لم يكن الإخوان من محرّكي الانتفاضة في مصر، ولا من مُشعلي البوعزيزي في تونس. ركبوا موجتها بعد صعودها، لا بل قرّروا أن يتسلّقوا عليها ويمضوا بها في غير مسارها المُقَرّر. الإخوان وفروعهم منتشرون ومنتشون ويكبرون. يحظون برعاية المحور العربي الرجعي، ووجوههم لا تكاد تختفي عن الشاشات. عادوا بقوّة بعد إقصاء حسني مبارك: وعودتهم تظهر في أكثر من بلد عربي، وبأشكال مختلفة.تاريخ الإخوان المسلمين تاريخ متشعّب ومُعقّد، والتنظيم أدى دوراً هامشيّاً في التاريخ العربي المعاصر، وخصوصاً إذا أرّخنا لتاريخ الصراع العربي ـــــ الإسرائيلي. إنّ لتنظيم جبهة التحرير الفلسطينيّة الصغير، دوراً يفوق الدور التاريخي لكل حركة الإخوان المسلمين (قبل انبعاث حركة «حماس» من رحم الإخوان). والإخوان تهمّشوا في العصر الناصري، ولزموا حاشية ملوك النفط وأمرائه، يأتمرون بأمرهم ويحنون رؤوسهم طاعة، ويقومون بالخدمة المطلوبة من أولياء أوليائهم في واشنطن، الذين توسّلوا خدمات الإخوان لمناهضة الحركة الشيوعيّة والاشتراكيّة العربيّة في عزّها. يتطلّب فهم تنظيم الإخوان العودة إلى البدايات: إلى تنظيم من صنع شخصيّة غريبة بعض الشيء، هي شخصيّة المؤسِّس حسن البنّا. (يبقى كتاب ريتشارد ميتشل عن حركة الإخوان المسلمين أفضل مرجع في هذا الخصوص، وقد صدر في ترجمة عربيّة ممتازة). البنّا المُؤسِّس كان متأثّراً بالانضباط الصوفي والروحانيّة الخالصة، ولم تكن تبدر عنه انشغالات عمليّة بقضايا الأمة المعيشة. شغلت قضايا العبادات وتوافه جوانب الحياة المؤسِّس، كما شغلت من خلفه في التنظيم من بعده. ماذا تقول في تلك الرواية التي نقلها والد البنّا عن الطفل ابن العاشرة الذي أزال بقوّة أسطوريّة شرّاً مستطيراً، تمثّل بتمثال «داعر» لامرأة شبه عارية، وحطّمه؟ هذا هو المنجز الأوّل للبنّا، وفق الرواية الإخوانيّة الرسميّة. إسرائيل كانت جاثمة بعدوانها، والبنّا ومن خلفه شُغلوا بـ«خطر» الإباحيّة. وقد أطلق البنّا تنظيمه في ظروف السيطرة البريطانيّة، وأدّى انتقال العمل السياسي من الإسماعيليّة إلى القاهرة، لإقامة شبكة علاقات سياسيّة واسعة. أقام الإخوان علاقة أكيدة مع سلطات الاحتلال البريطاني (لا ينفي التنظيم هذه المعلومات، وهناك إشارات وتفاصيل عنها في مطبوعات الإخوان التي يستشيرها ميتشل في كتابه).
ولكن في القضايا الأساسيّة للشعب العربي، كان موقف الإخوان إما غائباً، وإمّا ملتبساً، أو مشبوهاً. في قضيّة فلسطين الغالية، أفتى حسن البنّا بعدم تدخّل الحكومات العربيّة وجيوشها. قال إنّه لو أصبح «القتال ضروريّاً»، فيجب أن يقوم الشعب الفلسطيني بالمهمّة. أي أنّ وصفة البنّا كانت أسوأ من وصفات الحكومات العربيّة المرتهنة للاستعمار آنذاك. لو كتب للعرب أن يتّبعوا نصيحة البنّا آنذاك، لضاعت كلّ فلسطين في 1948. كان ممكناً في نظر الإخوان إبقاء موضوع الدفاع عن فلسطين كمسألة «داخليّة» حتى لا تتدخّل الدول. البنّا، مشغولاً كعادته بالصغائر، لم يلحظ التدخّل الدولي لنصرة الصهيونيّة، منذ وعد بلفور على الأقلّ. صحيح أنّ أدبيّات الإخوان تتحدّث عن جهاد الإخوان في فلسطين، لكنّ الأمر يدخل في باب الدعاية المجانيّة. ليس هناك من أي دليل على دور عسكري لـ«مجاهدي» الإخوان على أرض فلسطين. وكل ما ورد في أدبيّاتهم يفتقر إلى الأدلّة، باستثناء دور التموين في الفالوجة المحاصرة. اقتصر جهاد الإخوان على نقل «المؤن». صيحات الجهاد الصاخبة انعكست في نقل المعلّبات والضمادات في حرب فلسطين.
