يمكن رصد تفاعلٍ من نوع مختلف في الخليج مع الثورات العربية والربيع العربي، يتفق مع باقي الشعوب العربية في شوقه إلى التغيير وتفاعله مع مفاهيم الثورة في العالم العربي ودوافعها وأهدافها، ويختلف في إسقاطه لهذه المفاهيم انتقائياً على ثورات دون أخرى. وبسبب الأهواء السياسية والمذهبية المتمكنة من تفكير شريحة واسعة في الخليج، يحصل الاختلاف على تلك الثورات، ثم يؤدي ذلك إلى الاختلاف على طبيعة الإصلاح المتوقع والمأمول في الخليج. وفي المحصلة، يعلو صوت المعركة المذهبية ليقدم صورةً مأسوية في الوقت الذي يُتَوَقَّع فيه مغادرة هذه المعارك السطحية في زمن الربيع العربي المُزهِر حريةً وديموقراطية.التفاعل مع أحداث البحرين وسوريا تحديداً يؤكد الإشكالية. فرغم التشابه الصريح بين الحالتين في مشروعية المطلب وفظاعة القمع، وتفاهة الدعاية الإعلامية الحكومية، لم يتفاعل كثيرون إلا وفق أهوائهم وحساباتهم الخاصة ليؤيدوا الحرية هنا، والقمع هناك، وينسفوا الحق الإنساني في الحرية والكرامة. وإذا تكرم البعض بالاعتراف به، فإنّه يغلفه بحديث «واقعي عقلاني» يرفض المنطق الثوري والتغييري في كل مكان بحجج مختلفة، ويستخدم «لكن» كثيراً في خطابه. و«لكن» هنا ليست تحليلية لواقع عربي تختلف حالاته المتعددة بالفعل في التفاصيل، رغم الاتفاق الواضح في المبدأ والخطوط العامة، بل هي «لكن» تبريرية للتناقض والازدواجية التي تدفع بها الأهواء السياسية والمذهبية. وتصل عبقرية رصد المؤامرات والأجندات الخارجية إلى مداها عند بعضهم، حين يستنتجون أنّ «كنتاكي» هو محرك الثورات العربية ومشعلها!
يقع الاختلاف على أحداث سوريا في إطار سياسي على الأغلب، وإن دخلت فيه عوامل مذهبية تفرضها وقائع سياسية معيّنة. لكن أحداث البحرين تتخذ طابع الاصطفاف المذهبي الصرف الذي انعكس توتراً مذهبياً على مستوى الخليج كله، وتأكد تحويل المطلب السياسي إلى حرب مذهبية في الكويت التي تجري فيها المعركة على شخص رئيس الوزراء ومسألة انتخاب الحكومة. في الحالتين، حصل انقسام حول المطلب السياسي بين أغلبية مذهبية متحفزة للتغيير، وأقلية متوجسة منه (مع التسليم بأنّ المطلب والتحرك ليسا مذهبيين في عناوينهما وأهدافهما). ونجحت القوى المعادية للتغيير في تحويل الأنظار عن المطلب السياسي إلى المعركة المذهبية المشتعلة التي يراد بها إحراق مسألة التغيير نهائياً.
لا تكمن خطورة الفتنة المذهبية فقط في عملها على تفتيت المجتمع وتقسيمه إلى فئات متصارعة تمثّل تهديداً لمبدأ التعايش والسلم الأهلي، بل تتجاوز ذلك إلى ضربها لكلّ توجه إصلاحي وطني يسعى إلى التغيير وبناء مستقبل جديد للأوطان. لذلك، تستخدم القوى السياسية والدينية الرجعية، الفتنة المذهبية سلاحاً تصوّب به على الخطاب الإصلاحي، وتنفخ به الروح في جسد الفساد والاستبداد، في وقت ضعفه وأزمته، لتتجنب في النهاية تجرّع كأس التغيير وتُحيل ربيعه خريفاً.
