تقاطروا من كلّ حدب وصوب. زعماء طائفيّون من 8 آذار ومن 14 آذار أرادوا أن يكرّموا صائب سلام بمناسبة رفع تمثال له في بيروت. والتماثيل ترفع الشأن في المدينة، ولكل طائفة وزعيم تمثال ونصب وأزقّة. ليست التماثيل أبديّة ـــــ لا في بيروت ولا في غيرها. ترى اليوم تماثيل عديدة ونصباً لرفيق الحريري ولبشير الجميّل ولغيرهما. قد يدور الدولاب ـــــ كما تقول أغنية لصباح، وقد تُزال تلك التماثيل المُنتشرة والنصب بالقوّة في يوم ما، وقد ترى بعد سنوات تماثيل ونصباً لقاتليْهم. هذا ممكن. لكن تمثال صائب سلام مناسبة للتذكّر، لعلّ التاريخ ينفع في عظاته لأجيال جديدة. لم يكن صائب سلام شخصاً تقليديّاً. هذا لا يعني أنّه لم يكن سياسيّاً تقليديّاً. بلى، كان كثير التقليديّة في السياسة وراسخاً في التقليديّة والمُحافظة.
لكن شخصيّته وسماته لم تكن تقليديّة. كان طريفاً (لا ظريفاً)، وخصوصاً عندما كان يتزيّن بالقرنفلة البيضاء، ويحمل السيجار، قبل أن يصبح السيجار علامة الارتقاء الطبقي. له من السمات الشخصيّة والأطوار ما لم يكن لغيره من الساسة. كان يُحسن اختلاق أدوار البطولة، وبالقوّة، ويعرف كيف يجذب الكاميرات (أو يصطحبها معه، على طريقة زياد بارود في جولاته الليليّة). وكان سياسيّاً بارعاً، بالمعنى القذر للسياسة في لبنان. كان بارعاً أيضاً في اللعب على الحبال: لم يحدْ يوماً عن ولائه وطاعته لآل سعود، بالرغم من مناصرته (غير الصادقة) لجمال عبد الناصر، لأسباب انتخابيّة بحتة. وفّق بين الاثنيْن في الستينات، لكن الجهاز الناصري لم يكن يثق به.
صائب سلام كان نموذجاً مُبكّراً لزعامة رفيق الحريري (وكان الرفيق فوّاز طرابلسي مُحقّاً في مقارنة عقدها في دراسة منشورة له بين زعامة الحاج حسين العويني ـــــ السعودي الهوى والهويّة ـــــ والحريري) على أكثر من صعيد، وإن كانت زعامة سلام موروثة على طريقة زعماء إقطاعات لبنان الطائفي. فصائب سليل عائلة زعامة، نتذكّر من مآثرها (هي وآل تويني وآل تيّان وآل سرسق) بيع أراضٍ في فلسطين للصهاينة.
قد تكون أوّل بطولة اختلقها صائب سلام لنفسه، «واقعة» الاعتصام في مجلس النوّاب اللبناني، بعد اعتقال رياض الصلح وبشارة الخوري في مهزلة (لا معركة) استقلال لبنان. كان يروي كيف رسم هو وسعدي المنلا وآخرين، بقلم رصاص، علم لبنان (أو تطويراً لعلم الانتداب الفرنسي). قفز نائب من النافذة، وتحوّل ذلك الى بطولة خارقة في معركة الاستقلال، وإن كان القفز بدافع الهرب من جنود الاحتلال الفرنسي (يصرّ لبنان الرسمي على تسمية «الانتداب» لا الاستعمار، حرصاً على مشاعر المُستعمر). لم يكن لصائب سلام دور في مسرحيّة الاستقلال بين ساسة رضعوا من حليب المُستعمِر وترعرعوا في أحضانه، فاختلق لنفسه دوراً. وتحوّلت رسوم سلام والمنلا، إلى وثيقة تاريخيّة تُحفظ في متاحف مسخ الوطن.
