لن تكون «المحكمة الخاصة» بلبنان شأناً عابراً في حياة اللبنانيين. لقد أُنشئت، واقعياً، منذ ست سنوات. ولن تكفيَ ستّ سنوات عجاف أخرى، لتحقيق «أهدافها»، أو لتعطيل هذه الأهداف، اللبنانية وغير اللبنانية. وتفيد لوحة الصراع القائم في لبنان والمنطقة، التي باتت المحكمة جزءاً منها، أو إحدى أدواتها الأساسية (بالنسبة إلى أحد الأفرقاء)، أنّ أحداً لن يتمكّن في وقت قريب، من الانتصار بالضربة القاضية: لا بتعطيل عمل المحكمة، ولا بجعلها تنجح في «كشف الحقيقة»، وفي إنزال العقوبة بالمجرم الفعلي أو الوهمي.إنّ كون المحكمة جزءاً من الصراع، وإحدى أدواته البارزة في تفاعل جوانبه وقواه الداخلية والخارجية، يجد صداه المدوّي في بيان تحالف 14 آذار يوم الأحد الماضي. فبعد هذا البيان لم يعد حديث المحكمة حديث «حقيقة وعدالة»، بل بات حديث سياسات وتوجهات وبرامج واستعادة سلطة، وإزاحة الخصم من الحكومة... وهو، أي بيان 14 آذار، قد مضى صريحاً وقاطعاً كحدّ السيف، في جعل الموقف من المتهم موقفاً من المقاومة ودورها ووجودها من الأساس. فلقد ذهبت لهجة البيان إلى الحدود القصوى في الإطلاق، إذ لم يكلف أصحاب البيان أنفسهم عناء تمييز ما تحدّثوا عنه سابقاً بين وظيفة السلاح على الحدود ضدّ العدو، واستخدامه في صراع الداخل لتغيير التوازنات والمعادلات. وهم تجاهلوا تماماً إنجازات المقاومة في تحرير الأرض وفي إقامة توازن ما مع العدوّ الصهيوني. تجاهلوا في امتداد ذلك واقع أنّ أرضاً لبنانية لا تزال محتلّة، وأنّ من واجب الدولة على الأقل، السعي إلى تحريرها لتبرير ما يطالبون به من حصرية السلاح في يد الدولة، دون سواها. لقد بات سلاح المقاومة في نظرهم سلاحاً «غير شرعي»، ولّد «موجات الاغتيال السياسي وأعمال القتل والتفجير والإرهاب التي شهدها لبنان...».
إنّ إسقاط كلّ شرعية عن سلاح المقاومة، هو نقطة التقاطع الأساسية والمحورية مع خصوم وأعداء المقاومة في الخارج، ممن يسعى تحالف 14 آذر، في موقفه الأخير، إلى كسب دعمهم في معركته، التي هي، ضمناً، معركتهم بالمقدار نفسه أو يزيد. وهكذا، وفي نطاق التصدّي لـ«كسر الغلبة القائمة على السلاح»، لا بدّ من «إطلاق حملة سياسية عربية ودولية لإخراج الجمهورية من أسر السلاح، والطلب من الحكومات العربية والمجتمع الدولية عدم التعاون مع هذه الحكومة في حال عدم تنفيذها مندرجات القرار 1757».
لقد تقرّر إذاً، ببساطة وبحزم، الربط بين السلاح والاغتيال. وبات القرار 1757، أي قرار إنشاء المحكمة، موجّهاً ضدّ السلاح ككل، لا فقط ضدّ المجرم وشركائه. ويعني هذا، على نحو حاسم اعتبار الاتهام الصادر عن المحكمة بصورته الراهنة، قراراً بالإدانة المطلقة، لا يحتاج إلى إثبات وشهود وقرائن، ولا يحتمل براءة أو نقضاً أو تعديلاً. وخلافاً لما جاء منذ أيام، في بيان كتلة «تيار المستقبل» من أنّ الاتهام ضدّ أفراد لا يعني اتهام حزب أو طائفة، فإنّ البيان المصوغ بـ«أدبيات» بعض فريق «الأمانة العامة» لتحالف 14 آذار، قد حسم بأنّ «البيئة التي ترعرع فيها استخدام السلاح غير الشرعي» إنما هي المسؤولة، أولاً وأخيراً، عن «موجات الاغتيال السياسي وأعمال القتل والتفجير والإرهاب...». إنّ هذا بات الموقف الرسمي لتحالف 14 آذار، وهو الذي دفع أحد نواب تيار المستقبل إلى مطالبة حزب الله بالخروج من الحكومة الجديدة بوصفه «مشتبهاً فيه».
ليس في كلّ ما تقدّم عرضه ما يدفع إلى المفاجأة. المفاجأة هي فقط في سرعة التصعيد، وفي توهّم الانتصار بالضربة القاضية، كما أشرنا آنفاً. ذلك أنّ «فريق الادّعاء»، وهو فريق يمتدّ من واشنطن إلى تل أبيب إلى لاهاي وبيروت وسواها في بعض العواصم العربية، يأمل أن يجني الآن أرباحاً سريعة. وقد سبق لهذا الفريق أن حقق نتائج باهرة في السنوات الماضية حين تحرّك بسرعة وضغط بسرعة، فقطف بسرعة. ففي سجلّ استثمار اغتيال الرئيس الحريري وبقية الشهداء، نجاحات مشهودة لم يكن أقلّها إسقاط الإدارة السورية للبنان وإخراج وحداتها الأمنية والعسكرية التي كانت تستند إليها هذه الإدارة. كذلك جرى إسقاط الحكم اللبناني الحليف لدمشق وزجّ رموزه الأمنية في السجون، ورموزه السياسية في الشبهة والمطاردة والعزل. واستثمرت الجرائم والدماء المسفوكة أيضاً، في الانتخابات النيابية، وفي الوظائف والإدارة، وفي الحصص والتوازنات حتى داخل تحالف 14 آذار، مما دفع «الشركاء» الآخرين في فريق 14 آذار، إلى التذمّر والشكوى من الاحتكار والاستئثار والتفرّد.