بدأ تآمر الإخوان على النظام الناصري مُبكّراً، مع أنّ النازي الهوى، أنور السادات، حاول التوفيق بين الثورة المصريّة والإخوان. وهناك اليوم مراجعة تاريخيّة مزوّرة من آل سعود والإخوان ـــــ وتجد صداها في صحف آل سعود وعلى شاشتيْ «الجزيرة» و«العربيّة» ـــــ لمحاولة اغتيال جمال عبد الناصر في 1954. والإخوان يردّدون الدعاية الصهيونيّة عن أنّ محاولة اغتيال عبد الناصر كانت مسرحيّة، هدفها تشديد القبضة على السلطة في مصر. لكنّ الأدلّة التاريخيّة قاطعة في هذا الصدد، وهي لا تحتمل التأويل. مثلما شكّك الإعلام السعودي والإسرائيلي برواية النظام الناصري عن تجسّس مصطفى أمين (ونحن اليوم تأكدنا من صحة التهمة التي وُجّهت إلى أمين)، يحاول أن يشكّك بتورّط الإخوان في محاولة اغتيال عبد الناصر. قرّر التنظيم السرّي للإخوان رسميّاً اغتيال عبد الناصر، وجرت مراجعة سيناريوات عدّة في هذا الصدد، خلال اجتماعات رسميّة. الخبر ليس مبنيّاً على الإعلام الناصري. وكان عبد المنعم عبد الرؤوف أوّل من اقترح الفكرة التي لاقت قبولاً من إبراهيم الطيّب (رئيس قطاع القاهرة في الجهاز السرّي للتنظيم). ولم تكن معارضة الإخوان لعبد الناصر تنحصر في مسألة تطبيق «أحكام الله»، على ما يُراد لنا أن نصدّق. فقد مثّل الإخوان مصالح طبقات مُتضرّرة من الإصلاحات الاجتماعيّة الذي تبنّاها النظام الناصري. وحسن الهضيبي كان معارضاً لحدّ الـ200 فدّان في المدى الأقصى للملكيّة الزراعيّة، وطالب بحد الـ500 فدّان («لأسباب تقنيّة واقتصاديّة»).
بدأ النظام الناصري حملة قاسية على الإخوان بعدما تأكّد من نيّاتهم السياسيّة: التنظيم عارض النظام الناصري بشراسة لم نرها فيه في معارضته الاستعمار البريطاني. رُحِّل قادة الإخوان، أو رَحلوا، وكانت أنظمة النفط الخليجيّة خير مضيف لقادة الحركة الإسلاميّة. أصبح قادتهم أساتذة في الثانويّات والجامعات، ومديرين في الوزارات، وبعضهم عمل في مشورة حكومات الخليج. لم تتوضّح العلاقة بين الإخوان والنظام السعودي كما توضّحت بعد 11 أيلول، عندما عبّر الأمير نايف عن ضيقه (فجأة) من دور الإخوان في مملكة القهر الوهّابي، ووصفهم بأنّهم أصل البلاء في العالم العربي. وقال في مقابلة مع صحيفة كويتيّة: «من دون تردد أقولها إنّ مشكلاتنا وإفرازاتنا كلّها جاءت من الإخوان المسلمين... بحكم مسؤوليتي أقول إنّ الإخوان لما اشتدت عليهم الأمور، وعلّقت لهم المشانق في دولهم، لجأوا إلى المملكة فتحملتهم وصانتهم، وحفظت حياتهم بعد الله، وحفظت كرامتهم ومحارمهم وجعلتهم آمنين، وإخواننا في الدول العربية الأخرى قبلوا بهذا الوضع، وقالوا إنّه يجب أن لا يتحركوا من المملكة، ولكن بعد بقائهم سنوات بين ظهرانينا، وجدنا أنّهم يطلبون العمل، فأوجدنا لهم السبل، ففيهم مدرّسون وعمداء، فتحنا أمامهم أبواب المدارس والجامعات، ولكن للأسف لم ينسوا ارتباطاتهم السابقة، فأخذوا