من الأمور التي كشفتها انتفاضات العرب أنّ البعض يحمل توقّعات غريبة من حزب الله ومن المقاومة في لبنان. يبدو أنّ البعض يطالب حزب الله بتثوير أهل لبنان على الاحتلال الإسرائيلي، ومن ثمّ طرد إسرائيل من البلد، ثمّ بعد ذلك أن يسقط النظام السوري (النظام السوري، بالذات)، ويحرّر فلسطين، وينشئ لهم ديموقراطيّة. وبعد هذا كلّه، على حزب الله أن يتعلمن، ويتخلّى عن دين محمّد، ويصير تماماً كما يريده المتحدّث ـــــ غالباً عبر الفايسبوك من باريس. وكلّ هذا، مقابل عدم التخلّي عن دعم عاطفي، معنوي، للمقاومة في لبنان، يبقى على ذلك مشوباً بالريبة.لا أعرف في أيّ عالم تعيش طبقتنا الوسطى. هؤلاء الناس هم تقريباً أنفسهم ممن أعابوا على جريدة «الأخبار» تغطيتها للواقع السوري، وافتقادها الحساسيّة السوسيولوجية في توصيفها للشارع بالشام. هؤلاء، إضافة إلى افتقارهم الى فهم معنى «الحرب» والصراع، يبدو أنّهم بحاجة الى تذكير في عمل اقتصاد المعرفة وكيفيّة انتاج الكلمة المقروءة. صحيفة «الأخبار»، ككبريات الصحف اللبنانيّة، هي صحيفة «بيروتيّة»، لا بمعنى أنّها تغطّي بيروت فقط، بل بمعنى أنّها تغطّي أحياء قليلة معيّنة في بيروت، بسياستها وفنونها وثقافتها وثرثرتها، وتقدّمها للقرّاء على أنّها «لبنان». في الصحافة البيروتيّة، كلّ ما يخرج عن هذا النطاق الجغرافي يغطّى غالباً على صفحات المحليّات التي لا يقرأها أحد. تحدث ثورات اقتصاديّة واجتماعيّة مذهلة في أرجاء البلد، ولا تجد لذلك أثراً في صحافته، والمقال عن التغيّرات الاقتصادية في مدينة معيّنة يكتبه المراسل نفسه الذي يغطّي خبر ظفر صيّاد محلّي بسمكة قرش كبيرة. بعد هذا كلّه، يتوقّع البعض من «الأخبار» أن يصبح لديها حساسيّة اثنوغرافيّة مرهفة تجاه طبقات المجتمع السوري ونحله، ما إن تبثّ مراسليها في الشام!
هذا يقودنا إلى توصيف ما يجري اليوم، حيث تدور اللعبة السياسية الحقيقيّة، بعيداً عن متاهات الإعلام والشعارات الكبرى، يصوغها ويرددها من لا علاقة لهم بالانتفاضات إلا من باب تبنّيها. اللعبة الحقيقيّة هي ما يجمع سوريا والسعودية وقطر وأميركا وتركيا وإيران والمجلس العسكري في القاهرة ـــــ على الرغم من كلّ التناقضات الظاهرة. يوحي ما يحدث اليوم في المشرق العربي بإمكان مواجهة إقليميّة كبرى ستحصل، إذا ابتسم لنا الإله، وستكون مثيرة وجذريّة. لكن هنالك ما يجمع هؤلاء الخصوم على مستوى أعمق من الحسابات السياسيّة والدولية، ويمكننا أن نضع معهم في السلّة ذاتها قنوات التلفزة، ومجموعات الفايسبوك، وجريدة «الأخبار» أيضاً: إنّ كلّ وسائط السّلطة في المجتمع العربي وخارجه، على اختلاف مشاربها، تتعاون اليوم من أجل إسكات الهامش. أمّا بعد ذلك، وهذا أقلّ أهميّة، فتصفّى حسابات السياسة.

