يواجه اليسار هذه الأيام مهمّة صعبة، هي التشديد على أنّنا نتعامل مع مشكلة اقتصاد سياسي (أي إنّه ما من شيء «طبيعي» في الأزمة الحالية، والنظام الاقتصادي العالمي الحالي يعتمد على سلسلة من القرارات السياسية) مدركين في الوقت نفسه، أنّنا لو بقينا في إطار النظام الرأسمالي، فسوف يتسبب انتهاك قوانينه في انهيار اقتصادي، بما أنّ هذا النظام يتبع منطقاً شبه طبيعي، خاصاً به.
إذاً، وعلى الرغم من أنّنا ندخل بوضوح في مرحلة جديدة من الاستغلال المعزز، سهّلته ظروف السوق العالمية (العقود الباطنية لتخفيف النفقات، إلخ) علينا أيضاً أن نأخذ في الحسبان أنّ كلّ ذلك ليس ناتجاً من مؤامرة شريرة يقوم بها الرأسماليون، بل هو حاجة ملحّة فرضها أداء النظام نفسه، إذ كان دائماً على حافة الانهيار المالي. لهذا السبب، المطلوب اليوم ليس نقداً وعظياً للرأسمالية، بل إعادة تأكيد كامل لفكرة الشيوعية.
تبقى فكرة الشيوعية، كما طوّرها آلان باديو، فكرة كانطية تنظيمية، أي تفتقر الى أيّ وساطة مع الواقع التاريخي. فباديو يرفض بشدّة وساطة مماثلة، ويرى فيها انحداراً نحو مذهب الحتمية التطورية التاريخية، التي تلوّث نقاء الفكرة الشيوعية، حاصرة إياها في نظام وجودي إيجابي (الثورة تعدّ لحظة في العملية الإيجابية للتاريخ). والإحالة الكانطية تلك، تسمح لنا، وبنحو فعال، بوصف عرض باديو للنظرية الشيوعية بأنّه نقد الشيوعية الصرف (Kritik der reinen Kommunismus). فهو يدعونا إلى إعادة الانتقال من كانط إلى هيغل، لإعادة صياغة الشيوعية كفكرة من المنظور الهيغلي، أي كفكرة تقع في صلب عملية تحققها نفسها. بالتالي، لم تعد الفكرة التي «تصنع نفسها بنفسها» مفهوماً متناقضاً مع الواقع كظلّه الميت، بل باتت مفهوماً يعطي واقعاً ووجوداً لنفسه. يعيدنا ذلك إلى صيغة هيغل «المثالية» السيّئة الذكر التي ترى أنّ الروح ليست إلا نتيجة ذاتها، أي نتاج ذاتها.
فتلك التصريحات غالباً ما تسبب تعليقات «مادية» ساخرة، («إذاً ليس الأشخاص الحقيقيون هم من يفكر وينفذ الفكرة، بل الروح نفسها من تقوم بذلك، وهي كما يقول البارون مانشاوزن تحقق نفسها بنفسها»).
لكن تخيّلوا مثلاً فكرة دينية تجذب الجماهير، وتصبح بالتالي قوّة رئيسية تاريخية؟ أليست تلك حالة فكرة تجسد نفسها، وتصبح «نتاج نفسها»؟ ألا تحفز الناس على القتال من أجل تلك الفكرة الدينية، ومن أجل تحقيقها، كما لو كنّا في دائرة مغلقة؟ لا يؤدي مفهوم الفكرة كمنتج بحدّ ذاته إلى ابراز مسار انتاج ذاتي مثالي، بل يظهر الحقيقة المادية القائلة بأنّ اية فكرة توجد فقط من خلال نشاط الافراد الملتزمين بها والمحفزين منها. ما نتكلّم عنه هنا، ليس بالتأكيد الحتمية التاريخية/ التطوّرية التي يرفضها باديو، بل أمر أكثر راديكالية بكثير: فالحقيقة التاريخية نفسها ليست نظاماً إيجابياً، لكنّها «كيان غير شامل» (a not- all) يوحي بما سيكون عليه مستقبلها. شمول المستقبل في النظام الحالي يجعل هذا «الكيان غير الشامل» غير مكتمل وجودياً، وهو بالتالي، يغيّر في الاحتواء الذاتي لمسار الحتمية التاريخية/ التطورية. باختصار، هذه الثغرة هي التي تمكّننا من التمييز ما بين الحتمية التاريخية والحقيقة التاريخية.