لكن صائب سلام عرف كيف يبرز في «ثورة 1958». ومصطلح «ثورة» كان من المرّات العديدة في تاريخ العالم العربي المعاصر التي يُستسهَل فيها استخدامه، فيما المضمون أقلّ بكثير، على أهميّة حشد القوى التقدميّة والتقليديّة الطائفيّة في مواجهة المخطّطات الإقليميّة (المتناسقة مع المخططات الصهيونيّة العالميّة) لنظام كميل شمعون آنذاك. (14 آذار هي الوارث الشرعي للفرع اللبناني لحلف بغداد). جُرح صائب سلام وتجوّل وتصوّر، وهو يضع ضمادة على رأسه. كما أنّه استطاع أن يحظى بدعم من النظام الناصري، بعدما استحوذ بالقوّة على «المقاومة الشعبيّة» في بيروت، وأصبح ناطقاً باسمها.
لكن العهد الشهابي لم يكن مناسباً لصائب سلام. الكيمياء، كما يرد في أكثر من كتاب عن فؤاد شهاب (صاحب عقيدة «التصالح الفعلي مع إسرائيل» العسكريّة)، بينه وبين الجنرال الشهابي كانت معدومة. كان ينفث دخان سيجاره في وجه من يلتقيه: ودخان السيجار لا ينسجم مع دخان الـ«ينيجي» اللطيف. لكن سلام لم يختفِ بإرادة «المكتب الثاني» الذي فضّل غيره عليه بين الزعماء السنّة المطواعين (كان عثمان الدنا ناصريّاً وشهابيّاً مُتعصّباً، قبل أن يصبح من عتاة المصفّقين لبشير الجميّل). استطاع أن يبقى على الساحة السياسيّة لأكثر من سبب. كان يتمتّع بماكينة انتخابيّة فاعلة، وكان يحسن ارتكاب ما يُسمّى هنا «الأفعال القذرة» في الانتخابات النيابيّة. كان بعض مفاتيح سلام الانتخابيّة لا يتورّعون عن تسريب الشائعات في مقاهي البسطة والمزرعة. كما أنّه أحسن قبل رفيق الحريري استخدام سلاح المذهبيّة مُبكّراً، عبر الحديث المتكرّر عن «مقام» رئاسة الوزراء وعن «المشاركة»، وعنى بها تدعيم صلاحيّات رئيس مجلس الوزراء. كما أنّ سلام كان أكثر ثراءً من غيره من الزعماء، مُستفيداً من عطاءات سعوديّة (وخليجيّة) مُبكِّرة. (وعده صدّام حسين في ما بعد ببناء كليّة طب للمقاصد، لكن صدّام أخلف وعده، بعدما انتشرت صوره مع شكر من «المقاصد» له).
كانت علاقة سلام المباشرة بالأمير سلطان، على ما يحدّثنا صحافي مخضرم (هو إبراهيم سلامة في كتابه «غداً سندخل المدينة»). والسعوديّة لم تكتشف لبنان وشراء الزعماء في الثمانينات: حدث هذا قبل ذلك بعقود. والحاج حسين العويني، على بساطة عقله، كان رهاناً سعوديّاً أكيداً، كما أنّ الملك فيصل كان على علاقة وطيدة مع حميد فرنجيّة، أي حلف سمير فرنجيّة (لم يقل لنا أحد لماذا حُسب على اليسار؟ هل لأنّه كتب مرّة أو مرّات في جريدة «السفير»، قبل أن يتوسط بين آل جنبلاط وآل الجميّل؟). صائب سلام كان لا يحيد عن الولاء للسعوديّة، لكن الانتخابات النيابيّة كانت تحتّم عليه آنذاك (عندما كان الشارع البيروتي «السنّي» عروبيّاً ومؤيّداً للمقاومة، أي كان ذلك قبل هطول الحريريّة على المدينة) ادعاء الناصريّة، مرّة كل أربع سنوات. وكان المتنافسون في «بيروت الثالثة» آنذاك، يهرعون إلى مصر للقاء جمال عبد الناصر، وإن لدقائق، من أجل الحصول على صور الدعاية الانتخابيّة. وكانت حملات صائب سلام مدروسة وصاخبة ومسليّة.
