الأمر الذي حكم الموقف من الانتفاضة الشعبية في سوريا، من قِبل قطاع من الذين يرون أنّ الأس هو أميركا، وأنّ الأساس هو المقاومة، هو كون النظام «ممانعاً»، وأنّه «يدعم المقاومة في لبنان وفلسطين». لذلك، لم تكن الثورة ثورة، بل مؤامرة أميركية، رغم تصريحات رامي مخلوف حول الاستقرار، والتسريبات حول مطالبة السلطة لأميركا، كي تعمل على إعادة المفاوضات مع الدولة الصهيونية لأنّ «98% من القضايا متفق عليها».حسناً، ما معنى الممانعة»، خصوصاً بعدما كان «السلام هو الخيار الاستراتيجي» للنظام منذ زمن بعيد؟ المصدر هو المنع، ويشير إلى عدم قبول ما يطرحه آخر. فمنع يمنع يمتنع يتمنّع. وهي هنا أدنى من الرفض، وأحرى من المقاومة. وبالتالي، حين يسمى النظام بأنّه نظام ممانع، فهو صادق في ذلك، لأنّه لا يرفض ولا يقاوم، والمفاوضات هي الخيار الوحيد لديه. ومن هنا، فهو يمتنع عن قبول مستوى التنازلات الصهيونية، لكنّه لا يرفض التفاوض من أجل الوصول إلى حل، وربما ينتظر إلى أن يصبح ذلك ممكناً. لهذا، فالخلاف ليس حول المبدأ، بل حول الممكن فقط. فالمبدأ هو عدم الحرب، والتفاوض من أجل إيجاد حل لاحتلال الجولان، لا يقوم بالضرورة على استعادته.
وحين نتلمس العلاقة مع الولايات المتحدة، نلاحظ ميلاً للتفاهم، وإصراراً على العلاقة، لكن انطلاقاً من أسس هي مجال الخلاف. وسنلمس أنّ تصريحات تتسرّب بالتواتر، تشير إلى هذا الميل، والى الحرص على العلاقة. من هنا، ليست الممانعة سوى عدم قبول بعض السياسات، وسعي إلى تحقيق علاقة أفضل مع الولايات المتحدة، وشروط أفضل في المفاوضات مع الدولة الصهيونية. لهذا، حين يتحدد بأنّ النظام هو نظام ممانعة، لا بد من فهم حدود الموقف الذي يحكمه في العلاقة مع كلّ من الإمبريالية الأميركية، والدولة الصهيونية. هكذا حدد ذاته، ولا يمكن أن يُحمّل أكثر مما يحدِّد هو. وإلا لكان تسمى بالرفض والصمود، كما كان بعد اتفاقات كامب ديفيد، أو تسمى بالنظام المقاوم، وليس فقط الذي يدعم المقاومة. فهو يحكم دولة لها أرض محتلة، وبالتالي المقياس هنا هو المقاومة وليس الممانعة. ولا شك في أنّ كلمة ممانعة هي تحديد دقيق لوضعه، لكن لا بد من سؤال «لماذا يمانع؟»، بعدما تجاوزنا سؤال «لماذا يمانع فقط؟».
ما ينطلق منه «محبّو» الممانعة، هو طبيعة الصراعات في المنطقة، والتحالفات التي تؤسسها. فالنظام في هذه الصراعات مع إيران والمقاومة في لبنان وفلسطين، ضد «قوى الاعتدال» المرتبطة بالإمبريالية الأميركية. هذا هو الانقسام القائم على الأرض، دون أن نتلمس لماذا هو كذلك. ولهذا، سيكون الحرص على المقاومة في لبنان خصوصاً، سبباً في تكريس تلك الصفة للنظام السوري، والتمسك بها حتى العظم. فسوريا طريق الدعم لحزب الله، والحماية الخلفية له. وبالتالي، فإنّ كلّ تغيّر في وضع النظام سيؤدي إلى حصار لهذا الحزب، وبالتالي للمقاومة. وذلك دون السؤال عن طبيعة هذا التغيّر، ومن يقوم به على الأرض، فهو أميركي «حتماً»، ما دام ضد دولة «ممانعة»، وتدعم المقاومة. وهو مؤامرة على حزب الله والمقاومة، بالضرورة!