يجنّدون الناس، وينشئون التيارات، وأصبحوا ضد المملكة!». لكن كلام نايف أخفى جانباً مهمّاً من العلاقة بين الطرفيْن. لم يستضف آل سعود أو آل ثاني أو آل نهيان الإخوان مكرمةً منهم، أو عملاً بأصول الضيافة. كانت أنظمة النفط بحاجة ماسّة إلى ملء وظائف شاغرة في الدولة، وخصوصاً في المؤسّسات التعليميّة. والإخوان لم يقوموا فقط بضخ عقائد دينيّة متزمتة في صفوف الناشئة، وليس فقط بقطع الطريق على أيّ تعبير عن نقد فقهي للعقيدة الوهابيّة في العالم العربي. كان الإخوان جنوداً في الحرب الباردة في الشرق الأوسط، في خندق واحد مع دول الخليج ومع أميركا وإسرائيل. هذه حقيقة لا يستطيع الإخوان إنكارها، مهما تضمّنت أدبيّاتهم من شتائم للغرب و«الصليبيّين».
لكن تنظيم الإخوان تعرّض للتهشيم على يدي عبد الناصر، لا في مصر وحدها، بل في العالم العربي برمّته. الحرب العربيّة الباردة قسّمت العالم العربي معسكريْن، ولم يكن المعسكر السعودي يحظى بشعبيّة تُذكر. انضم الإخوان إلى جانب كلّ الأنظمة الرجعيّة، من الأردن إلى دول الخليج، وكانوا الفرع العربي والإسلامي للدعاية الأميركيّة المُعادية للشيوعيّة. وهذا الأمر يحتاج إلى بحث منفصل.
لم يردّ الإخوان على اتهامات الأمير نايف المذكورة أعلاه، لا بل إنّ المرشد العام للإخوان، محمد المأمون الهضيبي، كتب رسالة استرحام لآل سعود قال فيها: «والشيء المستغرب ما جاء في تلك التصريحات من قول سموّه «إنّ الإخوان المسلمين هم أصل مشكلاتنا جميعاً، وإفرازاتنا كلها»، فما هي تلك المشكلات التي وقعت في المملكة العربية السعودية على وجه الخصوص؟ من المؤكد عندي أنّ الإخوان الذين عملوا في المملكة العربية السعودية، وكما قال سموّه، حافظوا على هويتهم وحقيقة انتسابهم إلى جماعة الإخوان المسلمين، وهذا أمر لم يكن يوماً خافياً على المسؤولين في المملكة العربية السعودية، ولكن هل أحد منهم أتى شيئاً ضد المملكة؟ ومن الطبيعي أنّ مثل ذلك لو حصل لبادرت المملكة إلى إنهاء وجوده فيها، ولو كان ذلك قد حصل بصورة جماعية، لكان الإبعاد جماعياً وواضحاً ومعروفاً لدى الجميع. وأقول إنّه بالنسبة إلى الإخوان الذين تجنسوا بالجنسية السعودية، فإنّ التزامهم بعقيدتهم ومفاهيم الإخوان المسلمين لم يكن يوماً متناقضاً مع ولائهم الكامل للمملكة، وقيامهم بمهمات أعمالهم التي أوكلت إليهم فيها على أكمل وجه. فهل قال أحد إنّ أياً منهم خان الأمانة أو فرّط بإخلاصه الكامل للمملكة؟ ومن المؤكد أيضاً أنّ الإخوان المسلمين من غير السعوديين، الذين عملوا بالمملكة لم يصدر عن أحدهم تجاه المملكة إلا الحب والإخلاص، ولم يحاولوا قط تأليف جماعات إخوانية من السعودية. ولقد كان ذلك خطاً أحمر مهماً التزمه الإخوان في المملكة، ولو أنّ هذا المسلك تغيّر لوجدت تنظيمات كثيرة من السعوديين وذاع أمرها». (لم يوضّح الهضيبي طبيعة «المهمات» التي أوكلت إلى الإخوان).
