من أكثر الأمور التي تلفت الانتباه إلى الحدث السوري، تناقض الروايات المذهل. لا يقلل من قيمة ذلك التناقض أنّ جانباً منه يعود إلى «بروباغندا» تتشدق بها وسائل الإعلام الرسمية وشبه الرسمية للنظام السوري، ما دام هناك قسم كبير من السوريين المقتنعين تماما بهاً، رغم تفاهتها، بل على الأرجح أنّهم سيكونون مقتنعين بكل ما تقوله، مهما بدا عبثياً وساذجاً. يعني ذلك أنّ وسائل الإعلام السورية لا تكذب من باب خلط الحابل بالنابل، وخلق حالة من التشويش وحسب، بل أيضاً ـــــ وهو الأهم في هذا السياق ـــــ إنّها تقول ما سيصدقه قسم من الناس، وربما ما قد تبنوه في ما بينهم، قبل أن تبدأ هي نفسها بالترويج له. قد تكون التجربة المعيشة هي الأفضل، للدلالة على واقع الفصام الذي يعيشه السوريون من الاكتفاء بتناول التناقض بين وسائل الإعلام. تتكل تلك التجربة على «شهود العيان». ليس شهود العيان الذين نراهم على الفضائيات، بل أصدقائي ومعارفي من مدن سورية مختلفة (حمص، اللاذقية، جسر الشغور، حلب ودمشق وغيرها) ومتنوعة، تناسب حياتي في مدن سوريا مختلفة، قبل مغادرتها منذ عدة سنوات. لا أنكر صدمتي عند سماع القصص التي يروونها لما يحصل في سوريا، فالشعور الأول الذي انتابني أنّهم لا يعيشون في البلد ذاته، بل في بلدين مختلفين تماماً.في روايات الفئة الأولى، تحضر العصابات المسلحة، والمسلحون والقناصة المجهولون الذين يعتدون على الجميع، بمن فيهم الشرطة والجيش. تحضر أيضاً الهتافات الطائفية ضد العلويين والمسيحيين، وقصص التهديد وإجبار الآخرين على المشاركة في التظاهرات، أو على الاقل الاكتفاء بإطلاق الشعارات المناهضة للنظام. التظاهرات ـــــ كما يروون ـــــ أصبحت في غالبيتها مشكلة من زعران يحملون عصياً وسكاكين وآلات حادة، يخربون ويكسرون ويروعون الناس.
لدى الفئة الثانية، التظاهرات سلمية عموماً، والشعارات الطائفية ظاهرة هامشية ومحصورة، وعادة ما تأتي إثر استفزاز. أما العصابات المسلحة والتخريب، فهما من أعمال الشبيحة. أحدهم روى كيف أنّه بعد تفريق تظاهرة في حمص، أتت سيارة بحماية أمنية لينزل منها شبيحة ملتحون، بدأوا بالتخريب والتكسير، وصُوِّروا باعتبارهم جزءاً من المتظاهرين. من المؤكد أنّ على المرء أن يراعي مسائل متنوعة، ففي النهاية لا يروي «شهود العيان» كل ما رأوه بالفعل، بل جزءاً منه، وغالباً تصلهم الروايات من خلال الشائعات والقصص التي يتناقلها المعارف، وكالعادة تكثر الشائعات مع قلّة توافر المعلومات من مصادر إعلامية موجودة على الأرض. كذلك إنّ الكثير من «شهود العيان» حبيس منزله، بفعل الرصاص المنهمر والعشوائي في الأحياء. يفتقر السوريون أيضاً، في هذه الظروف، إلى التروي والتحقق مما يسمعونه. فهم في النهاية لا يعيشون في ظل ظروف طبيعية، بل تحت الرصاص والشعور بعدم الأمان والخوف، وهذه أمور يجب أن تؤخذ في الحسبان. غير أنّ ذلك لا يمنع من أن نرى أنّ السوريين لا يعيشون واقعاً مشتركاً، بل واقعين مختلفين، وحتى متناقضين، أو «واقعين متوازيين»، كما يقول الباحث عامر محسن. واقعان لايكتفيان بالاختلاف في «سرديتهما»، بل حتى ـــــ وهو الأهم ـــــ في أحداثهما ووقائعهما المباشرة التي يفترض أن تكون جزءاً من التجربة المشتركة للسوريين.