لكن لصائب سلام ميزات أخرى. كان أكثر قدرة على مخاطبة الشارع والغرائز والعصبيّات من منافسيه: عبد الله اليافي كان من نمط شخصيّة سليم الحص، الذي عجز أخلاقيّاً عن الردّ على أسلوب رفيق الحريري التحريضي المذهبي الرخيص، في انتخابات 2000 (أذكر أنّ الحصّ قال لي يومها إنّه لن «ينزل إلى هذا المستوى»). لكن لصائب سلام ميزات شخصيّة لم تتوافر لمنافسيه. كان فصيحاً وبليغاً، ويعرف أكثر من معظم الزعماء يومها كيف يسكّ الشعارات. وباتت شعارات سلام مضرب الأمثال. حتى إنّ وليد جنبلاط استشهد بها في زيارته أخيراً لتمام سلام، من أجل الإشادة بدور صائب سلام (هل هناك في تاريخ لبنان المعاصر زعيم لبناني يفتقر إلى الحدّ الأدنى من المبدئيّة أكثر من وليد جنبلاط؟).
وشخصيّة سلام كانت طريفة. كان الصحافيّون يتلذّذون بإجراء مقابلات صحافيّة معه، لأن خطابه كان مسلياً (على عكس ما كان يُعرف بـ«أسطوانة» رشيد كرامي، الذي كان يجيد التكلّم لساعة أو أكثر من دون أن يقول شيئاً مفيداً). كان يحسن التملّق، ويحسن الهجوم، ويحسن التنقّل والتقلّب، إذا ما قضت مصلحته الانتخابيّة ذلك. كان من صنف مختلف من السياسيّين، لجهة قدرته على جذب الجمهور، والمزايدة على الخصوم، و«التبجّح» مع إصرار على نبذ التبجّح. وكانت لسلام خصومات عريقة، أهمّها خصومته مع كمال جنبلاط، التي تفجّرت أثناء الحرب الأهليّة.
قد تكون المحطة الأبرز سياسيّاً في التاريخ المعاصر لصائب سلام هي في فضيحة «بنك إنترا». تلك الفضيحة لم تنل نصيبها من التحليل ومن دراسات شهادات الدكتوراه بعد. لم نعلم فصولها ولا نعلم ملابساتها. إنّ معرفتنا بالتغلغل الإسرائيلي في لبنان، قبل الحرب الأهليّة وبعدها، تدعونا الى الشك بوجود مؤامرة إسرائيليّة أميركيّة لإسقاط إمبراطوريّة «إنترا» ويوسف بيدس. لا نعلم الكثير عن دور بيدس في الصراع مع إسرائيل، ولكن من المعروف أنّه كان ينتمي إلى ما يُعرف في الأدبيّات الماركسيّة بـ«البورجوازيّة الوطنيّة». وتكالبت القوى الرجعيّة ضد يوسف بيدس في وقت واحد، ولا سيما بيار إدّه وصائب سلام. يكفي أن تنضم الشخصيّتان الرجعيّتان للإطباق على يوسف بيدس، كي تزداد الشكوك بحجم المؤامرة ضد بنك لم يكن يواجه أي أزمة في السيولة (أي أنّ الأزمة كانت خليطاً من بثّ شائعات لإحداث الذعر بين المودعين، ومن تصلّب الحكومة اللبنانيّة لمنع مدّ يدّ العون لإنقاذ البنك). إنّ الدور المشبوه لبيار إدّه لا يتعلّق فقط بلعبه دور الرسول بين والده وبين الحركة الصهيونيّة في أرض فلسطين (كما ذكر المؤرّخ الإسرائيلي، إيتامار رابينوفيتش)، بل يتعلّق أيضاً بدور كان حتى إصدار مذكّرات إبراهيم سلامة قبل بضع سنوات مجهولاً في داخل مجلّة «الحوادث» اللبنانيّة في أوج صعودها. صائب سلام كان جزءاً من المؤامرة ضدّ «إنترا»، لكن تفاصيل تلك المؤامرة بحاجة الى مزيد من المعلومات والوثائق، قبل إصدار أحكام قاطعة.