نشط الإخوان في إحراج عبد الناصر، وفي مقارعة كل أشكال العلمانيّة والدولة المدنيّة (على بشاعة أنساقها في أنظمة البعث وفي مصر). عملوا أحياناً على الترويج لمفهوم معيّن من الجهاد يتجاهل إسرائيل واحتلالاتها. والعودة إلى كتاب سيّد قطب، «معالم في الطريق»، تفيد، لأنّ قطب لم يتطرّق بتاتاً إلى الصهيونيّة، وضرورة تحرير فلسطين (والكتاب من أهم أدبيّات الإسلام السياسي المعاصر، وحاز ثناءً من أيمن الظواهري في كتابه الأخير)، مع أنّ الكتاب صدر زمن كان همّ تحرير فلسطين يرد في كل جملة عربيّة. على العكس، نرى أنّ قطب يروّج لمفهوم عن الجهاد يستثني صدّ عدوان إسرائيل. ولم يختلف البنّا كثيراً عن قطب. قد يكون البنّا هو أوّل (وربما آخر) من قال بجواز «رمي اليهود في البحر» (في مجلّة «المصوّر» عام 1948)، والقول عُزي في الدعاية الصهيونيّة خطأً لأحمد الشقيري، الذي أفنى كتابيْن من كتبه لنفي التهمة). إنّ الحرب التي شغلت البنّا لم تكن الحرب على إسرائيل: لقد شُغل بما سمّاه «الحرب» على «الإباحيّة» التي تجلّت له في «الإباحيّة المغرية والمتعة الفاتنة واللهو العابث في الشوارع والمجامع والمصايف والمرابع». («مجموعة رسائل الإمام الشهيد حسن البنّا»، ص. 149). والهوس بالتضييق على المرأة، طبع عمل الإخوان وفكرهم. ولا يختلف فقيه محطة «الجزيرة» يوسف القرضاوي في الانشغال بالصغائر، وقد رأى أنّ ضرب النساء «هو علاج يجدي في بعض النساء في بعض الأحوال بقدر معيّن» («الحلال والحرام في الإسلام»، ص. 198 ـــــ ويتفق فقيه الاحتلال الأميركي للعراق، علي السيستاني، مع القرضاوي في أمر ضرب النساء، وإن دعا إلى تجنّب إحداث احمرار أو اسوداد للبدن، «منهاج الصالحين»، ج 3، ص. 107).
بدأ انبعاث حركة الإخوان بعد هزيمة 1967، حين استعانت بالماورائيّات لتفسير الهزيمة، ولتقديم النصر عبر الوعد بتطبيق أحكام الله. لكنّ انبعاث الإخوان لم يكن عفويّاً: فقد أسهم أنور السادات في إطلاق حركتهم، ليقوّض اليسار والناصريّة في مصر، مستفيداً من دعم سعودي سخي. والحرب الباردة المستعرة وفّرت أموالاً كثيرة، لمَن يتطوّع لمحاربة أعداء أميركا وإسرائيل في العالم العربي (كما يتوافر اليوم مال كثير لمَن يتطوّع لمحاربة مقاومات إسرائيل في العالم العربي). ولم يكن النظام الهاشمي بعيداً عن تلك الأجواء، وقد اعترف ذاك النظام بعد سنوات، في الثمانينيات، بدعم حركة الإخوان وتسليحها في سوريا. ورغم محاربة نظام السادات ومبارك للإخوان، هادنت الحركة النظاميْن، ولم تشنّ حرباً عليهما، كما فعلت ضد عبد الناصر ـــــ ربما لأنّ السادات أعلن مُبكّراً أنّه «الرئيس المؤمن». (يذكر كتاب «إرث من الرماد» ـــــ وهو تاريخ شبه رسمي للـ«سي.آي.إيه» ـــــ عن خطة أميركيّة لتقويض الجمهوريّة العربيّة المتحدة في سوريا عبر استخدام الإخوان ـــــ ص. 160).