هيمنة غير منجزة
ليست هذه الحال غريبة على السوريين، فقد اعتادوا التعبير عن أنفسهم عبر لغتين مختلفتين، بل متناقضتين. الأولى لغة رسمية يستخدمونها في الشأن العام والعلني، تتحدث عن التعايش والوحدة الوطنية والقومية العربية والصمود والتصدي، وقد ترفدها مفاهيم تتقدم أو تتراجع حسب السياق التاريخي، كالاشتراكية والتقدمية. تقابل تلك اللغة، «لغات» أخرى تنزوي بعيداً في المجالس الخاصة، وضمن المحيط الاجتماعي المباشر، يعبّرون من خلالها عن ذواتهم وعلاقاتهم وتصورهم للعالم.
منذ تسلّم الأسد الأب للسلطة في 1970، أُبعد السوريون عن السياسة، وأُجبروا على الانسحاب من المجال العام، باعتباره مجالاً يتحاورون من خلاله في قضايا عامة، ويوحّدون تجربتهم المعيشة، ويخلقون من خلاله لغة ورموزاً وطنية مشتركة، توحد تجربتهم السياسية وتمسي قاعدة لهوية وطنية يتعرفون إلى أنفسهم من خلالها. قابل افتقار السوريين لـ«مجال عام» فشل الدولة (أو إفشالها) في مهمتها بـ«بناء أمة». فمع تحول الهيمنة الطبقية في السبعينيات، والصراع الدموي مع الإخوان المسلمين، ضعفت الدولة التي تحوّلت إلى نظام. فعلى المستوى الثقافي والتعليمي، أنجزت الدولة تسوية مع المثقفين التقليديين من رجال الدين، معززة هيمنتهم وسطوتهم على جماهيرهم، لترويج ثقافة طقوسية تعبدية لا تتعاطى السياسة، لكنّها بالمقابل تعزز الهويات المذهبية، فتزايدت أعداد الجوامع والمدارس القرآنية تزايداً هائلاً في سوريا (هناك ما يقارب عشرة آلاف جامع ومسجد، وحسب التقديرات، نحو أربعة ملايين شخص يحضرون صلاة الجمعة).
على المستوى الاقتصادي، انسحبت الدولة تدريجاً، معززة من دور القطاع الخاص المكون من بورجوازية «قديمة»، دمشقية بخاصة، أخذت نصيبها في المجال التجاري والعقاري، و«بورجوازيات» مستجدة تُبنى عبر التسلط على الدولة وعلاقات الفساد والقرابة. عزز كلّ ذلك الروابط الأهلية والمحلية التي يلجأ إليها الأفراد لغرض الحماية والأمان الاقتصادي، تعويضاً عن دور متراجع للدولة. وليس عبثاً أن تكون درعا (وحوران عموماً) أحد معاقل الانتفاضة، وهي منطقة مدنية تضررت كثيراً بالسياسات الاقتصادية في العقد الأخير، ما دعم من دور العائلات الممتدة التي وفّرت حماية اقتصادية وحتى أمنية لأبنائها، في مواجهة أوضاع اقتصادية متراجعة وعسف سلطة جائرة، وسلطات محلية أشد فساداً وبطشاً. درعا هذه كانت أحد أهم معاقل حزب البعث (قداح، مقداد، الزعبي والشرع كلّهم يعودون بأصولهم إلى حوران) عندما كان يتماهى الحزب مع هوية فلاحية متمردة وثائرة. وهكذا أيضاً، نجد الدور المستجد في أهميته للعشيرة (والجمعيات الخيرية التي عادة ما تكون مرتبطة بهويات طائفية) مقابل «النقابة» لتحصيل الحق أو الأمان.
انسحاب الدولة وفشلها في تأسيس الجماعة الوطنية، وتماهيها أكثر مع جهاز للقمع (اختزالها بنحو متزايد في وظيفتها القمعية)، وهو ما يسميه عادة المعلقون السوريون بانتصار النظام على الدولة، هو جذر لتلك الازدواجية اللغوية لدى السوريين. فاللغة الرسمية هي لغة تمثيلية، ولم تسع إلى تأدية دور اللغة الشمولية التي تحاول أن تعيد قولبة المجتمع والمواطن على الصورة التي تتمناها النخبة لهما، فهذا الطموح البعثي انتهى عملياً مع صلاح جديد. اكتفت اللغة الرسمية بدور تمثيلي، تحتكر الحضور في الشأن العام وتدل على طرد المواطنين لمصلحة الجمهور المطبل والمزمر. لغة لا يصدقها أحد، حتى منتجو مفرداتها أنفسهم، ولكنّها اللغة الوحيدة التي تستخدم للحديث العلني (1).
