يعيش لبنان على وقع الخلافات بين الأفرقاء السياسيين التي تدور كلّها حول الحصص الوزارية. وأبرز خلاف هو المتعلق بتخصيص رئيس الجمهورية بحصّة وزارية مسيحيّة في الحكومة المنويّ تأليفها برئاسة الرئيس نجيب ميقاتي، وكذلك حول مدى حق رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة المكلّف في الاستنساب في تعيين الوزراء. يمكن المرء، بعد التدقيق، أن يتوصل إلى أنّ تخصيص رئيس البلاد بكتلة وزاريّة يتنافى مع روح الدستور. كذلك فإنّ الرئيس ورئيس الحكومة المكلّف، مقيّدان وليسا حرّين بنحو مطلق واستنسابي في اختيارهما الوزراء، وذلك للاعتبارات الآتية:

1- لقد جعلت التعديلات الدستورية التي أقرت بتاريخ 21/9/1990 تنفيذاً لوثيقة الوفاق الوطني المعروفة باتفاق الطائف، السلطة الإجرائية منوطة بمجلس الوزراء مجتمعاً، بدلاً من أن تكون مركّزة في يد الرئيس، كما كانت الحال عليه في السابق، من أجل منع استئثار طائفة واحدة في الحكم، وجعل السلطة بيد ائتلاف الطوائف المتمثل في مجلس الوزراء وكأنّه أشبه بمجلس ملّي.
من هنا أصبح للفقرة أ من المادّة 95 من الدستور المتضمّنة أن «تُمثل الطوائف بصورة عادلة في تشكيل الوزارة» معنى أعمق وأبعد مما كان عليه قبل اتفاق الطائف. فلم تعد عدالة التمثيل بين الطوائف في مجلس الوزراء تقتصر على العدد، بل صارت تشمل النوع. ولا ريب في أنّ تمثيل الطوائف يجب أن يستند إلى الخلاصات والنتائج التي أفرزتها الانتخابات النيابية، وليس إلى أيّ أمر آخر، لأنّ الانتخابات تمثّل الآلية المعتمدة للتفويض الشعبي، وأنّ الشعب مصدر السلطات بحسب الفقرة «د» من مقدّمة الدستور. من هنا، يجب أن يمثلَ الوزير طائفته في التشكيلة الحكومية، وليس رئيس الجمهورية ولا رئيس المجلس النيابي ولا رئيس الحكومة ولا أيّ مسؤول آخر. ولا يمكن التوصّل إلى تحقيق صحة هذا التمثيل إلا من خلال خلاصات الانتخابات النيابية.
2- إنّ إعطاء كتلة وزارية مسيحية لرئيس الجمهورية يضرب عدالة التمثيل بين الطوائف. فالكتل النيابية الاسلامية الموافقة على المشاركة في الحكومة ستحتل جميع المقاعد الإسلامية الوزارية، وستتمكن من أن تمثل الناخبين المسلمين، فيما الكتل النيابية المسيحية المشاركة في الحكومة لن تتمكن من أن تحتل جميع المقاعد المسيحية في الحكومة ومن أن تعكس بالتالي إرادة الناخبين المسيحيين. إذ سينازعها عليها رئيس البلاد، وهو يُنتخب دائماً بنتيجة تسويات تفرضها لعبة النصاب اللازم والتوازنات السياسية، خلافاً لما عليه حال انتخاب النواب الذي تكون فيه إرادة الناخبين المسيحيين أكبر، بطبيعة الحال. ولا يُردّ على ما تقدّم بأنّ الكتل النيابية المسيحية صوتت إلى جانب انتخاب رئيس الجمهورية، لأنّ تأييد مرشح معين لتولي رئاسة الجمهورية لا يعني تفويضه اختيار الوزراء الذين يمثلون الكتل، ولا التنازل له عن حصصها، بل يعني انتخابه لأداء دور الرئيس. أما إذا كان رئيس الجمهورية زعيماً لكتلة نيابية، فيبقى من حق هذه الكتلة أن تتمثل في الحكومة تبعاً لحجمها، وليس تبعاً لكون زعيمها رئيساً للبلاد.
3- لقد حَرص المشترع الدستوري على إبقاء رئيس الجمهورية فوق لعبة تمثيل الطوائف في مجلس الوزراء، من خلال منعه من أن يشارك في التصويت في المجلس عندما يترأس الجلسة (الفقرة 1 من المادّة 53 من الدستور) لتكون المناصفة بين المسيحيين والمسلمين في تكوين المجلس متحققة بعيداً منه.
وفوق ذلك، جعل الدستور رئيس الجمهورية رمز وحدة الوطن (المادّة 49)، فحرمه من أن يتولى، مباشرة أو مداورة، تمثيل طائفته في مجلس الوزراء لأنّ مثل هذا التمثيل يتنافى مع كونه رمزاً لوحدة الوطن.
