منذ شهر تقريباًَ، وكلما سألت عن شخص ما في المنطقة، كان الجواب يأتيك «معليش مشغول هاليومين، عم بيعمّر». هكذا هي حال معظم سكان الجنوب. بدأت موجة بناء لم تشهدها المناطق اللبنانية منذ أكثر من عشر سنين، وتعالت الأصوات مستاءة لسرقة أموال الدولة والتعدّي على المشاعات. لكن الأمور معقّدة قليلاً، ولا تختصر بسارق ومسروق، أو حقّ عام ومتعدّ.
فالوضع يبعث على التفكير بالعدالة الاجتماعية وتأمين المسكن من قبل النظام، ومفاهيم الملكية، وأخيراً سيطرة أحزاب قوى الأمر الواقع التي تستفيد من حاجة الناس لها (أو لأيّ نظام حماية) وتستعملهم أداة ضغط عندما يحلو لها.

ما الذي يحصل في المشاعات؟

تضيق المدن بسكانها، وتخبو القرى، شيئاً فشيئاً، تحت ضغط سيطرة الأحزاب والعائلات الإقطاعية واحتكار الساحة السياسية وغياب فرص العمل او تغييبها، وترسم المدينة كمكان الأحلام، أو على الأقل المكان الطبيعي للعيش الكريم. فأين يعيش مهجّرو القرى والمناطق واللاجئين والعمّال، والمدينة تنده لهم بأصوات عرائس البحر، فيلبّون وما من بيوت تؤويهم؟ بإمكاننا أن نرسم سريعاً خريطة للمدن اللبنانية، حيث تحتلّ العائلات الأساسية والتجار (باستثناء بيروت) المدينة القديمة والسوق (وقد بدأت فيها حركات التهجير و«الإعمار»)، ثم التوسع الجغرافي للمدينة الذي تسكنه الطبقة الوسطى، وتتخلّله أحياء مخصّصة للأغنياء. والفقراء؟ تقع على هؤلاء مسؤولية خلق أحيائهم الخاصة، فلا مكان لهم في المدينة... بل خارجها. ويمثّل إشغال المشاعات ردّ فعل طبيعياً، أو لنقل منطقياً، لما يحصل: «أنا لا أستطيع أن أدفع ثمن تملّك قطعة أرض، فأضع يدي على قطعة أرض غير مستعملة». ولأنّ الملكية الخاصة مقدّسة في لبنان ـــــ بلد الحريات والأحلام المحقّقة وتكديس الأموال ـــــ ولأنّ مالكي الأراضي من الأفراد والشركات يسهل عليهم إما اللجوء إلى القانون ـــــ بشكل سواعد عناصر أمن قبضايات، متخصّصين بالتنكيل والضرب والشتم وشرب الشاي مع الجيش الإسرائيلي ـــــ إذا ما احتلّ أحدهم أرضهم أو الاستعانة بأحد الزعران أو الأحزاب؛ فتبقى أراضي الدولة هي الأسهل للاحتلال. هي الأراضي التي لا يحميها أحد، إذ لا دولة في لبنان بل مجموعة رجال أعمال يتقاسمون الأرباح. ويحصل ذلك على مرأى من السلطات الأمنية وبتشجيع ضمني منها، على نحو دعوات وابتهالات من نوع «إجت الرزقة»، لأنّ كلّ طابق له «حلوانة» عند الدرك أو شرطي البلدية.
وبالإضافة إلى الظلم الذي يتعرّض له الفقراء، وحرمانهم من حقوقهم، يقصي سكّان المدن سكّان المشاعات ويرفضون انتماءهم إلى المدينة: هم فقراء المدن يُحتقرون لمكان عيشهم، وتنسج الروايات والخرافات حول طريقة عيشهم، ويغدو احتلالهم للأراضي ذريعة لجعلهم مجرمين خارجين على القانون. يصبح من يشغل الأراضي بنحو «غير شرعي» هو نفسه «غير شرعي».
ما يحدث في المشاعات هو إذاً إشغال لأراض الدولة، ليس حبّاً بالتعدّي أو طمعاً بممتلكات الدولة، بل ببساطة هو محاولة إيجاد حلّ لما لا حلّ له: إيجاد مساحة للفقراء في مدينة تستبعدهم.