اللغات الأخرى المنفية إلى المجال الخاص (وهي ما يسميه التقليد الإسلامي على نحو معبّر التقية، أي التصريح باعتقاد مناف لما يبطنه المرء اتقاءً لشر السلطة، ولهذا سأسميها بلغات التقية من دون الحمولة المذهبية للمفهوم) أي «لغات التقية» تمسي في المقابل أكثر صدقاً للسوريين للتعبير عن أنفسهم وتجاربهم. وقد نحت لغات التقية تلك، بتزايد، لتصبح لغات «هوية طائفية»، وخاصة بعد الصدام مع حركة الإخوان المسلمين، وتزايد دور علاقات القرابة في بنية السلطة التي سعت أيضاً من جانبها إلى تعزيز الهويات الطائفية لتعزيز سطوتها وادعاءاتها بحماية الأقليات وتحفيز عصبيات طائفية متنافرة ومتعادية، وأيضاً لتستعين فيها لحماية سلطتها (2).
كل من هاتين اللغتين قدمت «تصوّرها» عن العالم والهوية والتاريخ، فكثيراً ما كانت أحداث تؤدي دوراً مركزياً لدى إحدى الجماعات من خلال لغتها الخاصة، لا تحضر أصلاً في اللغة الرسمية، أو أنّ أبطالاً معتمدين في اللغة الرسمية ملعونون في لغة خاصة ما، أو أن ترد الأحداث وروداً متنافراً. فعلى سبيل المثال، اعتادت جدتي (والعديد من مسيحيي حلب من جيل جدتي) على روايات قصص هبّات حلب باعتبارها «قاموا الإسلام على المسيحية». لا توجد هبّة في حلب على الانفصال، أو تلك الناصرية على حزب البعث في 1963، كلّها تنتفي لمصلحة ثيمة واحدة «قاموا الإسلام على المسيحية»، ضمن سردية للقمع والاضطهاد والمعاناة للمسيحيين.
غير أنّ هاتين اللغتين كثيراً ما تداخلتا، وإن بطريقة مواربة، فكثير من النقاشات السياسية امتلكت ميزة قد يعدمها المرء خارج سوريا. فالنقاش يبدأ على موضوع له علاقة بالفساد مثلاً، لينتهي بمشادة من نوع «أنت سنّي ولهذا تعارض النظام». قد لا يفهم الآخرون مثل تلك القفزات، لكنّها لدى السوريين مفهومة، فالنقاش الذي يبدأ من خلال لغة رسمية يكون مشبع بإيماءات وإشارات تحيل إلى «لغات» أخرى. أليست شهيرة دعابة السوريين: «إنني علماني وأكره الطائفية والسنّة»؟
من الضروري التنبيه إلى أنّه ليس كل السوريين يعرّفون أنفسهم بلغة طائفية، بل كثيرون لا يعيرونها اهتماماً، ويعرّفون أنفسهم من خلال هويات سياسية شيوعية أو قومية، أو غيرها. لكن هذا التعايش غير المعلن، هو ما يثير اللغط والطرافة في كثير من الأحيان. «لغات التقية» التي تعزز موقعها في عهد التصحيح، خلقت سرديات لهويات طائفية متخيلة، كانت تعبيراً عن عدم قدرة الدولة على بناء أمة تحقق هيمنة لهوية وطنية، وعبرت كذلك عن جوهر الممارسة السياسية في سوريا القائمة على تذرير الشعب في عصبيات محلية ودنيا، يتوجس بعضها من بعض، ويستخدم النظام جميعها.
تصدع الخطاب الرسمي
ما حصل في سوريا، منذ بداية الانتفاضة، هو انهيار «اللغة الرسمية» التي تواطأ السوريون عليها، وهم مدركون لنفاقها. في المقابل، صعدت «لغات التقية» من الجميع، ما سبب هذا التناقض في الروايات. فالأحداث تصاغ بالإحالة على خبرات وتوقعات، تنهل من «لغات التقية» التي لم يستخدمها السوريون علانية، مقتصرين عليها في جلساتهم الخاصة والموثوقة. لم يكن السوريون العاديون أول من استنفد هذه الخطابات، بل النظام السوري نفسه الذي تصدعت لغته الرسمية سريعاً، مع أول تحدٍّ لها، فكان أن استدعى الحديث عن «الفتنة الطائفية» و«الإمارات السلفية»، وهو ما كان محرماً على لغته الرسمية التي تصر على الوحدة الوطنية والتناغم بين مكونات الشعب السوري. فقد كانت الطوائف «تابو»، لا تذكر إلا في سياق الدلالة على وحدة الشعب وتعايشه. هكذا، ظهر «شبيحة النظام» الجوالون بشائعاتهم في الشوارع، عن استعدادات لأحياء من طائفة معينة لغزو أحياء تعود إلى طائفة أخرى. استنفر النظام عصبيات طائفية ليضعها في مواجهة بعضها لبعض.
