كانت الثورات العربية لأنّها أطلقت الخيالات المكبوتة لملايين الشباب. إنّ ثورة انطلقت من الخيال يُفترض أن تكون نتائجها من روح دوافعها، فتفتح الأفق العربي على الدولة المدنية الديموقراطية. دولة تعيد تأسيس الفضاء العام على أساس عقد اجتماعي جديد، تمثّل الحرية مرتكزه الأساسي. السؤال الآن عما إذا كانت فلسطين تستطيع هي الأخرى أن تُطلق خيالها الخاص. لقد كانت فلسطين في قلب الحركة الشاملة للثورات العربية التي رافقت حقبة التحرر من الاستعمار والانبعاث القومي. وعلى مدار عقود، كانت الأنظمة التي تمخّضت عن تلك الثورات تعيش مشكلة مزدوجة: عجزها عن تحرير فلسطين، وفشلها في بناء الدولة الحديثة وتحقيق العدالة الاجتماعية لشعوبها. ومع اختلال ميزان القوى العالمي، ودخول العالم العربي «حقبة أميركا»، مثّلت تلك الأنظمة العسكرية، التي تُعَدّ امتداداً للأنظمة «الثورية»، حصناً مانعاً أمام مشروعات التحرر والمقاومة.
انتقل مركز النبض الثوري من فلسطين كقضية قوميّة، إلى مجموعة كبيرة من القضايا السياسية والاجتماعية. وكان الشغل الشاغل للجمهور العربي، محاولة توسيع هامش الحريّة في الفضاء العام. لذلك، لم نرَ شعاراً قومياً واحداً ترفعه الملايين التي نزلت إلى الشوارع. لقد استطاعت الأنظمة أن تراكم حجماً من القضايا، إلى الحدّ الذي لم تعد فيه فلسطين أولوية فعليّة.
تكتسب الأطروحات الداعية إلى تحرير فلسطين عبر العواصم العربية، والحال هذه، معنى جديداً اليوم. وكأنّها تعيد بعث نظريات انطفأ وهجها تماماً، تحت وطأة سيادة الأفكار القطرية الضيقة، وانتهاج الحلول المنفردة. إنّه ليصعب المجادلة، في أنّ إسقاط الأنظمة القمعية، التي شاركت إسرائيل ضربها للفكرة الفلسطينية الوطنية، لن يؤدي إلى فتح أفق ثورة فلسطين على احتلالها. إنّ إنجاز الدول العربية لمهمّات تحولها الديموقراطي، سيجعلها أكثر مقدرة على مقاربة قضية فلسطين، لا كقضية قوميّة سياسية فحسب، بل كقضيّة من قضايا التحوّل الديموقراطي ذاتها. فإذا كان لفلسطين أن تنحاز إلى الثورات العربية على الاستبداد، فلن يكون العالم العربي الديموقراطي الجديد في موقع من ينظر إلى مسألة يكون فيها غياب حريّة شعب بأكمله مسألة هامشية، بل مسألة تمثّل جوهر تحوّله الجديد.
هل يمكننا المغامرة بالدعوة إلى أن تكون ثورة فلسطين الجديدة مبدعة أيضاً؟ إذا كانت قيم العدالة الاجتماعية والحرية والمدنية وحقوق الإنسان، تمثّل اليوم قيم التحرك العالمي الجديد من أجل عالم إنساني أفضل، أفلا يجب أن تكون ثورة فلسطين من جنس هذه المبادئ؟ أي أن تكون ثورة لإنهاء الغبن التاريخي الواقع عليها، من خلال الحل الأكثر أخلاقية المتمثل في إطلاق برنامج فلسطين الواحدة الديموقراطية لعربها ويهودها؟ هل يمكن مشروع الفصل القومي والعرقي والديني القائم على دولتين، فلسطينية وإسرائيلية، أن ينجح في عالم تُستعاد فيه القيم الإنسانية بقوّة، لتكون الأساس في التحرّك السياسي لفئات واسعة من البشر، في ظل تراجع قيم الإمبراطورية والسيطرة التي حاولت أميركا فرضها عبر الكون؟ إنّ هذا الخيار العادل من أجل حلّ نهائي لقضية فلسطين يمثل انسجام فلسطين مع حركة التاريخ. فهل نستطيع بلحظة خيال أن نلتقط هذا المعنى؟

* صحافي فلسطيني