أداة مقاومة وخطاب البورجوازية

يشغل الفقراء المشاعات لأنّهم لا يستطيعون تأمين مأوى بأي طريقة أخرى. تشجب الأحزاب ما يجري، بينما نستطيع أن نرى فيه بذرة مقاومة للأمر الواقع. ويختلف حكم الناس على احتلال المشاعات وإشغالها بحسب شاغليها. فلماذا تجري محاولات لتوحيد الشكل المديني، وكيف يظهر الاستبداد في هذه المحاولات؟
من المضحك أن نسمع في الأخبار ونقرأ في الصحف عن «استياء» الأحزاب ممّا يحصل، وطلبها من السلطات المختصّة بأن تتدخّل لإيقاف عمليات التعدّي. ومن يعش في أي من المناطق التي يحصل فيها هذا البناء يعلم جيداً بأنّ حجراً واحداً لم يدخل أياً من هذه المناطق، إلا بعدما عمّمت هذه الأحزاب نفسها على الناس أن يبدأوا بالبناء. جاءت كلمة السرّ من الأعلى، وبدأت الطبقات تعلو. وقد كنت ولا أزال من أشدّ المشجّعات على عمليات البناء تلك. منى أم لخمسة أطفال تسكن في المشاعات في صور، كنت أزورها منذ فترة، وكانت تأمل أن تنجح إحدى الوساطات عند الأحزاب ليسمحوا لها بأن تصبّ سقفاً بدل سقف بيتها الزينكو، علماً بأنّ بيتها مبني دون قواعد، وأنّ الحيطان من أحجار الباطون دون أية أعمدة. اليوم، هدمت منى بيتها كله وانتقلت وبناتها إلى بيت عمّها الصغير. واستطاعت أن تستدين المال من أقاربها، وبنت البيت من جديد مع قواعد وأعمدة وسقف، وصبّت سقفاً فوقه «للمستقبل». وهناك الكثير الكثير من العائلات التي لم تستطع أن ترمّم منزلها منذ زمن، أو أن تبني طبقة لأولادها، أو أن تشتري بيتاً خارج المناطق المخالفة، لأنّ أسعار الشقق خيالية. لقد استطاعت هذه الهجمة على البناء أن تمنح فقراء المناطق ومعدوميها فرصة لتحسين أوضاع معيشتهم والتقليل من المخاطر المحدقة بهم في ظلّ ظروف خانقة. وهي أيضاً أداة رفض ومقاومة للدولة وأساليبها ووسائلها، ومفاهيمها الاستبدادية القاصرة عن ترجمة حاجات الطبقة الكادحة.
من ناحية أخرى، منذ سنة ونيّف، ضربت الجنوب موجة بناء من نوع مشابه. كانت معظم قرى ومدن الجنوب تشهد بيعاً «مشروعاً» وغير شرعي لأراضي المشاع، وذلك عبر بيع رؤساء البلديات (الذين غالباً ما يكونون أيضاً مهندسين وأصحاب جرّافات في الوقت نفسه) المشاع لأغنياء القرى والمغتربين العائدين. لم نقرأ خبراً واحداً في الجرائد يسأل عمّا يجري في تلك القرى، ولم يستدع أحد قوة خاصة من مغاوير الجيش لوقف هذا التعدّي. لم يظهر أحد ليستنكر ويشجب ويقرف ممّا يجري من قضم للمساحات الحرجية للقرى والمراعي، أم أنّه ليس تعدّياً إلّا إذا كان من يبني فقيراً؟ إنّ غياب الدولة وظهورها مرتبطان تماماً بالطبقة التي ينتمي إليها من يُطبّق عليه القانون، وتلك ليست محاولة للقول إنّ «الأغنياء يفعلونها فلم لا يفعلها الفقراء؟»، بل محاولة لتسليط الضوء على طريقة عمل القانون في هذه المسألة، ومعالجة الشكل المديني على أنّه مجال شرعي لتعدّي الأغنياء وذوقهم فقط.
يأخذنا تحليل الخطاب السياسي القائل بضرورة تغيير طريقة تعامل الفقراء المحتلّين مع الملكية وإشغالهم للمكان إلى كتاب مجيد رحنما وجان روبير «قدرة الفقراء». ففي هذا الكتاب، يطرح رحنما مجيباً عن سؤال عمّا يحتاج إليه الفقراء اليوم مسألة في غاية الأهمية وهي «الحرب التي تشنّها الحداثة (معتمدة على قوة نظام اقتصادي مسيطر، متعلّق بأنظمة سياسية تخلو من أي قاعدة ديموقراطية) على قدرة الفقراء بمعناها السبينوزي (لفهم مفهوم القوة عند سبينوزا بإمكاننا أن نتصور السلطة التي يتمتع بها جسد ما). نحن لا نعرف ما يمكن أن يفعله الجسد، لكننا نعلم أنّه سوف يمارس قدراته الطبيعية، وحقوقه، إن لم يمنع من ذلك». فإن مشكلة القوى المهيمنة، كما يطرحها رحنما، تكمن في عدم قدرتها على تقبّل أن يكون للفقراء أهداف مختلفة عن أهدافها، فتسعى إلى «تحويلهم إلى أشخاص يبحثون عن الثروات الميتة نفسها التي تبحث عنها القوى المسيطرة». فكيف للفقير والفقيرة إذاً، ألّا يحلما بنفس الفيللا ذات الأسقف القرميدية المدبّبة؟ يصبح البيت والحي إذاً، مجال الصراع الجديد لإعادة فرض الديكتاتورية البورجوازية، وإعادة تحديد حاجات الفقراء وأحلامهم. هي محاولة البورجوازية لـ«تصحيح» الوضع وإدخال «نظام صائب»، كما يسمّيه رحنما.