لم يكن ما فعله النظام السوري غريباً أو جديداً، فلم يختلف عما فعلته الأنظمة العربية في مواجهة انتفاضاتها. اختلافه كان في الكمّ لا في الكيف، فالمؤامرة حضرت هنا وفي ميدان التحرير (من يذكر قضية المصري تامر غمرة وشخصيته المختلقة). السلفيون والإخوان كانوا جزءاً من عدة التخويف، وكذلك البلطجية (الشبيحة في النسخة السورية) الذين هددوا الأمن وأثاروا الرعب، وحتى الوصول إلى شفا حرب أهلية، لابتزاز الشعب بالأمن، مقابل تخليه عن مطلب الحرية. بل إنّ الاعلام الرسمي وشبه الرسمي، ضرب رقماً قياسياً في انعدام المنطق والدجل، فحضر علم إسرائيل مرفرفاً على إمارة سلفية في حمص. حتى اللبنانيون الذين أُحضروا لتعزيز رواية النظام لما يحصل، زادوا الطين بلّة، فكان رفيق نصر الله في لقائه على الفضائية السورية (في 28 آذار 2011) نموذجاً للمثل القائل «احترنا يا أقرع من وين نمشطك». فهو اكتشف أنّ مبارك جزء من المؤامرة الأميركية، والثورة عليه أيضاً جزء من المؤامرة، و«حلها إذا فيك تحلها».
الكذب المسرف والوقح للإعلام الرسمي، لم يكن بغرض إثارة البلبة وتضييع الحقيقة وحسب، بل استنفار تلك الهويات المضمرة وغير المعلنة. فمن صدّق قناة «الدنيا» لم يفعل هذا بفعل «بروباغندا» النظام و«غسل المخ»، بل لأنّها هي من استلهم لغته السرية، وأجج مخاوفه التي تجد جذورها في «هويته». «الدنيا» قالت ما سيصدقه الناس، ولم تدفعهم إلى تصديقها.
سياسات الخوف
ما يميّز السياسة أنّها ممارسة عقلانية، يخوضها مواطنون لتحقيق الأفضل، وهي تحيل إلى المواطنة والأمل. بالمقابل، اعتمدت الفاشيات على الخوف (أو حتى سياسات اليمين الحالي كما بيّن باديو في تحليل للساركوزية)، فهو يحرك غريزة البقاء، ويستنفر الجماعة للدفاع عن «نحن» ضد «هم». ودوماً تكون الحدود المخترعة بين «نحن» و«هم» واضحة وقاطعة. فهم «السود» مثلاً، أو «المسلمون»، أما في سوريا، فهم «الطوائف الأخرى» وغالباً «السنّة».
تحتاج الجماعات إلى الحماية، ومَن أفضل من النظام للدفاع عنا، عن «المسيحيين» أو «العلويين»، أو غيرهم؟ وبطبيعة الحال، إنّ الخوف يستثير أقوى المشاعر وأعنفها، ويختزل العالم في أحكامه القاطعة والمحكمة. هكذا، يصبح «العلويون» طائفة النظام، ومنهم من دفع أقسى الأكلاف في مواجهته، وهؤلاء لم يعرفوا ولم يروا مواجهتهم من خلال هوية علوية، بل عبر هويات وطنية وسياسية (شيوعية في غالبيتها)، حتى قيل إنّه بين كل معتقل سياسي ومعتقل سياسي، يوجد معتقل في بسنادا (من قرى اللاذقية).
الخوف هو ما يزيد من وطأة هذه الروايات المتعددة والمتنافرة، فالسوريون لا يكتفون بالنظر إلى ما يحصل من خلال أفق التوقع الناتج من هوياتهم المتخيلة السرية دوماً والمعلنة حالياً، بل أيضاً من خلال خوفهم الذي يعززه النظام بواقع الرصاص والشبيحة والموت المتجول. خوف يحيل كلّ «سني» إلى مشروع تكفيري يحمل في جيبه فتوى ابن تيمية، أو يجعل من «العلوي» رجل استخبارات. لا يفسح الخوف مكاناً لتمايزات يحفل بها الواقع، وفي الواقع لا شيء اسمه علوي أو سنّي. ما يراه السوريون هو خوفهم، وليس ما يحصل، يضخمون شعارات طائفية وهي موجودة وحقيقية، لكنّها ليست كل الواقع، بل ليست إلا جزءاً نزيراً منه، ويتعامون بالمقابل عن شعارات أخرى تدعو للوحدة الوطنية. يكتفون بالأولى كما يكتفون برواية السلطة عن عصابات مسلحة تفرخ كالفطر (ونحن الذين امتلكنا استخبارات لطالما أثارت حسد الآخرين وحقدنا). لا يهم ما يكونه الإنسان الواقعي، بل مدى توافقه مع صورته المتخيلة، وما يقولونه عنه، فإنّ توافقا كان تأكيداً لـ«سرديتنا»، وإن اختلفا فإنّه يمارس التقية. هنا يكمن إنجاز النظام السوري في تعزيزه خوفاً طائفياً مستديماً ومهيمناً في نفوس السوريين، والطائفية ليست انتماءً مذهبياً، بل «مشروع سياسي» رعته السياسة وأنتجته.