لماذا إذاً فكرة الشيوعية؟ لثلاثة أسباب تحيلنا إلى النظرية الثلاثية لجاك لاكان، أي: الخيالي، الرمزي والحقيقي. على مستوى الخيالي، لأنّ من المهم الحفاظ على تواصل مع التقليد القديم للانتفاضات الجذرية التي يشارك فيها الألوف وتكون في سبيل المساواة. على مستوى الرّمزية، لأنّنا نحتاج إلى تحديد الظروف المحددة التي بموجبها، وفي كلّ المراحل التاريخية، كان هناك مجال للشيوعية كي تبرز. أخيراً، على مستوى الحقيقة، لأنّ علينا القبول بقسوة ما يسمّيه باديو الثوابت الشيوعية الأبدية (المساواة في العدالة، التطوع، الإرهاب، و«الثقة بالناس»).
تلك الفكرة عن الشيوعية تناقض الاشتراكية بوضوح، فتلك الأخيرة ليست « فكرة» على وجه التحديد، بل هي معلومة اجتماعية غامضة، تنطبق على جميع أنواع القيود الاجتماعية والعضوية، وذلك بدءاً بالأفكار الروحية للتضامن («نحن كلّنا جزء من الجسد ذاته»)، وصولاً إلى الأفكار النقابية الفاشيّة. البلدان الاشتراكية القائمة، كانت على هذا النحو تماماً: دولاً ايجابية بوجودها، في حين أنّ الشيوعية كمفهوم هي مضادة للدولة.
من أين أتت فكرة الشيوعية الأبدية تلك؟ أهي جزء من الطبيعة البشرية، أم هي كما يقترح أتباع يورغن هابرماس، فرضية أخلاقية (تتعلق بالمساواة أو بالاعتراف المتبادل) مدرجة في النظام العالمي الرمزي؟ فطابعها الأبدي، لا يمكن ان يفسر، في النهاية، عبر شروط تاريخية محددة. المفتاح الأساسي لحلّ تلك المشكلة هو التركيز على هذه النقطة، وذلك ضدّ ما تتمرد الفكرة الشيوعية من أجله، أي التسلسل الهرمي للجسم الاجتماعي الذي طرحت إيديولوجيته بداية في نصوص مقدسة مثل «كتاب مانو».
وكما برهن لوي دومون في كتابه «Homo hierarchicus»، فإنّ التسلسل الهرمي الاجتماعي هو دائماً غير متناسق، أي إنّ هيكليّته الخاصة تعتمد على انقلاب متناقض (المجال الأعلى هو بطبيعة الحال أعلى من المجال الأدنى، لكن داخل المجال الأدنى يكون الترتيب المنخفض أعلى من الترتيب الأعلى)، ولذلك فإنّ التسلسل الهرمي الاجتماعي لا يمكن أن يحتوي جميع عناصره. لقد أوجد ذلك التناقض الأساسي ما يسمّيه رانسيير «الجزء الذي ليس جزءاً من شيء»، أي ذلك العنصر الفريد الذي لا مكان له في التسلسل الهرمي الاجتماعي، وبالتالي، يتصرف كأنّه عالم فريد، ويمنح تجسيداً لشمولية المجتمع المذكور. اذاً، الفكرة الشيوعية هي المطلب الأبدي الذي يتشارك مع هذا العنصر المفتقر إلى مكانه الخاص في التسلسل الهرمي الاجتماعي («نحن لا شيء، لكنّنا نريد أن نكون كلّ شيء»).