بينما يغيب حكم القانون عن تفكير الناظر إلى بيوت الأغنياء في المشاعات، يطلّ بوجهه العابس وإصبعه المهتزّة عند أية خطوة للعاملة الفقيرة أو النجّار. والمشكلة أنّه يظهر دائماً بشكل مبالغ في التزمّت والجمود، وبصيغة عمرها أكثر من خمسين عاماً، لا تتقبّل التغيير والتنويع في حاجات الناس، ولا الخروج عن القالب المقبول للشكل المديني وإشغاله، وطبقة من يشغله.

الملكية ومعناها

لننظر إذاً إلى هذا الإله الذي تجتمع كلّ الأديان على تقديسه. ما هي الملكية وكيف تترجم في النظام الرأسمالي والسيطرة على أدوات الإنتاج؟
يعلن برودون أنّه «يمكن صاحب الملكية، إذا ما أراد، أن يترك مزروعاته تتعفّن، أو أن يرشّ الملح على أرضه، أو أن يحلب بقراته على التراب، أن يجعل كرمه صحراء، ويستعمل مساكب الخضر حديقةً عامة: هل يمثّل هذا استغلالاً أم لا؟ في ما يتعلّق بالملكية، إنّ الفرق يختفي بين الاستعمال والاستغلال». يبدأ إذاً بعرض تأثير فكرة الملكية على الأرض، وكيف يصبح وضع الحدود فعلاً استبدادياً لا يخضع لأي عرف أو قانون أو حق. ولذا، يساوي برودون بين المالك (من ملكية) والسيد (الملك). فالملكية، بحسب برودون، تتسبّب أوّلاً في «الاستبداد وتحوّل العمّال والعاملات إلى مأجورين تحت سلطة صاحب العمل، وتساهم في إنتاج الربح، ممّا يساهم في ضرب الاستقرار الاجتماعي والتسبّب في الحرب عبر خلق سلسلات من الدَّين». وفي المقابل، يرى أنّ المصدر الشرعي والمشروع الوحيد للملكية هو العمل: «ما ينتجه الإنسان يصبح ملكه، وأيّ ملكية خارج هذا النطاق هي كفيلة بفرض سيطرة أفراد على أدوات الإنتاج وإعادة فرض التركيبة الطبقية الرأسمالية الظالمة». ولم يحدّد ملكية تلك الأدوات «بالدولة أو الطبقة الحاكمة (التي تستطيع أن تصبح بذاتها ممثّلة للديكتاتورية البورجوازية) بل بالعمّال والعاملات عبر نقاباتهم واتحاداتهم وتجمّعاتهم». وما يطرحه هو شكل من أشكال «تبادل المنافع والمصالح». فبينما «يمتلك المجتمع أدوات الإنتاج أو الأرض، يستطيع الأفراد استخدامها تحت إشراف المجتمع».
ويقول عن تأثير الملكية على المجتمع: «إنّ الملكية تعمل، عبر الإقصاء والانتهاك، وبينما تتزايد أعداد السكان، هي مبدأ الحياة والسبب الأساسي لكل الثورات. إنّ انهيار المجتمعات وموتها سببهما قوة التكديس الموجودة في الملكية».