استعادة الساحة العامة
فشل الهيمنة، تصدع اللغة الرسمية، وخروج «لغات التقية» المتداخلة مع الخوف إلى العلن، هو ما يفسر هذا التنافر في الوقائع السورية. لكن كيف يمكن حل هذا التناقض؟
مصر الثورة تقدم طريقاً لحل المسألة، فالمصريون تقدموا في بناء أمتهم، بعدما استعادوا ساحتهم العامة (ميدان التحرير) عنوة من النظام. حضر الجميع إلى الميدان وشاركوا، أخرجوا أفضل ما فيهم وأسوأ ما فيهم، بينما الأنظمة العربية اعتادت حصراً على إخراج أسوأ ما فينا.
في الساحة العامة، تتبلور هوية وطنية لا يمكن تعريفها إلا بلغة السياسة والنقاش العام المفتوح للجميع، الأمر الذي يدفعهم إلى إعادة صياغة مطالبهم وقضاياهم، بلغة يفهمهما الآخرون، ويلتقون عليها. فالجماعة السياسية لن تكسب دعماً إن هي اقتصرت على مخاوفها واحتياجاتها التي لا يرى الآخرون أنفسهم فيها. ما تقدمه الساحة العامة، هو توحيد التجربة السياسية وتعلم النظر من زاوية الآخرين، أي أن نأخذ مكانهم. في البداية، ستتقدم هوياتنا المحلية التي اعتدنا عليها، لكن في ما بعد، سيبقى ما هو مشترك وعمومي. الذين سيصرون على محليتهم وتطرفهم، سيُدفعون مع الوقت (وأيضاً مع الكثير من التضحيات والنكسات والتراجعات) إلى الأطراف. الحجة المعتادة عن «القناع السياسي» الذي سيدعيه الإسلاميون حتى يصلوا إلى مأربهم لن تكون ذات جدوى، و«القناع السياسي» نفسه، سيتحوّل مع الوقت والتسويات المستمرة، إلى الوجه الحقيقي لصاحبه. على العكس من ذلك، إنّ «التقية» السياسية هي نتاج تغييب السياسة وإقصائها.
إنّ التغلب على الازدواجية، كما على الطائفية، يكون في استعادة المجال العام وتحريره، وأن ينقل السوريون إليه هواجسهم ورغباتهم وطموحاتهم. المشاركة في التغيير، هي خير ضمانة لأن يكون لهم رأي فيه. هو رهان، ولكنّه يستحق أن يعاش. في المقابل، الانتظار والتسليم بذريعة الطائفية والفتنة، سيؤديان إلى الطائفية والفتنة، ولطالما كان إقصاء السوريين عن السياسة والنقاش العام، الطريق المؤدي إلى المحذور الطائفي، فتتحوّل الطائفية من هوية متخيلة إلى واقع.
هوامش
(1) قدمت ليزا ويدين تحليلاً مثيراً في عملها «Ambiguities of Domination» لعبادة الشخصية المتمحورة حول الرئيس الراحل حافظ الأسد في سوريا، والهيمنة التي يكرسها الخطاب الرسمي. فهو خطاب يدعّي الشمولية، لكنّه ليس كذلك، فهو خطاب ادعائي، لا يهدف إلى الإقناع والتصديق، ويكتفي بإلزام السوريين بالتعبير العلني باستخدام مفرداته، دونما إلزامهم بالاقتناع بها أو تصديقها، ما يفتح الباب لحضور خطابات أخرى تهيمن على وعي السوريين وهويتهم.
(2) لا يمكن إغفال دور السياق الإقليمي الذي وجدت سوريا نفسها فيه، خلال السنوات الأخيرة، مع دور الإعلام المموّل سعودياً، والاحتلال العراقي، في تكريس صورة طائفية للمنطقة ونزاعاتها. فالسوريون لم يكونوا معزولين عن التجييش الطائفي في العراق ولبنان، لكن هنا اهتم فقط بالجانب المتعلق بالنظام السوري دون اعتبارات أخرى.