إذاً، مهمتنا هي أن نبقى مخلصين لتلك الفكرة الشيوعية الخالدة: مخلصين لروح المساواة التي بقيت قيد الحياة، لآلاف السنين، عبر الثورات والأحلام المثالية، والحركات الراديكالية، من سبارتاكوس إلى توماس مونتزر، بما في ذلك داخل الديانات العظمى (البوذية مقابل الهندوسية، الطاوية أو القانونية وهي فلسفة دينية صينية، مقابل الكونفوشيوسية، إلخ). المشكلة هي كيفية تجنّب الاختيار بين الانتفاضات الاجتماعية المتطرفة التي تنتهي بالهزيمة، إذ تكون غير قادرة على تحقيق الاستقرار لنفسها في نظام جديد، وبين التراجع نحو مثالية خارج نطاق الواقع الاجتماعي (بالنسبة إلى البوذية، نحن متساوون عند وصول الروح إلى حالة النيرفانا). هنا تصبح أصالة الفكر الغربي أكثر وضوحاً، لا سيّما في ما يخصّ القطيعة التاريخية العظمى في هذا الفكر، التي حصلت ثلاث مرات: قطيعة الفلسفة اليونانية مع عالم الأساطير، وقطيعة المسيحية مع العالم الوثني، وقطيعة الديموقراطية الحديثة مع السلطة التقليدية. ففي كلّ حالة من الحالات، يجري نقل روح المساواة إلى نمط إيجابي جديد (محدود، لكنّه راهن).
باختصار، إنّ رهان الفكر الغربي هو أنّ السلبية المتطرّفة (التي كان أول تعبير لها هو الترهيب بالمساواة) ليست محكومة بأن يجري التعبير عنها من خلال فورات عاطفية قصيرة، تعود بعدها الأمور إلى طبيعتها. على العكس من ذلك، فالسلبية المتطرفة، مثل تقويض كلّ تسلسل هرمي تقليدي، لها قدرة على التعبير عن نفسها بطريقة إيجابية، تستطيع من خلالها الحصول على الاستقرار الذي تؤمنه أي طريقة حياة جديدة.
ذلك هو معنى الروح القدس في الديانة المسيحية: لا يمكن التعبير عن الإيمان عبر مجموعة المؤمنين، بل هو يوجد من خلال هذه المجموعة. وهذا الإيمان بحدّ ذاته، قائم على الترهيب، كما يتضح من خلال إصرار المسيح على أن يجلب السيف وليس السلام، وأن كلّ من لا يكره والده أو والدته ليس بتلميذ صالح له، وهلمّ جراً. فمضمون هذا الترهيب يتضمن، بالتالي، رفض كلّ الروابط الاجتماعية والتسلسلية التقليدية، مع الرهان على وجود رابط اجتماعي آخر. رابط من المساواة بين المؤمنين، مرتبط بالتعاليم المسيحية مثل الحب السياسي.
الديموقراطية نفسها تبرهن عن مثال آخر من المساواة التي تعتمد على الترهيب. كما يقول كلود لوفور، فإنّ حقيقة الديموقراطية هي أنّ مصدر السلطة فارغ، وأنّه ما من أحد مؤهل لملء الشغور، أكان عن طريق التقاليد، أم الكاريزما، أم من خلال المؤهلات القيادية.
لذلك، وقبل أن تتمكن الديموقراطية من البروز، يجب على الترهيب أن يقوم بعمله، من اجل الفصل، وإلى الأبد، ما بين مركز القوة وأي شخص يتقدم لملء هذا المركز، أكان مناسباً بشكل طبيعي أم عبر مؤهلاته المباشرة: فيجب الحفاظ بأي ثمن على الفجوة بين المركز وهؤلاء الذين يشغلونه.
لهذا السبب أيضاً، يمكن استنتاج هيغل حول الأنظمة الملكية أن يكون فكرة تكميلية للديموقراطية. فهيغل يصرّ على أنّ الملك هو رأس السلطة الغير منطقي (الطارئ)، وذلك من أجل فصل قمّة سلطة الدولة عن الخبرة التي تتجسّد في البيروقراطية. وفيما يُختار البيروقراطيون وفق مقدراتهم ومؤهلاتهم، فإنّ الملك هو الملك منذ الولادة، أي هو اختير بالقرعة، وفق صدفة طبيعية. الخطر الذي كان هيغل يحاول تجنّبه هنا، قد تفجّر بعد قرن، مع البيروقراطية الستالينية، التي كانت حكم الخبراء ( الشيوعيين) على وجه التحديد. فستالين لم يكن وجهاً من وجوه القادة فقط، بل كان الشخص الذي «يعلم حقاً»، خبيراً في كل المجالات التي يمكن تخيّلها، من الاقتصاد إلى الألسنية، ومن البيولوجيا إلى الفلسفة.