4- إنّ تخصيص الرئيس بحصّة وزارية يتنافى مع أحكام المادّة 60 من الدستور التي نصّت على أنّ «لا تبعة على رئيس الجمهورية حال قيامه بوظيفته إلا عند خرقه الدستور أو في حال الخيانة العظمى». في حين أنّه بحسب المادّة 66 «يتحمل الوزراء إجمالياً تجاه مجلس النواب تبعة سياسة الحكومة العامة ويتحملون إفرادياً تبعة أفعالهم الشخصية». وعليه، إذا كان الوزير يشغل مقعده بصفته ممثلاً عن الرئيس، أو عضواً في حصته، فستبدو أيّ مساءلة للوزير وكأنّها مساءلة للرئيس، وسيكون حجب الثقة عن الوزير بمثابة نزع ثقة عن الرئيس، وهو أمرٌ خطير للغاية، ويمثّل إساءة لمقام الرئاسة. ويمكن القول إنّ تخصيص الرئيس بحصة وزارية يمثّل عبئاً على الرئاسة، لا قيمة مضافة، فرئيس الجمهورية لا يملك صلاحية إمرة الوزير الذي يمثله أو مساءلته أو حجب الثقة عنه، إذا أخلّ بواجباته أو خرج على سياساته، فيما تبقى الكتل النيابية قادرة في أيّ وقت على حجب الثقة في المجلس النيابي عن الوزراء.
5- لقد اعتمد لبنان بموجب تعديلات الطائف النظام البرلماني الطائفي، ونصّت الفقرة «ج» من مقدّمة الدستور على أنّ «لبنان جمهورية ديموقراطية برلمانية». وقد استبعد النظام الرئاسي، ما يعني أنّ الوزراء يجب أن يمثلوا الكتل النيابية التي تشارك في الحكومة لكونهم شركاء في السلطة الإجرائية وليسوا معاونين لرئيس الجمهورية كما هي الحال في الأنظمة الرئاسية أو شبه الرئاسية (وهو ما كان عليه دستورنا قبل تعديلات الطائف وإن كانت الأعراف تقلل من حدّة النص).
كذلك فإنّ الوزراء ليسوا معاونين لرئيس مجلس الوزراء، وليس من حق رئيس الحكومة المكلف، ولا رئيس الجمهورية، اختيارهم بحسب مشيئتهما الاستنسابية، بل هما مقيّدان برأي الكتل النيابية التي ستؤمن للحكومة الثقة البرلمانية من جهة، وبحسن تمثيل الطوائف من خلال هذه الكتل من جهة ثانية. الحكومة ليست حكومة رئيس الحكومة ولا حكومة رئيس الجمهورية، بل هي حكومة الأكثرية النيابية والميثاقية.
وهنا، من اللافت أنّ الدستور الذي خوّل رئيس الجمهورية إصدار مرسوم تأليف الحكومة، بالاتفاق مع رئيس مجلس الوزراء، تحاشى استخدام أيّ عبارة تفيد بأنّ رئيس البلاد يعيّن الوزراء أو يسميهم، كما كانت الحال قبل تعديلات الطائف. وكذلك، لم يستخدم الدستور مثل هذه العبارات في حديثه عن صلاحيات رئيس الحكومة المكلف، ولا في حديثه على صلاحياتهما معاً، وإن كانت صلاحية إصدار مرسوم تأليف الحكومة تنطوي على صلاحية تسمية الوزراء بطبيعة الحال، لكأنّ المشترع الدستوريّ أراد من خلال ذلك أن يقول إنّ صلاحية رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة المكلف في تأليف الحكومة ليست مطلقة، وليس لهما سلطة استنسابية في تعيين الوزراء. الرئيسان مقيّدان بحسن تمثيل الوزراء للطوائف من خلال الكتل النيابية المشاركة في الحكومة ما دامت الحكومة الوليدة مرهونة باستحقاق حيازتها الأكثرية البرلمانية لتتمكن من الحكم، وهي عاجزة (مع رئيس الجمهورية) عن حل المجلس النيابي أو عن التهويل بهذا الإجراء كما كانت عليه الحال قبل تعديلات الطائف، إلا في حالات معقدة ونادرة جداً.
6-إنّ الذريعة القائلة إنّه يتعيّن أن يتولى حقيبتي الداخلية والدفاع وزيران محسوبان على الرئيس، لكونه القائد الأعلى للقوات المسلحة بحسب المادّة 49 من الدستور، مردودة لكون هذه المادّة أناطت بالرئيس شخصياً القيادة العليا للقوات المسلحة وليس بالإنابة من جهة، ولكونها استطردت وأخضعت هذه القوات لمجلس الوزراء من جهة ثانية.
وفي الختام، أتمنى عدم اللجوء إلى مزايدات والادعاء بأنّ قراءتي الدستورية من شأنها التقليل من صلاحيات رئيس الجمهورية، إذ بالمعنى الطائفي، صلاحية إصدار مرسوم تأليف الحكومة ليست منوطة أصلاً (بموجب تعديلات الطائف) برئيس الجمهورية منفرداً، بل مرهونة بالاتفاق بينه وبين رئيس الحكومة المكلف. كذلك إنّني من دعاة إعادة النظر في الدستور لمعالجة الكثير من الإشكاليات التي تعتريه، ولاسيّما في اتجاه مدّ رئيس الجمهورية بمزيد من الصلاحيات التي تخوّله ممارسة دور الحَكَم، مثل تخويله حق إقالة الحكومة، والدعوة منفرداً إلى عقد جلسات استثنائية لمجلس الوزراء، وحق حل البرلمان مرّة واحدة على الأقل خلال ولايته، فضلاً عن ضرورة تقييد رئيس الحكومة والوزراء بمهل لتوقيع القوانين والمراسيم ووضع مهلة دستورية لرئيس الحكومة المكلف من أجل إنجاز مهمته.

* محام وكاتب سياسي