوربت من قبل) جمال عبد الناصر. شكّلت السعوديّة وقطر والكويت الحاضن الطبيعي للفكر الرجعي المُناهض للفكر التقدمي الذي كان ينتشر في كل أرجاء العالم العربي. لم يهنأ الحلف الرجعي لأفكار عن تحرّر المرأة وعن صراع الطبقات وعن مجاراة الاتحاد السوفياتي في العلاقات الدوليّة. لم يكن الإسلام الرجعي إلا ذراعاً للإمبراطوريّة الأميركيّة، كما كان أداة ضعيفة لضرب حركات اليسار والقوميّة العربيّة وفكرهما. لكن الإسلام الرجعي كان مُحتقراً عند الناس، وخصوصاً بعدما قام بهجوم مبكِّر على جمال عبد الناصر ونظامه. كما أن الإسلام الرجعي تحالفَ مع أقلّ الأنظمة العربيّة شعبيّة آنذاك (ليس للحلف السعودي منافسون في حقبة اليوم). خفتت الأصوات الإسلاميّة في حقبة الخمسينيات والستينيات وانشغلت عن قضيّة فلسطين بنقاشات عقيمة عن الثواب والعقاب وعن لباس المرأة. أما الصراع مع إسرائيل، فلم تسهم الحركات الإسلاميّة (في تلك الحقبة) فيه، باستثناء كم كريه من الخطاب المُعادي لليهود كيهود.
في مواجهة الاتحاد السوفياتي والشيوعيّين الأفغان، تشكّل تنظيم عالمي للجهاد الأميركي ـــــ السعودي ـــــ الباكستاني. لم يُنفق على جيش مثلما أُنفق على جيش «المجاهدين» الأفغان: كان ياسر عرفات يحسب بحسرة حجم الإنفاق السعودي السخيّ على «مجاهدي» أفغانستان، مقابل تقتيرهم على ثورة شعب فلسطين. كان برنامج «المجاهدين» يملي العودة إلى تزمّت القرون الوسطى ومحاربة تحرّر المرأة والتنوير: بكلام آخر، تلاقى برنامجهم مع عقيدة الوهّابيّة السعوديّة التي لا تزال تسحر ألباب الليبراليّين العرب. لم يكن قمع النظام السوفياتي والأفغاني ذا بال بالنسبة إليهم. كيف لا ولم يشكّل قمع آل سعود أي مشكلة لأي إدارة أميركيّة على مرّ تاريخها. تجمّعت عناصر متنافرة ومتنوّعة من عتاة المتعصّبين والموتورين والإرهابيّين، وكانوا يُستقبلون في عواصم الغرب كأبطال، ويُشار إلى هؤلاء الإرهابيّين بالبنان. لم يكترث أي من دعاة التحرّر الغربي لآراء قادة «المجاهدين» عن المرأة ودور الدين وأحكام العقاب. المهم هو بعث إرهاب متسربل بالدين (الدين المتصالح مع الجانب الأميركي في الحرب الباردة) كي يقوّض دعائم الحكم الشيوعي في أفغانستان. الدعاية الأميركيّة ـــــ السعوديّة عن فظائع الجيش السوفياتي في أفغانستان لا سابق لها: كيف تقارن الاحتلال السوفياتي باحتلال أميركا للعراق وأفغانستان؟ لم يؤدّ احتلال أميركي إلى إعادة تقويم لمسار الإمبراطوريّة الأميركيّة كما حدث في زمن الاتحاد السوفياتي.