يمكن أيضاً أن نتخيّل عملية ديموقراطية تحافظ على الفجوة نفسها، بسبب لحظة الصدفة التي لا يمكن اختزالها في كلّ النتائج الانتخابية: دون أن تكون شرطاً مقيداً، فإنّ ما يحمي العملية الانتخابية من إغراءات التوتاليتارية هو أنّها لا تدعي اختيار الأشخاص الأكثر أهلية (لهذا السبب، اختيار الحكام عبر القرعة هو اكثر الطرق ديموقراطية، كما كان واضحاً عند الاغريق القدماء).
كلّ ذلك لكي نقول، وكما سبق أن برهن لوفور، إنّ إنجاز الديموقراطية هو أخذ ما تراه القوى التقليدية الاستبدادية لحظة محنة عظيمة، أي لحظة الانتقال من سيّد إلى آخر، أو اللحظة المرعبة حين يكون «العرش فارغاً»، وتحويلها إلى مصدر قوتها. إنّ الانتخابات الديموقراطية تمثل، بالتالي، المرور في حالة الخواء التي تتفكك فيها شبكات التواصل الاجتماعية، وتتحوّل إلى عملية عددية صافية، يملك فيها الأفراد أصواتاً تعدّ آليّاً. إنّ لحظة الرّعب هذه، لحظة تفكك جميع روابط التسلسل الهرمي، تتحوّل إلى قاعدة لنظام سياسي جديد ومستقر.
استناداً إلى مفهومه الخاص بالدولة الرشيدة، ربما كان هيغل على خطأ في خوفه من الاقتراع العام الديموقراطي (انظر إلى رفضه القطعي لمشروع قانون الإصلاحات البريطاني في 1832). هذه الديموقراطية تحديداً (الاقتراع العام) تقوم بالخدعة السحرية التي تحوّل السلبية المتطرفة إلى نظام سياسي جديد، بنحو أفضل مما تفعله دولة هيغل. في الديموقراطية، سلبية الترهيب (أي تدمير جميع الذين يدّعون التماثل مع مركز السلطة) تحمل معها نقيضها (وفق نظرية aufgehoben لدى هيغل) وتتحوّل إلى الوجه الإيجابي من العملية الديموقراطية.
فالسؤال الذي يطرح نفسه اليوم، وبعدما أدركنا قيود هذه الآلية الرسمية، هو هل بإمكاننا تخيّل خطوة أكثر تقدّماً لهذه الآلية، يجري بموجبها تحويل المساواة السلبية إلى نظام إيجابي جديد؟ علينا تعقّب آثار نظام مماثل في مجالات مختلفة، بما فيها المجتمعات العلمية. فطريقة عمل المنظمة الأوروبية للأبحاث النووية (CERN) هي جدّ معبّرة في هذا المجال. فبطريقة مثالية، يرتقي المجهود الفردي، ليصبح مجهوداً جماعياً، خالياً من روحية التسلسل الهرمي. وبذلك، يتخطى التفاني للقضية العلمية (أي إعادة خلق ظروف الانفجار العظيم BIG BANG) كلّ الاعتبارات المادية. لكن ألا تبقى مواقف مماثلة، مهما علت شأناً، مواقف هامشية؟
في مداخلته خلال مؤتمر الماركسية في لندن في 2010 (الذي نظّمه حزب العمال الاشتراكيين)، عرض أليكس كالينيكوس حلمه بمجتمع شيوعي مستقبلي، تبنى فيه متاحف للرّأسمالية، تعرض للجمهور كلّ آثار ذلك المكوّن الغير العقلاني، والغير الإنساني الاجتماعي. تكمن سخرية هذا الحلم ـــــ الغير المقصودة ـــــ بأنّ المتاحف المقامة في أيامنا هذه، تخصّ الشيوعية فقط، وتعرض فيها فظاعاتها للعلن. مرّة أخرى، ما العمل في هذه الحالة؟ قبل عامين على وفاته، وعندما أدرك لينين أنّ ما من ثورة أوروبية آتية، وأنّ فكرة بناء الاشتراكية في بلد واحد ليست سوى أمر عبثي، كتب: «ماذا لو أنّ العبثية الكاملة للموقف، ومن خلال تحفيز جهود العمال والمخططات العشرية للفلاحين، قدّمت لنا فرصة خلق الضرورات الأساسية للحضارة، بطريقة مختلفة عن بلدان أوروبا الغربية؟».