استطاع سلام أن ينجو من الاندثار في العهد الشهابي. انتمى إلى تكتّل الوسط: وهو كان يمينيّاً، لكنّه لم يرد أن يعاني في الصف الإسلامي من صبغة الحلف الثلاثي الطائفي (الوسط كان ولا يزال عنواناً لليمين المُلطّف والمُخادع). كان من حظّ سلام أنّ زميله في الوسط كان سليمان فرنجيّة الذي كافأ رفيقه بمجرّد أن وصل إلى سدة الرئاسة، في انتخابات رئاسيّة تصارعت فيها دول بصورة غير مسبوقة في تاريخ لبنان. وصل سليمان فرنجيّة إلى قصر بعبدا، وتحوّل سلام إلى واجهة للعهد الجديد. كان الرئيس في دستور ما قبل الطائف ملكاً غير مُتوّج، لكن سلام كان راضياً بالمعادلة السياسيّة التي حكمت البلاد، على أن يبقى طوني فرنجيّة في وزارات خدماتيّة مُدِرّة، وأن تتمثّل زغرتا في مختلف مرافق الدولة. لم يختلف الاثنان في السياسة الخارجيّة: الولاء للنظام العربي الرسمي (السعودي القيادة بعد وفاة عبد الناصر) كان سائداً. وكان صائب سلام ذكياً في تحذيره للبورجوازيّة اللبنانيّة واليمين الطائفي من أخطار الصعود اليساري والتقدّمي في السياسة اللبنانية. صاحب شعار «ثورة من فوق» كان يحذّر من «ثورة من تحت» تقضي على البنيان الرأسمالي والطائفي. أما شعار «لبنان واحد لا لبنانان» فقد كان للاستهلاك في المعارك الانتخابيّة. وشعار «لا غالب ولا مغلوب» كان من أجل عدم حسم المعركة ضد اليمين الطائفي الذي مثّله شمعون في حرب 1958.
أراد سلام أن ينقذ اليمين من أزمة في عقر النظام، وحاول عبر طرح شعار «المشاركة» أن يعزّز دور رئيس الحكومة كي تؤجَّل الثورة في لبنان. وحكم صائب سلام رديفاً، لا أكثر، لسليمان فرنجيّة الذي فهم الحكم تسلّطاً فرديّاً مُعزَّزاً بالدستور. لكن الأزمة انفجرت بين الاثنيْن في 1973، عندما تقاعس الجيش اللبناني في نيسان 1973 يوم «تسلّلت» قوات إرهابيّة إسرائيليّة إلى قلب بيروت، لتغتال قادة للمقاومة وشاعراً لها، وآخرين. وجدت القوّات الإرهابيّة سيّارات مُستأجرة بانتظارهم في شاطئ الرملة البيضاء. لم يطلق الجيش اللبناني (المُتحالف مع إسرائيل وفق عقيدة فؤاد شهاب العسكريّة) رصاصة واحدة على الغزاة. أصرّ سلام (انعكاساً لحالة غليان شعبيّة آنذاك) على استقالة قائد الجيش، إسكندر غانم. رفض سليمان فرنجيّة ذلك، لا بل باشر بشن حرب وحشيّة على المخيّمات الفلسطينيّة (لم تكن الحرب الوحشيّة ضد مخيّم نهر البارد أوّل حرب «يخوضها» الجيش اللبناني ضد مخيّم فلسطيني آهل بالسكّان). لكن ثوّار فلسطين في لبنان علّموا جيش إسكندر غانم درساً لم ينسه لسنوات. كانت تلك علامة فاصلة في علاقة سلام باليمين اللبناني آنذاك: لم يكن ذلك مجرّد قناعة، بل لأنّ سلام كان على بيّنة من التغييرات والتطوّرات التي لحقت بمزاج الرأي العام الإسلامي. وهنا، يمكن فهم خلاف سلام الحادّ مع كمال جنبلاط.