نبع بن لادن من بوتقة جيش أميركا الإسلامي. والمنابع الفكريّة لبن لادن هي نفسها منابع الفكر الوهابي السعودي. كان بن لادن على صلة وثيقة بالعائلة المالكة وقد التقى كل الأمراء البارزين، بمَن فيهم الملك الحالي والأمير سلطان وسائر الجوقة السعوديّة. كان على وئام معهم وهناك في العائلة ـــــ مثل الأمير تركي بن فيصل ـــــ مَن يحفظ عنه ذكرا طيّباً. تركي طبعاً كان الراعي المكلَّف أميركيّاً، الذي تولّى عمليّة الإشراف على تأسيس جيش الإرهاب الإسلامي العالمي ضد الشيوعيّة. لنقل إن تركي كان القابلة القانونيّة لولادة تنظيم «القاعدة» المشؤوم. كان الملك فيصل يكثر الحديث عن أخطار الشيوعيّة واليهوديّة، بالرغم من أنه لم يحارب إلا الشيوعيّة، وقد حارب ـــــ مثله مثل فهد وعبد الله من بعده ـــــ كل من تسوّل له نفسه محاربة إسرائيل بشتّى الطرق. تركي لا يستطيع أن يتحدّث عن بن لادن، حتى في وسائل الإعلام الغربي، من دون أن يستفيض في التحدّث عن تهذيبه ودماثة خلقه. ويتوافق كلام تركي مع كلام سائد في الإعلام السعودي الذي يفصل بين السعوديّين والمصريّين في تنظيم «القاعدة»، على أساس أن الشرّ أتى من المصريّين وأن بن لادن لم يكن يريد إلا خدمة الدين الحنيف، قبل أن يأتي أيمن الظواهري ويفسد عليه مشروعه الخيّر ـــــ وفق تلك النظريّة الخرقاء.
لم يختلف بن لادن مع آل سعود على جورهم وتسلّطهم وقمعهم، اختلف معهم فقط على مسألة محدّدة في سياستهم الخارجيّة. لم يخرج بن لادن عن طاعة آل سعود قبل 1991. ولم ينبس بن لادن بكلمة عن انتفاضة جهيمان العتيبي في مكة عام 1979 (وكان العتيبي متزمّتاً رجعيّاً منغلقاً هو الآخر). كانت طاعته، مثل طاعة أصحاب المليارات في المملكة، مطلقة. اختلف مع آل سعود فقط في مسألة دعوة القوّات الأميركيّة (أو «القوات العربيّة والإسلاميّة والصديقة» كما جاء في بيانات إعلام آل سعود آنذاك) إلى السعوديّة بعد اجتياح صدّام للكويت. وقد كان بن لادن يجلّ أعظم الإجلال رمز السعوديّة الوهابيّة، أعني المفتي النافذ بن باز الذي، أكثر من أي شخص آخر، طبع العقيدة الوهابيّة بطابعها الحالي ووطّد دعائم الحلف بين آل سعود وعلماء الوهّابيّة في المملكة في القرن العشرين. طاعة العلماء للأمراء أصبحت مطلقة عام 1991 على الأقل وفق تنظير بن باز. وقد حاول بن لادن تقديم النصح لبن باز ودعوته الى تغيير مسار ولائه، إلا أنه فشل في ذلك. ولم يخرج بن لادن هكذا فجأة عن طاعة آل سعود: فقد عمل وفاوض وتحدّث مع الأمير سلطان في أمر تأسيس جيش إسلامي من أجل تحرير الكويت، إلا أن القوّات الأميركيّة كانت قد تحرّكت باتجاه المملكة قبل أن تصل الدعوة السعوديّة الرسميّة إلى واشنطن لنشر القوّات في الجزيرة.
خرج بن لادن من المملكة، أو أنه هُرِّب منها. وتقول حاشية في التقرير الرسمي الأميركي لتفجيرات 11 أيلول إن أميراً سعوديّاً هو الذي هرّب بن لادن من المملكة آنذاك (وقد فات الرقيب أن يحذف الحاشية هذه لأن الرقابة الأميركيّة حذفت الكثير من النص المنشور للتقرير، وهناك في الإعلام الأميركي من أشار إلى أن الحذف كان لمصلحة آل سعود، أكثر من غيرهم). جال بن لادن بين السودان والسعوديّة وأفغانستان قبل أن يستقرّ في ضيافة الطالبان، مع أن علاقته بالحكم السعودي استمرّت في التسعينيات. أسّس تنظيم «القاعدة» وتوهّم، ربما بوحي خرافي، أن بمستطاعه هزيمة الإمبراطوريّة الأميركيّة، مثلما توهّم أن جيشه الإرهابي هو الذي قوّض دعائم الاتحاد السوفياتي.