* كاتب عربي
30 تعليق
التعليقات
-
ملاحظة اولى ان من صدق تلفزيونملاحظة اولى ان من صدق تلفزيون الدنيا صدقها لانها قدمت عشرات المقاطع المصورة التي تثبت كذب الجزيرة و العربية و المرحومة البي بي سي بينما لم تقم اي محطة بتكذيب الدنيا بالصوت و الصورة اي بالدليل ملاحظة ثانية لم تكن سوريا قبل حافظ الاسد جنة الديمقراطية و العلمانية فقط كان يهيمن على الفضاء العام الاغلبية السنية و كان الباقين مكملين للمشهد مع حافظ الاسد دخلت الاقليات بقوة في المشهد العام و شيئ طبيعي ان ما اقتطعته كان من حصة الاغلبية العددية المهيمنة ملاحظة ثالثة ان الواقع الانساني لا يخضع لقوانين فيزيائية حتمية تفترض ان ما جرى في مصر سيجري في سوريا بحذافيره لماذا لا يكون بشار الاسد هو الجسر الى دولة القانون و الديمقراطية و التعددية السياسية لماذا الانطلاق من كليشيهات مسبقة لا تفضي الا الخراب ملاحظة رابعة ان الشارع يتعامل مع الاعلام كأداة لتوصيل رسالة و لديه الخبرة ليعرف كيف يصوغ رسالته المزيفة و المضخمة و هناك فضائيات مستعدة لتوصيل الرسالة ما دامت تخدم غايتها ايضا فهناك تحالف غير مكتوب بين الشارع و الفضائيات و ليست المسألة عفوية فمنذ الانتفاضة الثانية ( انتفاضة الاقصى تبع عرفات )في فلسطين الكل فهم اللعبة و صارت الصورة على التلفزيون هي المهمة و ليس الوقائع و حجمها بل كيف تظهر على التلفزيون و ضمن اي رسالة يمكن توظيفها
-
لقد أسمعت لو ناديت حياً لكنلقد أسمعت لو ناديت حياً لكن لا حياة لمن تنادي إذا كان جمهور الاخبار الذي يفترض أن يكون الطليعة اليسارية العربية على هذا القدر من الغباء و العماء السياسي فلا عتب على بقية المتظاهرين. على فكرة العديد من الردود الواردة هنا لا تعدو كونها تأكيد على ما ذهب إليه كاتب المقال من الحضور الكثيف للخطاب الطائفي على المجال العام. بكل بساطة وظيفة السلطة الأولى هي خلق أمة سياسية، و هو الأمر الذي فشل فيه النظام فشلاً ذريعاً في حال افترضنا حسن النية لديه، و هو أدى نتيجة لهذا الفشل إلى تفكيك سوريا إلى كيانات اجتماعية تحت وطنية بتوصيفات شتى مناطقية و طائفية و إثنية، و حل هذه الازمة لا يكون عبر المزيد من التهميش للشعب عن الحقل العام، بل كما وصف صاحب المقال عبر فتح الحقل العام أمام كافة اطياف الشعب، و هو الامر الكفيل لفرز التوجهات المتطرفة و تهميشها و ليس إلغائها. إذا كان النظام الحالي غير قادر على السماح بهذا الامر أو غير راغب فيه فلا يبقى خيار أمامه سوى الرحيل
-
لا يسعني ان اقول الا انيلا يسعني ان اقول الا اني افتخر بك جدا
-
طيب يا موريس، الكثير مماطيب يا موريس، الكثير مما سجلته في نصك سبق لكتاب سوريين أن عالجوه، واعتقد أن الأمانة كانت تفترض أن توسع هامشك بتسجيل مصادرك...
-
أي والله . نحنا شعب يعني لازمأي والله . نحنا شعب يعني لازم يحطونا هيك بشي test tube بالمختبر ويدرسونا عن كثب . مش طبيعيين لأنو . قال عم يتظاهروا لموقف لبنان بمجلس الأمن بما يخص سوريا قال . سمعوا ملاّ مسخرة . أنتو حاطينها لهل صورة لتضحكوا الناس علينا يا أخبار ؟ وحضرتك يا كاتب إنتا وغيرك، مش لحالك . عارفين طبعاً أنو صار معكن شي إسمو "نكران" بعلم النفس مهيك ؟ ما عاد بدها دكتور يشخّصها ..