قد ينسى جيل جديد من اللبنانيّين اليوم أنّ الرأي العام في لبنان لم يكن بمجمله طائفيّاً أو مذهبيّاً قبل الحرب. لكن عدم الثبات في المواقف غير الطائفيّة، وارتداد قطاعات بحالها من الرأي العام باتجاه طائفي أو مذهبي يرسم علامات استفهام عن السلوك السياسي لتلك الجماعات في حقبة النضال المطلبي غير الطائفي. وعت القيادات التقليديّة الإسلاميّة أنّ الحركة الوطنيّة اللبنانيّة كانت تستحوذ على تأييد معظم الرأي العام المُصنف على الهويّة بالإسلامي، وعلى قسم من القطاع المُصنّف طائفيّاً بالمسيحي، وإن كان لأحزاب اليمين الطائفي التقليدي (من كتائب وأحرار) نجاح أكيد في تعبئة جماهير بحالها طائفيّاً وعنصريّاً. أما هؤلاء الذين لا يدخلون في أتون الصراعات والحسابات الطائفيّة، أي هؤلاء الذين آمنوا بعلمنة الدولة (يُلاحظ أنّه حتى التقدميّين اليوم لا يرفعون شعار العلمنة الشاملة، ويُفضّلون الشعار المُبهم عن «إسقاط النظام الطائفي») فقد أيّدوا البرنامج المرحلي للحركة الوطنيّة اللبنانيّة. والبرنامج المذكور كان إصلاحيّاً: أي أنّه أراد إنقاذ النظام الرأسمالي عبر إدخال إصلاحات بديهيّة قَبِل بها بعض اليمين في المجتمعات الديموقراطيّة الأوروبيّة. وتعاظم دور جنبلاط مع تنامي دور الحركة الوطنيّة اللبنانيّة التي تكلّلت بوهج الثورة الفلسطينيّة. أدّى ذلك إلى عداء حاد بين كمال جنبلاط من جهة، والقيادات الإسلاميّة التقليديّة، لكن كمال جنبلاط كان يضمر عداءً خاصّاً لصائب سلام، الذي بادله العداء بسبب نجاحه في تهميش القيادات الإسلاميّة التقليديّة. وقد أحرج نفوذ اليسار صائب سلام، الذي التزم بالنيابة عن نفسه (وعن المملكة السعوديّة وغيرها) محاربة اليسار ووصفه بـ«اليسار الهدّام». حاول سلام إنشاء ميليشيا، سمّاها «روّاد الإصلاح» (ترأسّها ابنه تمام) لمنافسة أحزاب الحركة الوطنيّة. فشلت فشلاً ذريعاً وهرع سلام إلى السعوديّة في بداية الحرب الأهليّة لإعلام آل سعود، حسبما قال يومها في تصريحات طنانة، بأنّ الإعلام يشوّه صورة المسلمين في لبنان، ويصبغهم زيفاً بصبغة الشيوعيّة. وكرّر سلام لآل سعود أنّ المسلمين في لبنان من عتاة معارضي الشيوعيّة. وكان جنبلاط يسارع إلى الردّ على سلام، مُطلقاً ضدّه أقذع النعوت والأوصاف، وينتقده كـ«عميل سعودي» (تقارن أو تقارنين ذلك بتملّق وليد جنبلاط لآل سعود خصوصاً في رسالة استعطاف، بعث بها أخيراً إلى الملك السعودي لمناسبة وفاة شقيقته، بعدما تلقّى رسميّاً إبلاغاً بالواسطة من لدن الأمير مقرن بأنّ علاقة السعوديّة به قد قُطعت).
وغاب سلام عن السمع في الحرب الأهليّة بعدما تقزّم دور الزعماء التقليديّين المسلمين. لكنّه عاد وأطلّ في 1977 ليؤيّد زيارة أنور السادات إلى القدس المحتلّة: وكان السياسي الوحيد الذي جاهر بمناصرته للسادات. وعاد فيليب حبيب ليبعث الحياة في زعامته أثناء حصار بيروت، مختاراً إيّاه كرسول مع منظمة التحرير (كان سلام ينقل إصراراً «بيروتيّاً» على خروج مقاتلي المقاومة من لبنان، بالتناسق مع الطلب الإسرائيلي الكتائبي). وعندما قرّرت السعوديّة أن تبارك رئاسة بشير الجميّل ـــــ أسوأ لبناني على الإطلاق ـــــ سارع سلام إلى إعطاء البركة وتطوّع كي يسوّق لبشير، ولأخيه من بعده، في الأوساط الإسلاميّة. وروّج سلام لأباطيل عن الحرب الأهليّة بعد اجتياح 1982، عندما اجترّ مقولات حزب الكتائب عن أنّ الحرب اللبنانيّة لم تكن أهليّة، وأطلق شعاره الأخير: «أخشى على اللبنانيين من الاختناق لكثرة العناق، لو تركهم «الغريب»». ردّ اللبنانيّون على الشعار في حرب الجبل بالفؤوس، وقتلهم ما هو غير العناق. لكن سلام كان قد فقد بوصلة الأحياء البيروتيّة وغادر إلى جنيف، وخصوصاً أنّ السعوديّة اختارت وكيلاً آخر لها.
