الرد الذي واجهت به السلطة السورية الانتفاضة الشعبية حاول محاكاة الرد الذي واجه به النظام تمرد الإسلاميين نهاية سبعينيات القرن الماضي، وسنوات 1980/1982، أي باستخدام العنف المفرط، الذي يتمثل في القتل المباشر واستخدام الدبابات والقناصة واحتلال المدن. وإذا كان استنتاج السلطة السورية بأنّ «تطيير» زين العابدين بن علي وحسني مبارك جاء لأنّهما لم يستخدما القوة منذ البدء، فقد قررت أن تواجه كلّ تحرك بعنف مفرط يتمثل باستخدام الرصاص الحي، وأصبحت السياسة الضرورية هي العودة الى «خطة» 1980.لكن سنة 2011 هي غير سنة 1980، ومن لا يلاحظ الفارق الهائل بين التاريخين سوف يفاجأ بالنتائج. ودون أن أتطرق الى الاختلاف الكبير في الوضع الدولي، يمكن تلمس الفوارق الكبيرة في الوضع الداخلي. ليس من أبرز تلك الفوارق أنّ الصراع حينها قد انحصر في بعض مدن الشمال (حماه وحلب وجسر الشغور)، ولم يطل الشعب السوري، كما أنّه اتخذ لوناً أيديولوجياً وطائفياً حينها أكثر من كونه يعبّر عن مطالب طبقات شعبية كما يحدث الآن. لذلك، كان من السهل محاصرة التمرد وسحقه، ما ظهر واضحاً في مدينة حماه.
كانت السلطة حينها في أوج قوتها، لا لأنّها امتلكت قوة أمنية كبيرة وجيشاً قوياً، فتلك كانت نتاج وضع محدّد، بل لأنّ التحولات التي أُحدثت في البنية الاقتصادية والمجتمعية خلخلت التكوين الطبقي القديم. تكوين كان يتّسم بسيطرة طبقة إقطاعية تجارية، وإفقار وتهميش كتلة كبيرة من الريف، وتعريضه لاضطهاد شديد، لمصلحة توسيع كبير للطبقة الوسطى. كلّ ذلك، من خلال قوانين الإصلاح الزراعي وتوزيع الأرض على الفلاحين، وتوسيع التوظيف في الدولة، وبناء الصناعة وتحسين وضع الطبقة العاملة. هذا الوضع كان يجعل كتلة كبيرة إما مؤيدة للنظام أو محايدة، وسمح بأن تكون قوى السلطة الأيديولوجية (حزب البعث) والأمنية (الاستخبارات والجيش) في وضع صلب حول السلطة.
في المقابل، مثّل حراك الإخوان المسلمين (والطليعة المقاتلة) التعبير عن تلاشي وضع فئات اجتماعية تقليدية في المدن، وبعض الأرياف، في سياق تحولات اقتصادية حداثية، إذ كانت تحلّ بعض الصناعات محل الحرف، والتجارة الحديثة محلّ «الدكاكين» التقليدية. وحمل ذاك الحراك أسس الصراع من أجل الدولة الدينية، القائمة على أساس طائفي في مقابل سلطة «قومية»، أو تحمل خطاباً قومياً. وبهذا، فقد كانت التعبير عن ميل «رجعي» في مواجهة وضع كان يشهد بعض الحداثة.
وفي هذا الوضع بدا التمرد محدوداً في دولة كانت لا تزال متماسكة، ولقد قطع حراكاً مدنياً حداثياً بدأه مثقفون ونقابات مهنية (مهندسون ومحامون وأطباء...) من أجل الديموقراطية. فقد كان يعاكس هذا الميل الحداثي من حيث سعيه للعودة الى الماضي، وهنا كانت نقطة ضعفه والتشوه الذي أحدثه، بعدما استغلّته السلطة لسحق كل القوى الديموقراطية المعارضة، وتعميق الطابع الأمني للسلطة.