-
مقال رائعيعطيك العافية تشخيص دقيق للوضع
-
شاهد عيانصادفت اليوم أحد معارفي في السوق منذ حوالي 6 ساعات (في الإغتراب) و كان يكرفت (يشتم) على الجزيرة على جهازه المحمول). أنهى مكالمته و بادرني بالقول ماذا نفعل بهذه الجزيرة منذ مدة و هي تلعب بأعصابنا. و تابع يقول لقد أوردت أخبار أن هناك إحتجاجات عارمة في دمشق و هناك مواجهات في حرستا فانشغل بالي على أخي الذي يعمل في حرستا و سارعت إلى الإتصال به و كنت أتكلم معه حين لقيتك و كان يضحك و يقول لا شيء يحدث في حرستا و أنصحك بعدم متابعة الجزيرة. كان محتنق جداً و قال لماذا كل هذه الطائفية عندكم أيها اللبنانيين؟ أجبته ما موضوع طائفيتنا في أحداث بلدكم؟ قال لأن كلما ناقشت لبناني إني ضد الإحتجاجات و العنف يقال لي أنت علوي و أنا كل هذه سنين لم أضطر أبداً عن الإفصاح عن مذهبي و قال فليعلم الجميع نحن السنة في حلب و الشام أغلبية الشعب السوري نريد الإصلاح و الكرامة للمواطن و لكن نريدهما مع بشار الأسد و كل هذا البلاء الذي نحن فيه هو صنع الخارج. إنتهى.
-
غريبكلام وتحليل حلو بس ضمن التحليل عن مضمون الاعلام السوري اللذي لا ثقة فيه ..لم يتم التطرق للحجم المهووول من الكذب الذي تبثه القنوات الفضائية ..الا نستطيع ان نقول ان اعلام النظام يرد بالمثل ؟!!
-
الى رحاب احببتك دون ان اراكالى رحاب احببتك دون ان اراك لقد اثلجت صدري شكرا لك .
-
كتير حلو يا آدم.كتير حلو يا آدم.
-
المثالية المطلقةلهذا المقال صبغة اكاديمية جيدة و يبدو ان الكاتب هلم بالواقع السوري و لكنه يركز على سلبيات النظام و يتجاهل سلبيات المجتمع و هو مبني على ما اعتقد عى نية طيبة تتعلق بالمثالية المطلقة و التي يتمنى ان يراها في بلده سورية. يؤسفني ان اقول للكاتب ان طريقة تجاهله لسلبيات المجتمع السوري ههي تماما نفس طريقة تجاهل النظام لهذه السلبيات (التي ينتقده بها) و النتيجة هي ما نراه الان في الشارع السوري فكل طرف ملتزم بتصديق مثاليته وانكاره للواقع.
-
المقال محاولة لشرح الانقسامالمقال محاولة لشرح الانقسام في المجتمع، لكن نسي الكاتب ان الكثيرين من السنة هم مع الاصلاح التدريجي اي ضد قلب النطام، كل الشعب باطيافه يريد حياة سياسية جديدة وهذا الجيد، ولكن الانقسام الاكبر هو بعدم اسقاط النظام وهم يرون في ذلك حماية للوطن، لذلك الاغلبية مع بقاء الرئيس واصلاح النظام السياسي. ملاحظتك الاخيرة حول التجييش الطائقي الخارجي من قنوات اعلامية هو باهمية ما سميته خوف العلويين والمسيحيين وتكتلهم خلف النظام، لان هذه القنوات نجحت في بث الخطاب الذي يريده بعض الناس عن اضطهاد السنة والقضاء عليهم بالشيعة وتخويفهم من المستقبل فلذلك لا تستطيع ان تقول هذا الجانب اغلب من الاخر. اما عن طرحك التجمع معا من اجل الانصهار فهذا بيت القصيد لان اي ابتعاد يسبب الفجوة لذلك كانت الدعوة لعدم استخدام المساجد اداة للتظاهر لما يسبب ذلك في مذهبة التظاهر. وعلى فكرة كثير من المؤمنين بالاصلاح والتغيير لم يعودوا يتظاهروا لان النزعة المذهبية اصبحت تغلب على الناس ةوالا بماذا تفسر تصاعد نجم العرعور ذو الخلفية التكفيرية، لا ننسى هنا فتوى اللحيدان الحديثة الان بجواز قتل ثلث الشعب لما لها من اثر مضاد
-
