من المعلوم أن النظام البرلماني يقوم على حكم الأغلبية الفائزة بالانتخابات النيابية العامة، ويتجلّى هذا الأمر بوضوح في بريطانيا مهد النظم البرلمانية، حيث الحزب الفائز بالأغلبية البرلمانية هو الذي يؤلف الحكومة، ورئيس الوزراء يكون رئيس الحزب الفائز بالأغلبية البرلمانية. وهنا يظهر التناغم الواضح في الحكم ما بين الحكومة «بوصفها السلطة التنفيذية» والبرلمان«بوصفه السلطة التشريعية».
ويجمع فقهاء القانون الدستوري على ضرورة وجود نوع من الصرامة الحزبية أو الانضباط الحزبي، في شرط أساسي لنجاح تجربة النظم البرلمانية؛ إذ يتطلب النظام البرلماني نوعاً من الانضباط الحزبي؛ لأن الحزب الفائز بالأغلبية البرلمانية هو الذي يؤلف الحكومة، وبالتالي ستتمتع الحكومة بأغلبية برلمانية مساندة، ما يسهّل عمل الحكومة. لذلك، إن نجاح التجربة البريطانية (في اتباع النظام البرلماني) مردّه الانضباط الحزبي العالي فيها واحترام القانون وفاعلية المؤسسات الرقابية في الدولة التي تحمي حقوق المعارضة التي لم تنجح في الحصول على الأكثرية.
إلا أنه في بلادٍ يشهد شعبها حالة من الانقسام والاصطفافات السياسية والطائفية، ولم تصل بعد إلى مرحلة نضوج دولة القانون والمؤسسات، ولا تتمتع فيها الأحزاب السياسية بالانضباط العالي في قبول تداول السلطة، فإن النظام البرلماني الذي يفضي بالضرورة إلى حكم الأغلبية سيؤدي بالضرورة أيضاً إلى التناحر على السلطة من جهة، ومن ثم الاستئثار بها دون اعتبار لحقوق الأقلية في ظل غياب دولة القانون من جهة أخرى. وهذه الأخيرة لن تجد سوى الضغط في الشارع وسيلةً للتعبير عن معارضتها، مع ما يستتبعه الأمر من اضطرابات سياسية وأمنية تبعاً لغياب مؤسسات الدولة الضامنة لحقوقهم.
ولبنان من البلاد التي لم تصل بعد إلى مرحلة تكوّنت فيها دولة القانون، ولا تتمتع الأحزاب السياسية فيها بذلك الانضباط المطلوب في قبول تداول السلطة، هذا إذا افترضنا بالمبدأ وجود أحزاب في لبنان عابرة للطوائف أو المصالح الضيّقة، فكيف والحال عشيّة اتفاق الطائف يوم كان الهدف إنهاء الحرب الأهلية وإجراء المصالحة الوطنية؟ وهل كان تغيير شكل الحكم من شبه رئاسي (منقوص) إلى برلماني، قراراً صائباً؟ أم أنه كان خطيئة ستدفع الأجيال القادمة ثمنها؟
لقد بدا لبعض الوقت ولدى بعض السياسيين اللبنانيين، أن التسوية التي أفضت إلى نزع السلطة الإجرائية من يد رئيس الجمهورية وإعطائها لمجلس الوزراء، وبالتالي تغيير شكل الحكم، هي تسوية قابلة للاستمرار في المدى الطويل. لكن حقيقة الأمر أن هيمنة سوريا على النظام كانت السبب الحقيقي خلف الوهم الإصلاحي المعروف باتفاق الطائف، لكونها فرضت توزيع السلطة واقتسامها بين الزعماء اللبنانيين، وكانت إرادتها هي المحرّك الفعلي لعمل السلطات في لبنان.
لقد جرّد اتفاق الطائف رئاسة الجمهورية من صلاحياتها الإجرائية ونقلها إلى مجلس الوزراء، ليتحول بذلك النظام شبه الرئاسي في لبنان إلى نظام برلماني شبه مجلسي يفضي بالضرورة إلى حكم الأغلبية. ولم تتسنّ الفرصة لاختبار اتفاق الطائف جدياً للوقوف على جدواه لناحية الإصلاح المتعلق بشكل الحكم في لبنان حتى انسحاب الجيش السوري عام 2005 وظهور نوع جديد من الانقسامات بين اللبنانيين، عرف بانقسام اللبنانيين بين فريق 14 آذار مقابل فريق 8 آذار (مع تبدّلات في التحالفات وتكوينات كل جبهة وتحفظ على التسميتين)، فتكشّفت حينها مساوئ اعتماد النظام البرلماني لبلد مثل لبنان.
إن حالة انقسام اللبنانيين بين الطائفية والولاءات المختلفة بمعزلٍ عن أحزاب عابرة للطوائف، لم تكن تسمح بتبنّي النظام البرلماني، باعتبار أنه عندما فازت الأكثرية في الانتخابات النيابية، تبيّن أن الأقلية لا تملك ما يحفظ حقوقها في مواجهة الأكثرية، في ظلّ غياب الضوابط المؤسساتية في النظم البرلمانية العريقة.