لكن ثورة بن لادن ليست ثورة عربيّة، وقضاياه ليست قضايا عربيّة، هذا الذي انتقل من رعاية حكم الوهابيّة إلى حكم الطالبان. وعنف «القاعدة» عنف من نوع آخر: يقصد إيذاء أكبر عدد من الأبرياء، دون أعذار تذكر. على العكس من تجربة المنظمات الفلسطينيّة، كان بن لادن يختار أهدافه بهدف إصابة أكبر عدد من الأبرياء. توصّل إلى الاعتماد على جسم من النظريّات البعيدة عن العقيدة الدينيّة لغالب المسلمين من أجل تسويغ إجرامه وإرهابه. لكن الحديث عن عقيدة «القاعدة» وممارستها يحتاج إلى التطرّق للمحرّم: إن العقيدة الوهابيّة لا تتناقض كثيراً أو قليلاً مع عقيدة بن لادن وممارسته. على العكس، انطلق بن لادن من البن بازيّة، كما أن حروب محمد بن عبد الوهاب ـــــ وكانت جهاداً في مخيّلته ـــــ طاولت المسلمين والمسلمات قبل غيرهم بعدما استسهل تكفيرهم. هذا يدخل في صلب العقيدة الوهّابيّة، لكن النقاش في هذا الموضوع غير مسموح. من يجرؤ من شيوخ الإسلام في كلّ الدول العربيّة، حتى في مصر المُحرّرة من سلطة مبارك وسطوته، على أن يجاهر بتناقض المذاهب الأربعة مع الوهّابيّة ومن منظار الوهّابيّة نفسها (يحاول دهاقنة آل سعود بعد 11 ايلول أن يدرجوا الوهابيّة في نطاق المذهب الحنبلي، مع أن الوهابيّة رأت في نفسها إسلاماً صافياً خارج نطاق المذاهب الأربعة، مع تزمّت الحنبليّة وتطرّفها). شيوخ الأزهر يخافون من مال ـــــ أو من توقّف رشى آل سعود الذين يستولون بالمال وحده لا بالإقناع أو بالحسنى ـــــ على كل شيوخ الأوقاف ووزرائها في العالم الإسلامي. (والمشير طنطاوي ـــــ الذي زيّن صدره بنياشين الهزائم العسكريّة لجيشه في الحروب مع إسرائيل ـــــ وجد متسعاً من الوقت في مصر «الثورة» ـــــ على ما يُقال لنا زوراً وبهتاناً ـــــ كي يشكر الملك السعودي على عطاياه، كما وجد متسعاً من الوقت ليستقبل مسؤولاً رفيعاً في وزارة الدفاع الإسرائيليّة، إضافة إلى عقده حلقة سمر على الهاتف مع نتنياهو).
شكّلت المرجعيّة النجفيّة تاريخيّاً المصدر الوحيد، بعد فورة الدفق المالي النفطي، الذي تجرّأ على مناظرة الوهّابيّة، لكن الأمر توقّف في عهد صدّام، واليوم أيضاً ربما بسبب الخوف من سلاح الحرب المذهبيّة المسلول من قبل آل سعود منذ الحرب الأميركيّة على العراق من أجل طمس العداء العربي ضد إسرائيل وإبداله بعداء عربي ضد إيران والشيعة.
إن «القاعدة» هي نتاج منطقي لعقود من الدعوة الوهّابيّة السعوديّة. هي إفراز لخطة آل سعود في الحرب الباردة. وفي هذا، فإن عداء اليسار والتقدميّين (والتقدميّات) لآل سعود وخططهم يتساوى مع عدائهم لـ«القاعدة» وإرهابها. إن وصف أميركا لـ«القاعدة» بالإرهاب لا يجب أن يمنعنا من الموافقة على الوصف، بالرغم من نفاق أميركا ومن إرهابها هي ومن إرهاب ربيبتها إسرائيل. نستطيع أن نعادي «القاعدة» من دون أن نقع في حبائل الإمبرياليّة والصهيونيّة.