ويقولون لا وجود لحياة خارج كوكب الأرضأفرحوا يا علماء ناسا فقد أثبتم أن ثمة حياة خارج هذا الكوكب ... والدليل هذه المقالة التي تبدو وكأنها من عالم آخر بعيد كل البعد عن كوكبنا ..... يا سيدي الكاتب الأعرابي مشكلة إعلامناالوطني أنه يجمل الواقع فلا عبارات عنصرية وطائفية ... ومحاولة لتبسيط صورة الوضع ... ولكنه ومقارنة بالإعلام العربي الذي يموله النفط فهو أكثر مهنية منهم وأستغرب كيف لم تشر ولو همساً إلى التحريض والكذب الذي يمارسه هذا الإعلام.. قد لا تكون الرواية الرسمية صادقة مئة في المئة ولكنها في النهاية أصدق من رواية أناس لا نعرف هويتهم... ومن هم وما هي غاياتهم ... إن محاولة تصوير الشعب السوري وكأنه شعب ينساق وراء الرؤية الرسمية للأحداث لهو خطأ لا يغتفر ... فالنظام السوري اكتسب شرعيته من تعبيره عن تطلعات شعبنا ... نحن لا ندعي المثالية في سوريا ... ولا ندعي الطهارة المطلقة فنحن وطن يعاني الكثير ولكن لن نسمح لأعراب الجاهلية(بما فيهم لبنان) أن يعلموننا كيف ندير أمورنا ... نحن شعب سوريا العظيم ..... نحن أحرار العالم .... نحن حلفاء المقاومة .... نحن جنود بشار الأسد
-
الهلال الخصيب . عنما كنت اسمع ابواق النظام السوري تردد عبارة ان الاعلام الخارجي او ما يسمى الحر بانه اعلام كاذب وأن هذه القناة عميلة والاخرى حقيرة قررت ان اشاهد القنوات السورية علنا تلملم فتاتا من اشلاء الحقيقة او نتمكن من فك الغاز ما يجري في سوريا من فضائيات المفروض انها تبث من قلب الاحداث .. وداومت على المراقبة اياما عديدة لاكتشف ان الاعلام الحر هو فعلا كاذب .. ومضلل ايضا لانه ما زال مترددا في اظهار حجم الفظائع التي يرتكبها النظام السوري في شعبه .... كيف وصلت الى هذه النتيجة ؟؟؟ اقول لكم انه حجم الكذب المريع في الاعلام الرسمي السوري الذي يجعل الدماء تغلي في عروق المشاهد ... النظام الذي يحتشد في اعلامه هذا الكم الهائل من الكذب هو بالفعل مؤهل وبجدارة لفعل ما نراه الآن على الفضائيات الحرة ولعلنا لا نرى الا جزءا يسيرا من الحقيقة ... بتنا نشاهدفي هذا الاعلام خبراء سياسيين ومحللين وداعمين للمقاومة يلجئون الى الكذب والتضليل والتعمية والسعي لغسل عقل المشاهد وتغييبه .. من يشاهد هذاالاعلام الرسمي يمتليء خوفا على القادم من الايام وعلى امنه وامانه وعلى مستقبل اولاده وعلى المنظقة التي قدر له ان يعيش فيها.. ثم يصاب بالاحباط فالاكتئاب فالفصام ثم يكره نفسه واصله وفصله واهله ويحقد على الساعة التي انجبته فيها امه في هذه البقاع من الكرة الارضية ....شرقي البحر المتوسط ... او ما نعتز بتسميتها بلاد الشام .. او ما كان يحلو لآباء لنا مناضلين ومفكرين واحرار و...قوميين مخلصين ذوي كبرياء وطني ان يطلقوا عليها "الهلال الخصيب" .
-
ثورتنا شعبية وبسنحن الشعب السوري الذين نقوم بالثورة ، ولا نريد لأي جهة رسمية أو غير رسمية أن تزج بنفسها في ثورتنا ، فثورتنا ثورة شعب ، ولا نرضى للأخوان المسلمين أو لأي حزب أن يتكلم بالنيابة عنا ، أما إذا أراد أي أحد أن يتكلم فليتكلم بصفته مواطن سوري من عامة الناس ، وليس ممثلاً لأي جهة ... ولسنا ننكر جهود الذين يناضلون معنا وكل الشكر والتقدير لهم وعلى رأسهم شيخنا البطل / عدنان العرعور / ومن سار على خطاه واقتدى بتوجيهاته ..
-
عبث ياموريس...عبث.من لم يرعبث ياموريس...عبث. من لم ير بعين عقله...لن تفيده عيناه. تتهنوا بهالانتفاضة مدري الثورة مدري شو.
-
متى كانوا هؤلاء الذين فيمتى كانوا هؤلاء الذين في الصور همون الوحيد الدم السوري كنت بتمنى شوفون عم يتظاهروا لما أنقتل العمال السوريين باللبنان مشان الله أتركونا بحالنا
-
سوف أتكلم باسمي كسورية ولنسوف أتكلم باسمي كسورية ولن أتكلم بأسم أحد فأمن البلد عندي فوق كل الأعتبارات وسأكلمك عن محيطي الذي أنتناقش معهم فبالرغم من أختلفنا بوجهات النظر فأتفاقنا على أمن البلد وعدم التدخل فيه من قبل أي طرف