ويتجلّى الدور الخبيث للإخوان أكثر ما يتجلّى في فروع الإخوان في العالم العربي، وخصوصاً في سوريا (وليس ذلك دفاعاً عن النظام الاستبدادي البعثي الذي أدّى بقمعه وبنيانه الطائفي إلى تقوية الإخوان). وكشفت وثائق «ويكيليكس» عن التوسّط الذي قام به فريق الأمير مقرن في لبنان، لتحقيق تقارب بين الإخوان في سوريا والإدارة الأميركيّة. ولم يكن التحالف الخبيث بين عبد الحليم خدّام (واحد من أسوأ رموز الفساد في سوريا، وإن بقي الكثير من رموز الفساد في داخل النظام، حتى لا نصدّق مزاعم 8 آذار أنّ كل الفساد في سوريا انحصر بخدّام) إلا بمبادرة من الفريق السعودي. والإخوان في سوريا يستعدون أيضاً لطمأنة إسرائيل، وأميركا من ورائها. وتغافلت وسائل إعلام المعارضة السوريّة (المدعومة سعوديّاً في العديد منها) عن مقابلة أجراها علي البيانوني مع إعلامي إسرائيلي على شاشة إسرائيليّة (في سياق مقابلة مماثلة مع عبد الحليم خدّام). والبيانوني بعث بطمأنات واضحة إلى العدوّ الإسرائيلي عن نيّات تنظيمه الاعتراف بإسرائيل في حدود 1967. ولا يتذكّر الإخوان الجولان إلا لإحراج النظام، ومن دون طرح خطّة تحرير بديلة من سياسة النعامة التي اتبعها حزب البعث.
أما إخوان مصر بعد إقصاء مبارك، فقد سارعوا إلى التقرّب من زمرة طنطاوي العسكريّة الحاكمة، وهم يرفضون أيّ انتقاد لنظام الحكم هناك. كذلك عارضوا إقامة احتجاجات في ذكرى النكبة، على الحدود مع فلسطين المحتلّة. وليست قضيّة غزة مهمة للإخوان، على العكس، فإنّ التيّاريْن الناصري واليساري هما اللذان رفعا لواء رفع الحصار عن غزة (حتى إنّ بعض الأصوات الليبراليّة ارتفعت للمطالبة بفك الخناق عن غزة). وفي الوقت نفسه لمسارعة الإخوان (الذين هادنوا نظام حسني مبارك، وعقدوا صفقات مع استخباراته تحت الطاولة) إلى التنطّح للبروز في ساحة التحرير، ارتفعت أصوات سياسيّة في واشنطن تطالب بالاعتراف بالإخوان ومحاورتهم (من المعلوم أنّ الإدارة الأميركيّة لم تتوقّف عبر السنوات عن محاورة الإخوان في لقاءات بعضها سرّي وبعضها الآخر علني، إلا أنّ صعود حركة حماس أدّى إلى وقف الحوار في التسعينيات). في المشهد السياسي العربي، يبدو الإخوان ذوي جاذبيّة من منظار واشنطن، وذلك لسهولة التأثير السعودي والقطري على تنظيماتهم ومسلكهم وخطابهم (كان القرضاوي يغيّر خطابه عن العراق، بعد كل تصريح مُعترض من أميركا). وخطاب الإخوان في مصر بعد الثورة، لم يجعل من إلغاء اتفاق «كامب ديفيد» الذليل أولويّة. وأميركا تستعد منذ اليوم للتكيّف مع ـــــ والتأثير على ـــــ الانتخابات المصريّة المقبلة (وذلك ليس سرّاً، إذ إنّ الصحف الأميركيّة ذكرته وحدّدت بعض المبالغ المرصودة). والمال السعودي مؤثّر على الإخوان: ألم ينضوِ الفرع اللبناني للإخوان (الجماعة الإسلاميّة) في حلف يضمّ حلفاء إسرائيل؟ إلا إذا كانت الجماعة قد رأت في قيادة سعد الحريري تطبيقاً لشرط الجهاد لتحرير فلسطين. وقد لمّح المسؤول الإخواني، عبد المنعم أبو الفتوح، لما هو آت عندما حذّر من تأثير المال السعودي والأميركي على الانتخابات المصريّة (ويجب فهم تحذيره في سياق الانشطارات والانقسامات النامية في صفوف الإخوان هذه الأيّام).
