ثمّة تيّار آخذ بالتوسّع، يبثّ خوفاً من الثورات العربيّة بحجّة أنّها تُبعد الجمهور العربيّ عن فلسطين. كنّا نحسب المسألة مقلوبةً. فالشكوى، عادةً، كانت أنّ الأنظمة العربيّة لا تقوم بواجباتها تجاه فلسطين، وهي تكتفي باستغلال الموضوع الفلسطيني لتقمع شعوبها، فتسوّغ هذا القمع بكونها تقاتل من أجل فلسطين، أو تسوّغه بالتذرّع بالظروف الاستثنائيّة التي فرضها وجود إسرائيل في المنطقة. هكذا استمرّت حالات الطوارئ حتّى لدى دول كانت قد وقّعت اتفاقات سلام مع إسرائيل. بكلام آخر، كان الحريصون على فلسطين يلقون باللوم على الأنظمة، فإذا بهم اليوم يلقون باللوم على الشعوب التي تحاول قلب هذه الأنظمة. فإمّا أنّهم سعداء بالتحيّات اللفظيّة إلى فلسطين، أو أنّهم يلعبون لعبة الاستبداد نفسها، فيحرّمون على الشعوب المطالبة بحقوقهم ما دام الحقّ الفلسطيني لا يزال ضائعاً.الأجدى بمن يحبّ الفلسطينيّين ويحبّ فلسطين أن يستنتج ممّا يحدث في أكثر من بلد عربي أنّ قضيّة فلسطين، بصرف النظر عن الموقف منها، لم تعد قضيّة يمكن باسمها الطلب من الشعوب العربيّة «تأجيل» كلّ حاجاتهم السياسيّة والاقتصادية والاجتماعية الأخرى ريثما يتحقّق النصر الموعود. والواقع أنّ «تأجيلاً» كهذا يحمل في طيّاته ازدراءً للجماهير التي يُطلَب منها أن تشارك في صنع مستقبل فلسطين. تلك الجماهير تمكّنت من فرض احترامها من خلال الثورات التي أطلقتها. يكفي أنّ مفردة «جماهير» عادت إلى التداول. وهذه الثورات لها في الخارج من يدعمها ومن يشجّعها، ولها أيضاً من يخشاها ومن يحاربها. لكنّها أوّلاً وأخيراً من صنع الشباب العرب. أولئك الشباب الذين يؤكّدون، مرّة أخرى، الشرط الأوّل لنصرة العرب لفلسطين، أي الرابطة العروبيّة بين شعوب المنطقة. وهذا ما سعت الأنظمة إلى قمعه والتخلّص منه. الثورات أعادت إلى العروبة روحها، ودلّت بالملموس على قوّة هذه الرابطة التي تجمع بين العرب، وتجعل مصيرهم واحداً. انظروا إلى السرعة التي ينتقل بها التغيير من بلد عربيّ إلى آخر. لقد توحّدت اللهجات العربيّة وباتت تنطق بلغة فصيحة: «الشعب يريد إسقاط النظام».
فلسطين بالذات ليس لديها ما تخسره من الثورات العربيّة. لديها العالم العربي كلّه لتربحه سيّداً، حرّاً، كريماً.