إنّ التعامل من منطلق ومن منطق «فريق الادّعاء» المذكور، هو الذي أملى على فريق 14 آذار اعتماد موقف الإدانة قبل المحاكمة: لاعتبار شكلي هو أنّ العدالة هي في «يد قادرة وموثوق بها»، كما جاء في بيان البريستول، يوم الأحد الماضي، ولاعتبار جوهري هو ضمان التأييد الدولي لفريق بيان «البريستول»، وهو تأييد أميركي وإسرائيلي وخليجي، على نحو رئيسي.
أشرنا إلى تعذّر إحراز انتصار بالضربة القاضية، من قبل أحد طرفي النزاع، على الطرف الآخر. هذا الأمر في لبنان، أصبح أصعب، وخصوصاً بالنسبة إلى فريق 14 آذار، بعدما اعتمد لغة شبه تخوينية وتصعيدية، ضدّ «كلّ من يجلس حول طاولة مجلس الوزراء» الجديد. شمل ذلك رئيس الجمهورية، وكتلة رئيس الحزب التقدّمي الاشتراكي، فضلاً عن الرئيس ميقاتي. إنّ ردّ رئيس الحكومة على بيان البريستول الأخير، قد أشار إلى استعداد الرجل للمواجهة، وإلى إدراك ما يُخطّط له خصومه من مسعى إلى دفعه إلى الاستقالة، كما حصل مع الرئيس عمر كرامي بعد اغتيال الرئيس الحريري. هذا فضلاً عن أنّ الرئيس ميقاتي يرى أنّه فعل ما بوسعه للحفاظ على موقع الرئاسة الثالثة وصلاحياتها، وحصل على الحدّ الأقصى في ما يتصل بمن يمثّل على صعيد الطائفة والمنطقة. وهو، إلى ذلك، يتمتّع بأعصاب قوية جعلته موضع شكوى من محاوريه، وخصوصاً ممّن عملوا معه على تأليف الحكومة الحالية، بسبب تمسّكه بموقفه وبصلاحياته، وبسبب استثماره في موضوع التأجيل والتطويل ولعبة عضّ الأصابع...
الخشية هي بعد الفشل في الانتصار السريع، بأن يكون السيناريو الإسرائيلي هو المتاح، حصرياً. وهو سيناريو الفتنة المذهبية كما يردّده القادة الصهاينة كلّ يوم. فإسرائيل (وداعموها في واشنطن) لا تهتمّ بنتائج المواجهة، بل بضرورة حصولها. فذلك من شأنه إغراق حزب الله وسلاحه وقضيته، في صراع داخلي يعفيها من متاعبه ومخاطره وصواريخه.
والفتنة المذهبية أداة يجري استثمارها في المدى الإقليمي جميعه من قبل واشنطن وحلفائها. وإسرائيل مستفيد أكبر من ذلك. وهي حققت حتى الآن نتائج مهمة لمصلحتها لجهة تشويه طبيعة الصراع، ولجهة استنزاف الطاقات العربية في النزاعات الداخلية، فيما هي تمضي في مخططها المثابر لتصفية كلّ حقوق الشعب الفلسطيني. ما هو المخرج من كلّ ذلك: إنّه ببساطة مدهشة، في طيّ صفحة المحكمة، وفي إخراج هذه الصفحة من دفتر يومياتنا. ذلك أنّ التطوّرات التي تلاحقت بعد اغتيال الحريري قد حملت متغيّرات هائلة، يستطيع أيّ حريص، وحتى «وليّ الدم»، بموجبها وبسببها، أن يقول إنّ «دماء الشهيد لم تذهب هدراً». ما هو مستهدف الآن ليس الاقتصاص من المجرم، بل من الخصم: هذا لأسباب محلية، ولأسباب إسرائيلية، ولأسباب أميركية، ولأسباب أخرى. أما الضحية، فهو لبنان: في وحدته وفي استقراره وفي أمنه وفي عمرانه...
قد يبدو هذا الكلام طوباوياً، لكنّه وحده الصحيح من وجهة نظر العدالة، ومن وجهة نظر المصلحة اللبنانية العليا، ومن وجهة نظر الصراع في تعقيداته المتنوّعة وتفاعلاته الداخلية والإقليمية والدولية.
وليكن نقطةَ البدء في طيّ صفحة المحكمة أداء جديد نوعيّ ومسؤول للحكومة، يكسبها ثقة أكثرية الشعب اللبنانيّ عبر تصدّيها لعدد من العناوين الإصلاحية والاجتماعية والأمنية.
إنّ الخروج من «لعبة الأمم»، كما يردّد وليد جنبلاط، هو في هذا الأمر: طيّ صفحة المحكمة لمصلحة الوحدة الوطنية، والمطالبة بالعدالة للشعب اللبناني، لأنّه كان دائماً ضحية التآمر والأذى من قبل أعدائه، وضحية الفئوية وانعدام روح المسؤولية الوطنية من قبل حكامه.
* كاتب وسياسي لبناني