تماثيل وزعامات بائدة محنّطة في وطن لا يزال يكرّم مستعمريه وكارهيه. لولا الحياء، لرفع آل الجميّل نصباً لتخليد أرييل شارون في قلب بكفيّا. هيهات منهم ذلك. لكن التاريخ يتقدّم، والعقائد المفروضة بحكم الطائفيّة والمذهبيّة والمال النفطي مؤقتة. ورموزها ترتبط بظرف نبع من قلب عقيدة بوش (وأوباما) من بعده (لماذا يظهر إيلي خوري مُصمّم إعلانات «ساتشي» و«كوانتم» وآل الحريري خاشعاً في صورته مع جورج بوش؟). هناك زمن آخر آتٍ لا محالة. الزمن الذي لا يعكس التقويم الإسرائيلي في المنطقة العربيّة. الزمن الحرّ سيقلب الموازين والمعادلات، ولن يُبقي تلك التماثيل النافرة في تاريخ الوطن. وعندما تُزال تلك التماثيل، ستولد ذاكرة جديدة.
ينتمي صائب سلام، مثله مثل زعماء طوائف ما قبل الحرب الأهليّة، إلى شلّة الساسة الذين دفعوا بلبنان إلى الحرب الأهليّة. هؤلاء يُشار إليهم اليوم على أنّهم عظماء وكبار وعمالقة. من يقول ذلك إما أنّه لم يكن مولوداً قبل الحرب، أو كان مولوداً وآمن بالمشاريع الطائفيّة. لا، لم يكونوا عظماء البتّة. هؤلاء رهنوا لبنان لمشيئات أجنبيّة وتآمروا على اليسار وعلى الثورة الفلسطينيّة، على مرّ العقود. لكن إطلاق الأسماء على الجادات والشوارع، وصبّ التماثيل، أعمال سياسيّة مقصودة، تهدف إلى إعادة كتابة التاريخ من وجهة نظر المُنتصر المالي والاستعماري. قل وقولي إنّها رهن حالة متسارعة يعانيها لبنان منذ 2005.
للتعليق على تمثال صائب سلام، وعلى تماثيل أخرى مشابهة في العاصمة وخارجها، يكفي أن تتذكّر أنّ أبطال مقاومة إسرائيل غائبون وغائبات عن التكريم. تمرّ بتماثيل عملاقة لزعماء التأجيج الطائفي والمذهبي، ثم تمرّ بلوحة صغيرة بالكاد تخلّد خالد علوان. تتيقّن عندها أنّ المؤامرة مستمرّة، وهي تتغلغل في الجادات والشوارع والأزقّة والمخادع والعقول. تعيد رسم الخرائط والمناهج وتزوّر التاريخ، وتبيد الصحف الحرّة وتتقيّأ إعلام حلف شمالي الأطلسي. لكنّها حالة تحتاج الى حالة مضادة لها كي تنفيها. هو الديالكتيك الهيغلي. لكن الديالكتيك يصطدم بوباء النفط العربي. وهذا الوباء لا يُقابل بالتطعيم وحده. إنّه يحتاج الى ما هو أقسى من الكيّ. والكيّ في هذا أوّل الدواء، لا آخره.
* أستاذ العلوم السياسيّة في جامعة كاليفورنيا
(موقعه على الإنترنت: angryarab.blogspot.com)