وحتى التعبير عن المعارضة في الشارع لم يأتِ بأيّ جدوى لحمل الأكثرية على الأخذ بحقوق الأقلية ومواقفها. وهكذا تدهورت الأوضاع وصولاً إلى اتفاق الدوحة الذي جاء بمثابة الإعلان عن واقع النظام السياسي في لبنان الناجم عن شكل الحكم البرلماني فيه، حيث أصبحت البلاد أمام:
1ـــــ إمّا استئثار الأغلبية بالسلطة، ما يؤدي إلى الاضطرابات الأمنية والسياسية.
2ـــــ وإمّا أمام وجوب التوافق بين اللبنانيين المنقسمين، ما يؤدي إلى الشلل في البلاد.
أي أن البلاد أصبحت أمام واقعين أحلاهما مرّ. وبالفعل، ارتهنت البلاد للتوافق المتعذّر في أكثر الأحيان بين طرفين منقسمين حتى حول تحديد عدو البلاد من صديقها، فأصابتها حالة من الشلل الفعلي تمثّلت في أكثر من موضعٍ. ذلك أنه لا موازنة في لبنان منذ عام 2005، مع ما يحمله هذا الأمر من دلالات، عدم قيام الحكومة بالتعيينات الإدارية إلا استثناءً منذ ذلك الحين، فضلاً عن عدم القدرة على تأليف الحكومات. فحكومة فؤاد السنيورة الثانية استغرق تأليفها نحو 45 يوماً، وحكومة سعد الحريري استغرقت نحو 5 أشهر، وحكومة نجيب ميقاتي (الثانية) لم تؤلّف، رغم مرور أكثر من أربعة أشهر. ومن ناحية ثانية، لجأت الأقلية إلى إقفال أبواب البرلمان كوسيلة لمواجهة استئثار الأغلبية بالسلطة، على أساس أن حكومة الأكثرية التي كان يترأسها السنيورة هي حكومة فاقدة للشرعية، فضلاً عن أن انقسام اللبنانيين في ظل النظام البرلماني لبلد مثل لبنان جعل من وزارات الحكومة منقسمة بدورها تبعاً لانتماء الوزير السياسي، وبالتالي انسحب الانقسام ليطال الرقابة البرلمانية على أعمال الحكومة. فالوزير التابع لفريق ما، يرى أن الوزارة تابعة لفريقه السياسي لا للدولة، ويسانده بالتالي النواب التابعون لفريقه السياسي عند مساءلته من نواب الفريق المقابل، والعكس صحيح... كما حصل مثلاً مع وزيرة المال التابعة لـ14آذار مع لجنة المال والموازنة البرلمانية التي يرأسها نائب في تكتل التغيير والإصلاح المتحالف مع فريق 8 آذار، وكذلك ما حصل مع وزير الاتصالات التابع للتكتل ذاته، والهجوم الذي تعرّض له من وزراء ونواب 14 آذار. وبالتالي، إن النظام البرلماني ذاته قد جُرّد من جدواه بفعل فقدان الرقابة البرلمانية لمضمونها الحقيقي وتحوّلها إلى وسيلة للصراع على السلطة. أضف إلى تلك المساوئ انسحاق القوانين الناظمة لسير المؤسسات الدستورية والمرافق العامة بفعل التفسيرات والممارسات المفصّلة على قياس مصالح المتناحرين وتداعي السلطة القضائية والسلطات الرقابية وملشنة (من عبارة ميليشيا) بعض المؤسسات والوزارات الرئيسية، وانهيار الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية للمواطنين.
لقد كان واجباً على واضعي اتفاق الطائف الالتفات جيّداً إلى تركيبة الشعب اللبناني المنقسمة لجهة الأولوية في الانتماءات والولاءات السياسية والإقليمية وتنوّعها بين مرجعيات مختلفة بدلاً من الولاء للوطن والانتماء إلى الدولة. وكان واجباً أيضاً البحث في الأسس الدستورية القادرة على توحيد الشعب اللبناني من خلال توحيد مؤسساته الدستورية إلى أقصى حدّ ممكن. وإذا كانت المشكلة قبل الطائف في صلاحيات رئيس الجمهورية، كان من الأفضل إصلاح النظام شبه الرئاسي بدلاً من نسفه برمّته وتحويله إلى نظام برلماني، باعتبار أنه كان بالإمكان الاستفادة من العبر التي أملت في بعض الدول تبنّي الأنظمة الرئاسية، ومن ثم مقابلة واقعها مع الواقع اللبناني للوقوف على مدى ملاءمته للحالة اللبنانية... ولو أخذنا مثالاً كالولايات المتحدة الأميركية لجهة تركيبتها الديموغرافية المكوّنة من أعراق وإثنيات وأديان كثيرة ومتنوّعة، وبحثنا في خصائص نظام الحكم فيها الذي استطاع توحيد ذلك التنوع الهائل، لأمكننا إسقاطه على الحالة اللبنانية التي تشهد تنوّعاً دينياً وثقافياً أقلّ بكثير من الولايات المتحدة، وذلك تماشياً مع المبدأ المنطقي القائل إن من يستطيع الأكثر يستطيع الأقلّ. فالنظام الذي استطاع توحيد التنوّع الحاصل في الولايات المتحدة هو قادر حتماً على توحيد التنوع الموجود في لبنان بحيث يكون الولاء الأول هو للدولة. ذلك أن تمحور السلطة بيد الرئيس سيوحّد اللبنانيين حوله ويجعله فعلياً الرمز لوحدة البلاد بفعل غياب التناحر على السلطة بين المعارضة والموالاة المعروفة في النظم البرلمانية. لا بل إن الحفاظ على الرئيس رمزاً لوحدة الشعب يُحرص عليه حتى في النظم البرلمانية، ولا سيّما ما يجسّده التفاف الشعب البريطاني حول ملكته التي تُعَدّ رمزاً لوحدة الشعب البريطاني، وذلك بالرغم من عدم وجود تناحر على السلطة.