لننظر إلى تطبيق هذه الأفكار، فإنّ كلام برودون يحصل في الكثير من المناطق، وقد حصل في مراحل من التاريخ عديدة. لقد اعتمدت معظم المجتمعات الزراعية على حقّ الانتفاع (ويعرف بالـusufruct) وهو الحق الشرعي لاستعمال ملكية أرض لا تنتمي للشخص الذي يستعملها والاستفادة منها، بل يسمح له بالانتفاع منها ما دامت الملكية لم تتعرّض للأذى، وهو منطق عملت به العشائر والبدو في منطقتنا بالذات، طويلاً. فتعود الأرض بالمنفعة على العائلات والأفراد بينما تكون الملكية مشتركة للعشيرة. ويكون بذلك على الشخص أو المجموعة أن يستعمل الملكية (يشغلها إن كانت بناءً أو يزرعها إن كانت أرضاً) وإلا فقد حقّه فيها. فلنقارن حال آلاف الدونمات من الأراضي المهملة وملايين المباني الخالية في لبنان، نقارن أعدادها بأعداد أولئك الذين واللواتي يقبعن في بيوت بائسة بلا شمس أو تهوئة أو دون عمل أو أرض يعتاشون منها. ماذا لو استعمل هؤلاء تلك الملكيات المهملة وشغلوا المباني القديمة الفارغة وزرعوا الأرض البور؟ ذلك نقل لتجارب تحصل في العالم، وخاصة في المناطق التي تشبهنا بصراعاتها وتاريخها، كحركة «عمّال بلا أرض» في البرازيل. وكي لا نبتعد كثيراً، هنا، في صور، أقلّني أحد العمّال إلى مزرعته التي «أخذها» من الدولة. أشجار أفوكاتو وأكيدنيا وحمضيّات، وأبقار قليلة وحصان والكثير من الطيور. مزرعة جميلة وصغيرة وممتعة. «شوفي هاي الأرض اللي حدّنا للدولة كمان، بس ما حدا عم يزرعها. أحسن هيك يعني؟». وأخذني إلى تلك الأرض المجاورة، مساحات من التراب وأعشاب تنمو ولا يستفيد أحد منها، بينما تحيط بها منازل معدمة...الفارق بين صديقنا هنا والحركة البرازيلية هو هذا بالضبط: إنّها حركة منظّمة ناضجة، كسبت مشروعية من العمال والفلّاحين، بينما الرجل هنا لا يزال يختبئ باستحياء من نظرة الناس لمزرعته. وبإمكاننا هنا القول بأن ما يحدث في البرازيل هو نتاج وعي طبقي، وغيابه في لبنان هو ما يسمّيه مهدي عامل سيطرة البورجوازية الكولونيالية على استقلال الوعي السياسي للنقيض الطبقي. فغياب التنظيم عند «محتلّي» المشاعات، وغرقهم في الخطاب المهيمن المُدين لهم، ليسا سوى نتيجة لحرب البورجوازية الكولونيالية عليهم في محاولتها لمنع تبلور الاستقلال السياسي للطبقة العاملة، فتبقى تابعة للخطاب المهيمن حتّى في حاجتها إلى المسكن والعمل والجري وراء تقبّل البورجوازية لها، وإعطائها الشرعية.
أمّا عن قدسية الملكية، فيتحدّث الأستاذ مخائيل عون في كتابه «تاريخ ملكية الأرض في لبنان»، عن كون «حق الملكية حقاً مقدّساً لا يجوز انتهاك حرمته ولا يجوز حرمان صاحبه منه». وقد قُدس هذا الحق عبر شرعة حقوق الإنسان وأقوال مفكّرين مثل ديدرو الذي أعلن أنّ «الملكية هي التي تخلق المواطن». وكان الدين أهم داعمي هذه القدسية إذ أعطى «للقانون معونة مقدّسة لجعل حق الملكية قوة ترهب، وقوة تستمدّ رهبتها من كل أنواع العذابات الوجدانية، ووخزات الضمير... ولقد تجلّى هذا الإرث في حجر المساحة». ويذكر الكاتب كيف كان أحبار الرومان «يرشّون الماء المقدّس على حجر المساحة» وهم يقولون «ملعون كل من يمسّ هذا الحجر».
في تأثير الملكية على القرى، يضيء علي بدر الدين في مقاله في جريدة السفير (4-12-1986) على حادثة في بلدة الشرقية قضاء النبطية. ويعود الكاتب في قراءة تاريخية لملكية الأراضي إلى تأثير القوانين العثمانية وانهيار الدولة وتدخّل الاستعمار، عبر وضع وسطاء من الرأسماليين في المنطقة. وقد سبّبت المجاعات (1914) و«حاجة السلطة للمجنّدين»، إلى جانب حالة «قائمة على علاقات التبعية التي نسجتها أوروبا اقتصادياً عبر الوكلاء والوسطاء المحليّين» إلى بيع الأراضي لصالح هؤلاء الوسطاء الذين كانوا يملكون المال. فانتقلت ملكية 50 بالمئة من أراضي بلدة الشرقية إلى 3 في المئة من سكّانها، وهم إقطاعيو المنطقة من عائلة الصلح. هذا ليس مثال من الأمثلة عملت فيها قوانين الملكية، بالإضافة إلى أطماع عملاء النظام الرأسمالي، إلى حرمان منطقة بكاملها من حرية الاستفادة من أراضيها.