في السعودية مثلاً، توجد عملية دعائية منظمة تقوم بها جهات متشددة، تستخدم المذهبية لإدخال الناس في صراعٍ إلهائي معوق للتغيير. ومن خلال رمي كل مطلب تغيير وإصلاح كبير أو صغير بالتشيّع، تضرب عصفورين بحجر واحد: فهي تكرّس إدانة التشيّع وعدّه جريمة في الوعي الشعبي، ثم تبني على ذلك إدانة الإصلاح بوصفه مطلباً شيعياً «رافضياً». وفي المحصلة، تنجح هذه الدعاية في بناء وعي قائم على «مكارثية» مذهبية، تنطلق من نظرية «الشيعة فوبيا» لخلق عداوات وهمية تطمس النقاش حول القضايا الأساسية في البلاد.
تبدو أزمة الإصلاحيين اللاطائفيين كبيرة في ظل هذا الوضع، فالاصطفاف الطائفي الصارم يدخلهم في إشكالية من جهتين. فهناك أولاً رفض أطروحاتهم وعدّها خيانة للطائفة من قِبَل طائفيي جماعتهم، وثانياً استغلال أطروحاتهم من طائفيي الطرف المقابل في التشنيع على خصومهم. في الحالتين، يُعزل هؤلاء وتُعزل أفكارهم في الوقت الذي ترتفع فيه أسهم المزايدين في الموضوع المذهبي ويصورون على أنهم رموز وقيادات جماهيرية.
رغم هذه الأزمة والإشكاليات المتعددة التي يواجهونها، يبقى المثقفون أبناء فكرتهم لا أبناء طوائفهم. والمثقفون الحقيقيون إشكاليون بطبيعة طرحهم ومتمردون على القوالب الجاهزة والنمطية، دون أن يلغي هذا انتماءهم لدوائر متعددة ومختلفة وطبيعة وظروف الواقع الذي يعايشونه. وهم بالتالي قادرون على صوغ خطاب عقلاني مسؤول، يتجاوز كل الضغوطات الاجتماعية والسياسية، ويرفض بشدّة هذا السعار المذهبي، ويدافع بقوة عن المنطق الوطني الجامع، بل وينتقل من الدفاع إلى الهجوم صراحةً على كل طرح فئوي بوصفه خطراً حقيقياً على وحدة المجتمع وعلى الوطن المراد إعادة تكوينه وبنائه ليحتضن جميع أبنائه ويحقق تطلعاتهم وآمالهم.
يتعرض الخطاب الإصلاحي في الخليج اليوم لاختبار عسير في مواجهة التعبئة المذهبية وآثارها. ولا يمكن هذا الخطاب أن يبني وعياً شعبياً يصر على التغيير ويتبناه دون أن يخوض معركة كبيرة مع المذهبية، ثقافياً وسياسياً، تقوم على رفضها مبدئياً ورفض تفسيراتها وإسقاطاتها على الحراك السياسي والشعبي العربي المطالب بالتغيير، ورفض استخدامها في خلق معارك جانبية إلهائية داخل المجتمعات الخليجية، تحرف الأنظار عن مطالب التغيير التي يتبناها هذا الخطاب ويصرّ عليها.
لا يمكن الإصلاحي أن يكون طائفياً، ولا يمكنه أيضاً أن يكون محايداً أو خافت الصوت في مقابل الطرح الطائفي، لأنّ هذا الطرح يناقض كلّ طرح وطني إصلاحي. كذلك كلّ توجه وطني شامل لا يمكنه أن يتفق مع أيّ توجه فئوي في شيء. لذلك، هي معركة الإصلاحيين في المقام الأول، لا تكفي فيها النيات الحسنة، بل تحتاج في الواقع إلى رفع صوت المنطق الوطني في مواجهة معادي التغيير وسلاحهم المصوّب إلى قلب خطاب الإصلاح. وكلّ فشل أو تأخير في مواجهة هذا الأمر، يؤدي إلى إضعاف الأمل بتغيير حقيقي، والانتقال بالمجتمعات الخليجية من التطلع لمستقبل جديد إلى الغوص في ماض لا نهاية لإحباطاته.

* كاتب سعودي