أليست هذه ورطة حكومة موراليس في بوليفيا، وحكومة أريستيد السابقة في هاييتي، والحكومة الماوية في النيبال؟ كلّ تلك الحكومات وصلت إلى السلطة من خلال انتخابات ديموقراطية «عادلة»، عوضاً عن الانقلابات. لكنّها ما إن تولّت زمام السلطة حتى عملت بطرق غير مركزية، فعبأت جماهيرها مباشرةً، متخطية شبكة علاقة الدولة والحزب. موضوعياً، إنّ حالتهم ميؤوس منها: فحركة التاريخ تسير بعكسهم، وليس هناك أي «ظروف موضوعية» تدفع باتجاههم.
كل ما يستطيعون فعله هو الارتجال، أي فعل ما يمكن فعله في حالة ميؤوس منها. لكن، ألا يمنحهم ذلك حرية فريدة من نوعها؟ (ألسنا كيسار معاصر في حالة مشابهة تماماً؟). من المغري في حالة مماثلة تطبيق الاختلاف القديم بين «الحرية من» و«الحرية لأجل». ألا يمثّل تحرّرهم من التاريخ (قوانينه وظروفه الموضوعية) دعماً لحريتهم في الاختبار الإبداعي؟ في نضالهم، يمكنهم الاعتماد على الإرادة الجماعية لجماهيرهم فقط.
وفقاً لباديو «أدّى نموذج الحزب المركزي لوجود شكل جديد من القوة لا يقل أبداً عن قوّة الحزب ذاته. نحن الآن في ما نسمّيه «البعد عن الدولة». أولاً لأنّ مسألة السلطة لم تعد «آنيّة»، إذ إنّ «الاستيلاء على السلطة» أصبح أمراً مستحيلاً في أيامنا هذه». لكن ألا يعتمد ذلك على بديل سهل نسبياً؟ ماذا عن التولّي البطولي لأي شكل من أشكال السلطة المتوفرة (ضمن إدراكنا التام بأنّ «الظروف الموضوعية» ليست «ناضجة» كفاية لتغيير جذري)، والتصرف عكس التيار والقيام بما يمكن المرء أن يقوم به؟
لنعد إلى ظروف اليونان في صيف 2010، حين ادى الامتعاض الشعبي إلى إسقاط الشرعية عن الطبقة السياسية بكاملها، حتى قاربت الظروف السياسية في البلاد الفراغ التام للسلطة. لو كان بإمكان اليسار أن يستولي على سلطة الدولة، فماذا كان بإمكانه أن يفعل في حالة «اليأس التّام» تلك؟ ويمكن أن نؤكّد (اذا سمحنا لأنفسنا بذلك) أنّ النظام الرأسمالي كان ليعطي فرصة لليسار، وبكلّ سرور، فقط من أجل تلقين الآخرين درساً قاسياً، حين يقع النظام الاقتصادي اليوناني في الفوضى المطلقة. لكن، وعلى الرغم من تلك الأخطار، يجب على اليسار النهوض وفي أية فرصة سانحة، ليأخذ السلطة، ويواجه المشاكل بشجاعة، وإظهار افضل ما يمكن من موقف سيئ (في حالة اليونان: المفاوضة على الدين العام، تعبئة التضامن الأوروبي والدعم الشعبي لأجل مشكلتها). إنّ مأساة السياسة تكمن في أنّه لن تكون هناك أبداً لحظة مؤاتية لتسلّم السلطة. فالفرصة ستطرح نفسها دائماً في أكثر اللحظات سوءاً (مثل الفوضى الاقتصادية التامة، الكوارث البيئية، القلاقل الشعبية)، أي عندما تكون الطبقية السياسية قد خسرت كلّ شرعيّتها، بينما يترصد الخطر الشعبوي/ الفاشي في المكان. مثالاً على ذلك، البلدان السكاندينافية. فهي حافظت على أعلى مستويات العدالة الاجتماعية وأبقت على دولة رعاية قوية، وسجلت نقاطاً عالية في المنافسة العالمية. لكن كتب غوران ثيربورن في كتابه «حقول التفاوت القاتلة» قائلاً: «إنّ دولة الرعاية الكريمة التي تتمتّع بمساواة نسبية، لا ينبغي أن ينظر إليها على أنّها مثالية أو حصن منيع، اذ يمكنها ان تكون ذات تنافسية عالية في السوق العالمي. بكلمات أخرى، حتى ضمن معايير الرأسمالية العالمية هناك درجات من الحرية ممنوحة للبدائل الاجتماعية الجذرية».