سكون الهامش

من العسير تفسير مفهوم الهامش والمهمّشين، أو توصيفهم، مثلاً، على أنّهم «فقراء المجتمع» ـــــ وهو توصيف غير كاف ولا يعني، بذاته، شيئاً. الصعوبة تأتي من أنّ أهمّ صفات الهامش هي في أنّه لا يتكلّم. هو الأغلبيّة التي لا تعبّر عن نفسها، ولا تجد لها صوتاً في الإعلام والفنون والثقافة النخبويّة، بل يجري الحديث باسمها وتوصيفها من خارجها، وتوظيفها سياسيّاً.
علاقة الهامش بالطبقة الوسطى تشبه علاقة الطبقة العاملة بالبورجوازية، في إحدى روايات جورج أورويل. في «متشرّداً في باريس ولندن» (وهي الرواية التي أقنعتني بالجدّ والتحصيل في الحياة ـــــ لا أحد يريد أن يعيش فقيراً بعد أن يقرأ سرد أورويل ليوميّات الطبقة العاملة في أوروبا الصناعيّة) يقول الروائي إنّ أبناء الطبقة التي تعمل بيديها تبقى ـــــ بالتعريف ـــــ غريبة و«الآخر» بالنسبة الى البورجوازيين. زبون المطعم لن يعرف النادل الذي يخدمه حقّاً خارج إطار العلاقة الرأسماليّة التراتبيّة التي تنظّم التّماس بينهما. البورجوازي سيتخيّل الطبقة العاملة، وقد يكتب عنها روايات، وهو على الأرجح سيخافها ويخشى جلافتها المفترضة، لكنّه لن يعرفها حقّ المعرفة أبداً، وهي ستبقى «مفهوماً» نظريّاً بالنسبة إليه.
هكذا أيضاً الهامش، «الأغلبيّة الصامتة»، من يقطن أطراف المدن ومدن الأطراف، ويبقى خارج المسرح الاجتماعي إلى يوم الثورة، حينها يضيء ثمّ يُطفئ. يمكن كلّ من يقرأ هذا المقال أن يضع نفسه، براحة، خارج هذه الأغلبيّة التي نتعاون جميعاً اليوم على إسكاتها.

انعطافة أسامة مقدسي «اللغويّة»