وبالاطلاع على أبرز خصائص النظام الرئاسوي presidentialist نجد أنه يقوم على الآتي:
1ـــــ وجود رئيس جمهورية منتخب مباشرة من الشعب.
2ـــــ يجمع الرئيس بين يديه السلطة التنفيذية، أو بعبارة أخرى يختص بها وحده.
3ـــــ الوزراء في النظام الرئاسوي مجرد مساعدين للرئيس ولا يأتمرون إلا بأمره.
ولو كان الطائف قد أخذ وجهة إصلاح النظام شبه الرئاسي الذي كان معمولاً به بدلاً من تغييره، لاستطاع التزوّد من خصائص النظام الرئاسوي وأجرى الإصلاحات على أساسها، ومن ذلك:
أـــــ انتخاب الرئيس من الشعب مباشرةً، حيث يتاح لجميع اللبنانيين على مختلف انتماءاتهم المشاركة في الحياة السياسية من خلال الاقتراع لشعورهم بأهمية أصواتهم، علماً بأن انتخاب الرئيس من الشعب يحتّم على المرشح التوجّه إلى الشعب ببرنامج يرضي جميع اللبنانيين. فهو غير مقيّد بأصوات الطائفة التي ينتمي إليها ولا الدائرة الانتخابية ولا المصالح الضيّقة، فيكون لزوماً الرئيس العابر للطوائف... ومن شأن هذا في حد ذاته زرع بذور الثقافة السياسية الجديدة التي تتجاوز الهويات الطائفية، لكونه سيساعد على تأسيس هوية وطنية سياسية مجسدة في الرئيس.
ب ـــــ إقامة الفصل بين السلطات، فلا الرئيس يستطيع حلّ مجلس النواب إلا من خلال الاستفتاء الشعبي، ولا المجلس قادر على محاسبة الرئيس، لكن بمقدور المجلس مراقبة حكومة الرئيس بهدف تصويب العمل الحكومي. وهنا يطرح المجلس الثقة بحكومة الرئيس إذا لم تستجب له، فيكون على الرئيس حينها اللجوء إلى الاستفتاء الشعبي العام حول النزاع القائم بين حكومته والمجلس. وبنتيجة الاستفتاء يكون أمام الرئيس إمّا حلّ المجلس الذي لم يحظَ بتأييد الاستفتاء، وإلاّ يمتثل لرغبة الشعب الذي أيّد المجلس ويأخذ بموقف المجلس، فيكون ثمة توازن في ما بين المجلس والرئيس؛ لأنهما يحتكمان إلى الشعب مباشرةً.
ج ـــــ تقصير ولاية الرئيس، بحيث تصبح لمدة أربع سنوات قابلة للتجديد لمرة واحدة.
وعلاوة على ذلك، إن النظام الرئاسوي هو أفضل إلى حد بعيد من النظام البرلماني لمجتمع متنوع ومتعدد يفتقر إلى الانتماءات المشتركة بين فئات الشعب، ومن شأنه أن يضمن تمثيل المجموعات في السلطة التنفيذية من خلال صلاحيات الرئيس لاختيار وزرائه. ومن شأن هذا النظام أن يمنع شل عمل الحكومة، حيث إن الوزراء ـــــ بمن فيهم الوزير الأول ـــــ يعملون بصفتهم مساعدين للرئيس، لا شركاء له في الحكم. ثم إنهم لا يمتلكون حق نقض ما، الذي يتحول إلى الشعب، فيمارسه على نحو غير مباشر عندما يصوت لاختيار الرئيس.
وحتى إن جاء الرئيس إلى السلطة بأغلبية ضئيلة، فإن ولايته ستكون قوية بسبب وصوله بإرادة شعبية عابرة للطوائف والمناطق، مع التذكير بأن الرئيس يأتي من الطائفة المسيحية، لكن موقع الرئاسة ليس ملكاً للطائفة المسيحية. والأهم من ذلك، لا بد من التأكيد أن الهدف من الدعوة إلى نظام رئاسي ليس لاسترداد حقوق الطائفة المسيحية، بل لاسترداد حقوق الدولة اللبنانية.
* مدير مركز بيروت للأبحاث والمعلومات