لربّما كانت مقولة أنطونيو غرامشي الشهيرة أبرز توصيف للفترة التي بدأت مع الحرب العالمية الاولى: «إنّ العالم القديم يموت والعالم الجديد يصارع ليولد: اليوم هو زمان الوحوش». ألم تشكّل الفاشية والستالينية الوحشين التوأمين في القرن العشرين؟ واحدة عائدة من العالم القديم محاولة إحياءه، والأخرى منبثقة عن مسعى سيئ التخطيط من اجل بناء عالم جديد؟ وماذا عن الوحوش التي نخلقها اليوم، تلك المولودة من رحم الأحلام التكنولوجية/ الروحية في مجتمع مسيطر عليه بيو ـــــ جينياً؟ يجب استنتاج كل العواقب من هذا المفارقة. ربّما ليس هناك من ممرّ مباشر نحو الجديد، على الأقل ليس بالطريقة التي تخيلناها، ومما لا شك فيه أنّ الوحوش ستظهر خلال ايّة محاولة لفرض هذا الانتقال.
تتناقض ظروفنا جذرياً مع ظروف القرن العشرين، حين كان اليسار يعلم ما يجب القيام به (إقامة ديكتاتورية البروليتاريا). فعلينا اليوم الانتظار حتى تطرح الفرصة نفسها. اليوم، لا نعلم ما العمل، لكن يجب التصرف سريعاً، لأنّ عواقب اللاعمل قد تكون كارثية. سيتحتم علينا ان نجازف بالوقوع في هاوية «الجديد»، في ظروف غير مؤاتية تماماً. علينا أن نعيد اختراع مظاهر «الجديد» فقط لنحافظ على ما كان جيّداً في القديم (التربية، الرعاية الصحيّة...). كانت الصحيفة التي نشر غرامشي فيها مقالاته في بداية عشرينيات القرن الماضي تدعى «النظام الجديد»، وهو الشعار الذي تبنّاه لاحقاً اليمين المتطرّف. بدلاً من أن نرى أن التبني يظهر «حقيقة» استخدام غرامشي له، يجب العودة إلى هذا الشعار، لأنّه يطرح التحدّي الأهم، وهو تعريف النظام الجديد الذي ستفرضه اية ثورة بعد نجاحها (التخلّي عن الشعار يشبه الوقوف ضدّ الحرية الثورية لليسار الأصيل). بالمختصر، يمكن توصيف زمننا كما وصف ستالين القنبلة الذرية: ليست لذوي القلوب الضعيفة.
ليست الشيوعية اليوم عنواناً للحلّ، بل هي عنوان للمشكلة: مشكلة كلّ ما هو مشترك بكلّ أبعاده، الطبيعة كمورد حياتنا، المشكلة البيو ـــــ جينية، المشكلة الثقافية (الملكية الفكرية)، وأخيراً وليس آخراً، مشكلة الفضاء البشري الذي لا ينبغي أن يستثنى منه أحد. مهما كان الحلّ، عليه أن يحلّ هذه المشكلة.

* فيلسوف سلوفيني، مقدمة الطبعة الجديدة من كتاب «العيش في نهاية الزمان» ــ (ترجمة تونيا عكر)