على شرح هذه العمليّة أن يبدأ من مكان مختلف تماماً، من تأريخ الأكاديمي أسامة مقدسي (المعروف أيضاً بـ«ابن أخت إدوار سعيد») لـ«ثقافة الطائفية في لبنان». كتاب مقدسي عن تكوين الهوية الطائفية في جبل لبنان بين 1839 وأحداث 1860 كان يجب أن يكون ثوريّاً بالنسبة الى اللبنانيّين، وأن يفتح نقاشاً متجدّداً عن الهوية اللبنانية، لكن العمل ـــــ مع الأسف ـــــ لم ينل الاهتمام الذي يستحقّه، على الرغم من توافر ترجمة جيّدة له بالعربيّة.
تعود قلّة النقاش حول كتاب مقدسي لسببين: أوّلاً، لأنّ نتائجه تزعج الجميع في لبنان، الطائفيين وأعدائهم. فهو من ناحية يعامل الطوائف (بمعنى الهوية والسياسة) كتكوينات تاريخيّة، حديثة وعرضيّة، لكنّه، من المنطلق ذاته، يحلّلها كـ«قوميّات» و«محاولات أمم»، لا تختلف جوهرياً عن غيرها من الحركات القومية التي نشأت في القرنين الأخيرين، فحاز بعضها دولاً وكيانات، وفشل كثيرها.
السبب الثاني لقلّة انتشار فكر مقدسي في بلادنا يعود إلى أنّ أعماله مكتوبة باللغة الأكاديميّة النظريّة المعتمدة في أميركا، أي تلك التي يتنافس فيها الملل مع الإبهام. ومن شبه المستحيل أن يُفهم الإطار النظري لمقدسي، لمن لم يختر أن يفني شبابه في تعلّم ما لا يلزم. حتّى إنّ من الصعب أن نشرح الأفكار الأساسيّة للكتاب في عدد معقول من الجمل، وبلغة مفهومة. ما يهمّنا هنا في مقدسي هو أنّه فهم مجال السياسة على حقيقته، أي في كونه ـــــ أوّلاً وأخيراً ـــــ محاولة مستدامة لإخضاع الهامش، وإبقائه حيث تريده القوّة أن يكون. في دراسته للهزّات العنيفة التي تعرّض لها مجتمع الجبل في العقدين اللذين أعقبا إطلاق قاطرة التنظيمات العثمانيّة، لاحظ مقدسي ظاهرة تصلح لأن تكون قانوناً لكلّ ثورة.
في أغلب الثورات والفورات الشعبيّة، يظهر الهامش على السطح، ويحمل معه جزءاً من عالمه الذي تخفيه القوّة والثقافة في الحياة اليوميّة. في الثورات والانتفاضات، كما في الحروب الأهليّة، يقفز الهامش الى وجه التّاريخ ـــــ تحت تسميات مختلفة: جماهير، مقاتلون، متظاهرون، ضحايا. في الشهور التي سبقت أحداث 1860، كان طانيوس شاهين وعامّيته (الطائفيّة) شكلاً من أشكال الهامش المنتفض. تضعضع نظام السّلطة التقليدي في الجبل فتح الباب على صورٍ جديدة من التعبير الجماهيري ولغة جديدة،جريئة، تُشهر في وجه الإقطاع والكنيسة والسلطة الراسحة.
همّ السلطة، ما إن استتبّت الأوضاع، كان في إسكات هذا الهامش الثائر، وقمع وسائل تعبيره، وإعادة الهيبة والاستقرار للنظام الذي فقد صدقيّته، حتّى ولو بثمن إعادة تشكيله. يوصّف مقدسي، بإسهاب، طقوس السلطة في إظهار جبروتها، واختيار ضحايا، بينهم من كان قريباً من النظام، وتقديمهم كبش فداء، بالترافق مع خطاب إصلاحي يرمي إلى قمع الهامش، لا الى الاستجابة له. تعاون الجميع على قمع الهامش في 1860: العثمانيّون، المستعمرون الأوروبيّون، الكنيسة، الإقطاع المحلّي، وأهل المدن... ثمّ تقاتلوا بعد ذلك على المغانم وأسباب النفوذ.

لماذا نخاف من الهامش؟

ما نشهده اليوم على السّاحة العربيّة هو استعادة لتلك المرحلة، ولما يشابهها في ثورات عدّة. يسمّيها البعض «الثورة المضادّة»، لكنّ عمليّة إسكات الهامش أشمل وأعمّ من أن تنسب إلى مركز قوّة محدّد.
بدأت معالم عمليّة الخوف من المهمّشين منذ بدايات الحراك الثوري العربي. عبّر بعض أبناء الطبقة الوسطى المصريّين ـــــ بوضوح ـــــ عن خشيتهم من أن ينضمّ أبناء العشوائيّات الى المواجهة الجارية في ميدان التحرير. وظهر أبناء العشوائيّات في نشرات ثوّار الإنترنت على صورة الفقير أبداً في مخيّلة الغني: بلطجيّة، سلفيّون، جند النظام المأجور، جهلة، طائفيّون، وهم الأصوات التي تُشترى وتقلب التصويت لحظة الانتخابات. فأهل الأحياء الفقيرة، على ما يبدو، يبيعون أصواتهم بسهولة، ولا يقيمون وزناً واحتراماً لآليات الديموقراطية الليبراليّة.
في أكثر توصيفاتنا للثورة وتنظيراتنا لما بعدها، نحن نضمّن ـــــ ضرورةً ـــــ مصادرة ما لرأي الهامش وغلبةً عليه. بعض المنظّرين يتحدّثون براحة عن «واجب» المثقّفين والنخب في ترجمة آمال المهمّشين الذين قاوموا وماتوا. صار واجباً أخلاقيّاً على «النخبة»، التي عيّنت نفسها بنفسها، أن تشرّع لمستقبل الجميع. ليس هنالك ما هو أقرب إلى فكرة «الاستعمار الداخلي» إلّا سلوك الأنظمة.
حتّى في كلام المنظّرين والكتّاب عن «اللاعنف» وضرورته في الثورة (اللازمة المملّة لليبراليي العرب) عنفٌ يمارس ضدّ الهامش. ألا يعرف هؤلاء أنّ كلّ ثورة تحتاج، بالتعريف، الى العنف، وأنّ تفاوت مقداره هو خيار يعود أوّلاً للنّظام، وثانياً للثوّار؟ لو لم يستنزف الشباب المصري قوّات الأمن ويدميها حتّى تشرذمت، لما صارت تظاهرات ولا قامت ثورة، ولا تغيّر نظام. استعمل متظاهرو القاهرة تكتيكات عسكريّة بحتة في مواجهة الأمن والبلطجيّة، وإن كانت تعود إلى قرون مضت. وفي السويس، حيث تجلّت ثورة مصر بأنقى صورها، تمّت السيطرة على المدينة بقوّة السلاح. يمكن خفض مقدار العنف بالحكمة والدراية، لكنّ إعلان ثورة سقفها اللاعنف هو كـ«ثورة» العلمانيّة في بيروت لإسقاط النظام الطائفي.