يذكر عون في كتابه أنّ ماركس قد أماط اللثام عن أهميّة قوة الملكية عندما أظهر «التعارض بين مصلحة من يملك قوة العمل ومصلحة من يملك القدرة والوسيلة على استثمار هذه القوة». ويقول إنّ السبيل في إزالة هذا التعارض «هو في جعل ملكية وسائل الإنتاج ملكية جماعية»، إذ يمسي من يملك القدرة على استثمار قوة العمل بلا قدرة على تقديس حق الملكية.

سيطرة الأحزاب

من ناحية أخرى، لا تقع المشكلة، برأيي، في «تعدّي» الناس على أملاك الدولة، أو في مواصفات البناء غير الآمن (وكأنّ التنظيم المدني أو أيّاً من مؤسسات الدولة تأبه حقاً لمصير هؤلاء)، بلا باستعمالهم ورقة بيد الأحزاب. فلنأخذ المساكن الشعبية في صور مثلاً. توقف البناء في بداية التسعينيات حصل بناءً على توازن معيّن بين حركة أمل وحزب الله، وتوافق بين الطرفين لإيقاف المنافسة، وبالتالي المشاكل بين مناصريهم: لم تكن هذه الخطوة إذاً لمصلحة الأهالي. ومنذ ذلك الحين وسكان المساكن الشعبية في صور يعانون حاجتهم إلى ترميم بيوتهم المتهالكة، أو حتّى بناء طبقة ثانية لأولادهم. وهي ظاهرة اجتماعية مهمة في المنطقة، إذ تتكوّن المباني من أفراد العائلة، وتبقى بذلك العائلات في الحيّ نفسه. ومع منع البناء في المساكن، اضطرّت العائلات إمّا إلى البحث عن بيوت خارج المحيط المباشر لمسكن الأهل، أو اللجوء إلى الأحزاب، عبر واسطة أو ترجّ أو مال. كل ذلك والمشاعات بأيدي الأحزاب، تتحكّم بها كأنّها أملاكها.
لقد أحكمت الأحزاب سيطرتها على الأهالي عبر سيطرتها على وقف البناء في المشاعات أو السماح به. وسهّل غياب مؤسّسات الدولة وتخلّيها عن الفقراء وجود الأحزاب وتحكّمها بالناس، ليس عبر مؤسّساتها فقط، بل وعبر رموز طوائفها والرفض الاجتماعي لمن لا يرضخ لها. وقد أصبحت المناطق «الغير الشرعية» معتمدة كلياً على الأحزاب، لناحية السماح بالبناء أو عدمه وتأمين شبكات البنى التحتية، أو لناحية الوظيفة والمدارس والجامعات والمساعدات المادية. تمكّنت هذه القوى السياسية إذاً من توسيع الهوة بين الفقراء والدولة (وهي هوة تعمل الدولة بحماسة وهمّة على خلقها)، فتمتنع الدولة عن تأمين أبسط متطلّبات الحياة لهم، وتظهر الأحزاب كالمخلّص. والنتيجة هي فصل هذه المناطق أكثر، سياسياً واجتماعياً، عن محيطها، لتصبح معتمدة كلياً على الأحزاب، تستعملها متى أرادت لأهداف خاصة بها. وقد ظهر استياء عدد من الشباب في المشاعات، عندما بدأوا يشتمون رؤساء هذه الأحزاب في العلن. فما ظهر خلال الأحداث الأخيرة، هو تخلّي الأحزاب عن الناس ومصالحهم، أمام الجيش والدرك.
فيما يتقاسم الأثرياء الأراضي والمشاعات دون رادع لأنّ الملكية إله عادل، وفيما يبعد الفقراء عن القانون والشارع والسياسة والمجتمع، وتتعالى صرخات البورجوازية لفرض القانون كلّما حاول أحد عمّال وعاملات مصنع ما المطالبة بحقوقهم، تنمو بيوت المعدومين والمعدومات في مشاعات الأوزاعي والمساكن الشعبية في صور والقرى الجنوبية. كذلك، يستمرّ حكم من يعيش خارج هذه المناطق بعيداً عن معاناتهم اليومية وتحكّم الأحزاب بهم، وبعيداً عن ظلم القانون لهم وتعدّي الجيش والشرطة عليهم، يبقى قاسياً، عابساً، جافاً، ظالماً، لأنّه يرى مشروعيّة وجودهم في حدود الملكية وشرعيتها.
* كاتبة لبنانية