أدت قناة «الجزيرة»، صوت حروب حلف الـ«ناتو» الصادح، دوراً مهماً في الترويج للإخوان ومن يقاربهم في النظرة الدينيّة والسياسيّة. وفي غمرة الانتفاضة التونسيّة التي قادتها مجموعات شبابيّة يساريّة ونقابيّة، كانت المحطة تصرّ على استضافات إسلاميّين يقطنون في عواصم أوروبيّة، لاختلاق أدوار لهم في المستقبل التونسي. والإخوان في الأردن يمثّلون أكبر سند للنظام عبر تحاشي إحراجه: إنّهم لا يجدون غضاضة في التظاهر ضد اتفاق كامب ديفيد، وضد حسني مبارك، فيما يخفق العلم الإسرائيلي في قلب العاصمة. يريدون حكم الله، لكن بعد أن يفرغ أجل حكم من نصّبه الاستعمار ملكاً في الأردن.
الانتفاضات العربيّة تتعثّر: طغمة عسكريّة متعاونة مع إسرائيل وأميركا تحكم مصر، وتونس طردت طاغية ولم تغيّر النظام، واليمن ينتظر إشرافاً قطريّاً ـــــ سعوديّاً للانتقال إلى الديموقراطيّة، كما تريدها أميركا، وليبيا تشهد حرباً بين الـ«ناتو» ووكلائه على الأرض، وبين جيش من مرتزقة القذّافي، والنظام في سوريا يحارب انتفاضة، فيها روح شعبيّة حقيقيّة وفيها روح إخوانيّة سلفيّة. من الواضح أنّ أميركا رتّبت الأمر بسرعة، كي لا يتقدّم التاريخ العربي بمشيئة شعوبه. الثورة المضادة تشهد زخماً، والغاز المصري عاد يتدفّق لإسرائيل، ومصر تدقّق في قوائم إسرائيليّة، لتقرّر مَن مِن شعب غزة يستطيع العبور ومن لا يستطيع. الإخوان في هذا السيناريو هم الخيار السعودي الذي سيحظى بمباركة أميركيّة قريبة، لعلم أميركا أنّ مُروّجيها الليبراليّين في العالم العربي لهم من الشعبيّة ما لدى بوش من الشعبيّة بين المسلمين والمسلمات. والإخوان كانوا تاريخيّاً تنظيماً مطواعاً، وخصوصاً عندما يشتمّون المال النفطي الخليجي. والإخوان يثبتون في مصر وسوريا أنّ مصالحهم السياسيّة تتوافق مع سياسة التقرّب من إسرائيل، ونسيان شعب فلسطين. أما ترّهاتهم عن الجهاد، فيمكن أن تتحوّل بسهولة إلى جهاد ضد ما يرونه من موبقات اجتماعيّة ـــــ بما فيها حريّة المرأة. نفوذ الإخوان أمتدّ فجأة في عدد من الدول العربيّة، وبأنساق مخلتفة. وقائد المجلس الانتقالي الليبي، مصطفى عبد الناتو، قريب من خط الإخوان ـــــ هذا الذي اكتشف طغيان العقيد، بعد عقود من خدمته وطاعته.
إنّ معالم الثورة المضادة تتوضّح. هناك أخطار حقيقيّة في إضاعة فرص تاريخيّة لتقويض أنظمة الاستبداد العربيّة وإسقاطها. هناك فرصة لإقرار حق تقرير المصير المُستلب في كل الدول العربيّة. ودور الإخوان يوحي مرحلة تتلاقى فيها مصالح أميركا، مع مصالح من أعانها لعقود في الحرب الباردة. الإخوان والسلفيّة يمثّلان جوانب محليّة من ثورة مضادة تُعدّ خارج العالم العربي. وجب التنبّه.

* أستاذ العلوم السياسيّة في جامعة كاليفورنيا (موقعه على الإنترنت: angryarab.blogspot.com)