لا، لا ينتمي بن لادن إلى فئة الثوّار. هو ليس حتى متطفّلاً على الثوّار. ولم يدّعِ الثورة يوماً. ومن ينتمي إلى اليسار لم يكن في صف بن لادن في الحرب في أفغانستان. أميركا والسعوديّة وباكستان الرجعيّة كانت في صف بن لادن، أما اليسار فقد كان ومن دون خجل أو وجل في صف المعسكر الشيوعي الذي ـــــ بالرغم من قمعه ـــــ رفع شأن المرأة إلى مرتبة لم تصلها لا من قبل ولا من بعد في تاريخ أفغانستان. لا يستحق بن لادن صفة الرومانسيّة الرجعيّة ولا ينتمي أبداً إلى السجلّ المُشرِّف للثوّار العرب ـــــ قبل وبعد عزّ الدين القسّام. كان وديع حدّاد (على أخطائه التي أبعدته عن رفيق عمره، العظيم جورج حبش) يصرّ على الإعداد الدقيق والدؤوب للعمليّات الخارجيّة تلافياً لأي أذى يلحق بالمدنيّين، بينما كان بن لادن يستمتع بإرهابه الذي أودى بحياة أفراد من مختلف الجنسيّات والأعراق والأديان. وقد تبلور شبه إجماع في أوساط حركة المقاومة الحاليّة ضد إيذاء المدنيّين (وتطوّر حزب الله في عهد نصر الله ـــــ لا في عهد صبحي الطفيلي صديق آل الحريري والـ«ويكيليكس» ـــــ نحو تجنّب قتل المدنيّين. ويروي حسن نصر الله كيف تأجّلت عمليّة إعدام العميل عقل هاشم كي لا يُقتل معه أفراد من عائلته). كان بن لادن يخطّط لأعمال عنف دون ربطها بمشروع سياسي، باستثناء الشعارات القروسطيّة المُستقاة من أكثر العقائد الدينيّة تزمّتاً. أما ثوّار فلسطين فقد كانوا مُعتنقين لمشروع تحرير فلسطين وكانوا يرفدون كلّ أعمالهم لدعم مشروعهم السياسيّ. كانت الأعمال العسكريّة مُنتقاة بحذر شديد، وإن انخرط في رحم الثورة عدد (كبير جداً في حركة «فتح») من المرتزقة والقتلة والمجرمين وعملاء وكالات استخبارات عربيّة وأجنبيّة.
لا يستوي المشروع التقدّمي للعالم العربي مع مشروع سياسي مُنتقى من فكر ابن تيميّة (قرّر المفكّر التونسي أبو يعرب المرزوقي هكذا فجأة التخفيف من رجعيّة فكر ابن تيميّة وظلاميته من أجل التملّق للحكم الوهّابي). لا، لن يُذكر اسم بن لادن في سجلّ الثورات. يستحق أن يُذكر في سجل المجرمين والقتلة والإرهابيّين الذين جنّدتهم الولايات المتحدة (والسعوديّة وإسرائيل) في معارك الحرب الباردة، قبل «خليج الخنازير» وبعده.
لن تحنّ أجيال عربيّة إلى بن لادن وحركته المجنونة. عاش بن لادن في عصر قضيّة فلسطين ولم تكن القضيّة يوماً شغلاً شاغلاً لـ«القاعدة». كانت «القاعدة» تجول حول العالم لتتصيّد ضحاياها وتقضي شهوراً وسنوات في التخطيط لعمليّات (إرهابيّة)، إلا أنها لم تلحظ وجود العدوّ الصهيونيّ ولم تحاول يوماً أن تعاديه في عمليّاتها. هناك من سيسارع إلى رسم علامات استفهام حول أصول المنظمة المذكورة، وخصوصاً أن فتح المجلس الثوري كانت مُخترقة من إسرائيل عبر الاستخبارات الأردنيّة الذيليّة. لكن من المؤكّد أن «القاعدة» لم تقدّم أي إنجاز لمشاريع التحرّر والمقاومة في العالم العربي. لا بل من المؤكّد أن «القاعدة» ألحقت الضرر بصورة المقاومات العربيّة والإسلاميّة في أذهان الغرب والشرق.
تستطيع أميركا أن تضيف إلى سجلّها عمليّة قتل شابَها الكثير من الأكاذيب. لم يطلب أحد من الإدارة الأميركيّة تفسير مقتل وجرح عدد من المدنيّين غير المسلّحين في العمليّة في أبوت أباد. حاكمت أميركا بن لادن، مثلما تحاكم من تريد على الأرض. أميركا هي القاضي والديّان والسيّاف. ولكن، بغياب محاكم دوليّة عادلة، يحقّ لنا أن نتساءل: من يحاكم أميركا؟

* أستاذ العلوم السياسيّة
في جامعة كاليفورنيا
(موقعه على الإنترنت:
angryarab.blogspot.com)