خاتمة

تشهد الساحة اليوم طروحات مختلفة من قبل مراكز السلطة، من نظرية الحاكمية الشرعيّة الى وعود بـ«الإصلاحات»، الى الديموقراطيّة الليبراليّة على طريقة الناتو والبنك الدّولي. هي كلّها وسائل بأسماء متعدّدة لترويض الهامش، وتسيّده من جديد، من قبل الداخل أو الخارج. قد تقبل السلطة بإدخال تغييرات جذريّة في بنيتها، وبالتضحيّة برموز من بين أفرادها، وهي تقبل أيضاً بأن تقود مسيرة «التغيير»، وتزايد فيه على الباقين. لكن ما لا تقبله السّلطة، أيّ سلطة، وبأي شكل من الأشكال، هو أن يفلت الهامش من عقاله، وألّا يعود صامتاً منزوياً لا يفسد على النّخبة وطبقتها حفلتهما الصّاخبة.
مهما كانت نتائج الإصلاحات والتسويات والصفقات المحتملة بين مراكز القوّة (الأنظمة، المعارضة، والاستعمار) فإنّ النتيجة بالنسبة الى من سيحرم ثمار الثورة ستبقى على حالها في أغلب الأحيان. اليوم بدأ إسكات الهامش والجميع يشارك في قمعه.
لذلك، تبقى الحقيقة على درب أستاذي العارف هادي العلوي، الذي فهم المهمشين كما لم يفهمهم أحد، في رفض السلطة بما هي سلطة، وبما هي ظالمة، وكلّ سلطة هي ظالمة وقهّارة. وأبقى راضياً بقسمة هادي بين شكلين من الحكّام. قال المفكّر العراقي إنّ الأنظمة نوعان: أوّلهما هو ما يمكن أن نسمّيه «الأنظمة الوطنيّة»، أي تلك التي تقاوم الاستعمار، وتنحاز للفقراء، وليس فيها شبهة عمالة لاستخبارات الغرب. وهذه الأنظمة، على شرعيّتها، تبقى أنظمة وتظلّ سلطة، فهي إذاً ـــــ بالتعريف ـــــ ظالمة وغاشمة. لذا، فنحن لا نخدمها، ولا نعمل بإمرتها، ولا نأكل على موائد سلاطينها. أمّا الصنف الثاني (وقد وضع هادي ضمنه كلّ دول الجامعة العربيّة)، فإنّ واجبنا السياسيّ والشرعي والأخلاقي، هو في بذل الغالي والنفيس، والروح والدم، من أجل إسقاطها.

* كاتب عربي