لكن، لا يمكن من أن نقول كلّ ذلك اليوم، فقد أضحى الواقع الاقتصادي هو الأساس الذي يقوم عليه الحراك الراهن، بعدما أصبح التمايز هائلاً بين أقلية نهبت وراكمت مليارات الدولارات، وما زالت تنهب وتراكم، وأغلبية ساحقة لا تمتلك ترف العيش. كلّ ذلك في وضع بات يتسم بتقلص فرص العمل وهامشيتها، بعدما تحوّل الاقتصاد الى اقتصاد ريعي يتمركز في الخدمات والسياحة والعقارات والاستيراد في الغالب. وبهذا، باتت هناك كتلة مفقرة تضم معظم السكان. ولقد أشار الحراك الى أيّ مدى انهار الريف خلال السنوات السابقة، وكيف نشأت ظاهرة الشباب من دون عمل، وكيف انهار التعليم وأصبح العلاج مشكلة.
فالطبقات الشعبية التي أفقرت وتهمّشت هي التي تتحرك اليوم، بعدما سيطرت أقلية على المقدرات الاقتصادية. وفي هذا الوضع لا تعود المسألة مسألة فئة سياسية أو اجتماعية هامشية، بل تصبح مسألة مجتمع عانى التهميش دون آفاق ممكنة، لهذا بات يندفع بقوة هائلة من أجل التغيير.
وهذا ينعكس على تماسك الدولة ذاتها، فلم يعد لـ«الأيديولوجية» موقع في وضع أصبح موظفو الدولة يعيشون على الكفاف، ويعانون الإفقار، ودون مقدرة على تعليم أبنائهم أو طبابتهم. وأصبحت الامتيازات التي تغدقها الأيديولوجية منحصرة في فئة ضئيلة، ما يبرز التمايز العميق بين نخبة تحوّلت الى «رجال أعمال جدد»، وأغلبية باتت تعاني الفقر.
هكذا يختلف ميزان القوى على الأرض، رغم امتلاك السلطة الأسلحة المتطورة، لكن الصراع بات مع المجتمع، وفي وضع لا تبدو الدولة فيه قوية. وإذا كانت مجزرة كتلك التي حصلت في حماه في 1982 ستصبح فضيحة عالمية عبر الإعلام الحديث، وتستثير إمكانات التدخل الإمبريالي، فإنّ الأمر الآن لا يتعلق بمدينة واحدة أو حتى منطقة، بل يتعلق بكل سوريا، وبمطالب مختلفة جذرياً.
الصراع الآن، بالتالي، ليس بين دولة «اشتراكية وقومية» وقوّة أيديولوجية أصولية وطائفية، بل بين سلطة تمثّل فئات راكمت المليارات من خلال نهب ثروة المجتمع والتحكم بكل مفاصل الاقتصاد، وكلّ الطبقات الشعبية. ورغم التخويف الطائفي الذي تقوم به السلطة، يظهر واضحاً أنّ هدف المشاركين في الانتفاضة هو السلطة التي تحمي من نهب، وتقمع كلّ معترض أو متذمر، ولا تسمح بإنشاء نقابات تدافع حقيقة عن العمال والفلاحين والمهنيين. الصراع، بالتالي، ليس بين طوائف المجتمع بل بين طبقات مفقرة والسلطة ذاتها.
من هنا، فإنّ كلّ تفكير في أنّ منطق 1980 يمكن أن ينجح في 2011 هو توهم يستدعيه البقاء في السلطة أكثر من أن يكون واقعياً. فربما يتزايد الشهداء، لكن ليس من الممكن العودة الى الوراء، وبالتالي ليس من الممكن سحق الثورة أو وقفها. فهناك قوى اجتماعية لم يعد أمامها من خيار سوف «هدم الجدار»، من أجل فتح أفق للمستقبل، وفي هذا الوضع لا يمكن هزيمتها. الآن الصراع هو مع الشعب الذي لم يعد يحتمل استمرار الإفقار والبطالة والتهميش. وهو صراع، بالتالي، بين الشعب والطبقة التي تكونت من خلال نهب ثروة المجتمع، وتدافع بأقصى العنف عن مصالحها. مصالحها هي بالذات، بغض النظر عن كلّ الأغلفة الأيديولوجية التي ترددها. الصراع هو حول ذلك، ومن أجل بديل يحقق ظروفاً أفضل للطبقات الشعبية، ويؤسس لدولة مدنية ديموقراطية تسمح لتلك الطبقات بالدفاع عن مصالحها.
أعرف أنّ عماء السلطة لا يسمح بفهم ذلك، لكنّه سيكون واضحاً حينما ينجح شعار الشعب. المهم هو أن نعي أنّ الوضع الآن ليس كما كان في الماضي، وأنّ حراك الناس لا رجعة فيه.

* كاتب عربي