لكن حين ننتقل من هذا السطح، الذي يتلمسه السياسي الخارجي، ويؤسس عليه، إلى التكوين الداخلي، ستختلف الأمور بالضرورة. أليست السياسة الخارجية هي التعبير عن الوضع الطبقي الداخلي؟ وإذا كانت العولمة، التي هي سياسة الإمبريالية الأميركية خصوصاً، قد عنت لبرلة الاقتصاد، وتخلّي الدولة عن تدخلها الاقتصادي سواء من أجل التعليم والصحة أو حق العمل، أو من أجل الاستثمار وبناء الاقتصاد، وحمايته من المنافسة غير المتكافئة مع المراكز الإمبريالية، فما جرى في سوريا خلال العقدين الماضيين هو هذا بالضبط. فقد انهار دور الدولة وتحوّل الاقتصاد إلى اقتصاد ريعي محتكر من قبل «رجال أعمال جدد»، هم رجالات السلطة ذاتها، وأصبح الاستيراد هو العملية الأساس في العلاقة مع الخارج، بعدما انهارت حتى محاصيل استراتيجية مثل القطن والقمح. وانهارت الزراعة والصناعات، بعد تحرير الأسعار، وخصوصاً أسعار المشتقات النفطية. وهو الأمر الذي دفع كتلة كبيرة من السكان إلى البطالة (30%) والإفقار (80%). فمثلاً، الفارق بين متوسط الأجور والحد الأدنى الضروري هو 1 إلى 3 (11 ألف ليرة إلى 31 ألف ليرة)، حسب دراسات السلطة ذاتها، وسيكون أسوأ حين تكون الدراسة دقيقة.
إنّ تشكيل النمط الاقتصادي بما هو نمط ريعي، يقوم على السياحة والخدمات والاستيراد والعقارات، هو المعادل الموضوعي لسيطرة الطغم الإمبريالية على الاقتصاد، بالتعاون مع مافيات محلية، باتت تتحكم بالكتلة الأساس من المال. مافيات تعمل على نهب الداخل، وتصدير الأرباح إلى الخارج، لكي تصبّ في عجلة الرأسمال الإمبريالي. وهذا النمط يفترض الالتحاق السياسي، لكي يحقق «رجال الأعمال الجدد» دورتهم الاقتصادية. ولقد كان واضحاً لزمن، أنّ الأمور تسير في هذا السياق، ولهذا تخلص النظام من «خطابه القومي»، وبدأ بالحديث عن المصالح، لكن الأمور سارت نحو عدم التفاهم مع الولايات المتحدة، «زعيمة الرأسمال» حينها. لماذا؟ هنا لا بد من لفظ كل «الإيديولوجية»، والتعلق بأفكار، فالواقع الاقتصادي الذي تشكّل هو أقوى من كل ذلك. وهنا سنجد أنّ هناك قوة، هي «رجال الأعمال الجدد»، تعمل على التفاهم، وأخرى، هي الولايات المتحدة تتمنع، وهو الأمر الذي يشير إلى شروط أميركية، غير ممكنة التحقيق. ليست تلك الشروط المسألة الوطنية، ولا إيران، ولا المقاومة، بل طبيعة النظام ذاته. فقد كان الموقف الأميركي يميل نحو سيطرة «القوى الإسلامية المعتدلة»، أي التعديل الطائفي للنظام، وبالتالي لم يكن مطلوباً قبول النظام، بل تغييره. أميركا هنا كانت تغلّب الإستراتيجي على المصلحي الراهن، وهذا هو أساس «الممانعة» السورية، التي انبنت على تكييف اقتصادي داخلي، قابل للسيطرة والالتحاق بالنمط الرأسمالي.
لا تتعلق المسألة هنا باختلاف عميق، أي بالاقتصاد والسياسة، بل تتعلق بالسلطة ذاتها. ومن الطبيعي أن ترفض فئة أن يكون الحل على حسابها، والسلطة هي أساس سيطرتها الاقتصادية. ولقد عملت على تحقيق «شروط العولمة»، خلال السنوات الأربع الأخيرة، من أجل الحصول على القبول الأميركي، وفي سياق الارتباط بالرأسمال الإمبريالي. هذه هي حدود «الممانعة»، وهي حدود تشير إلى اختلاف «تكتيكي» على صيغة السلطة التي تحقق الارتباط بالنمط الرأسمالي. ولقد عزّز هذا الاختلاف طبيعة العلاقة مع إيران (فتحوّل إلى تحالف إستراتيجي بعد 2005 فقط)، ومع المقاومة، وفي إطار التحالفات الإقليمية، واستعاد خطاباً قومياً باهتاً.
على هذا الأساس، أطلقت الدولة على نفسها تسمية «ممانعة»، وليس دولة مقاومة أو صمود، ولا أقول تحرير، فهذه باتت من الماضي، فليس لدى النظام سوى المفاوضات. ولهذا سيكون الموقف من المقاومة موقفاً تكتيكياً، ينطلق من الوضع الذي أصبح فيه نتيجة التناقضات العالمية والإقليمية، وليس عن اقتناع «إيديولوجي»، فالمصالح باتت في مكان آخر، وبات الموقع الطبيعي هو في إطار التبعية للنمط الرأسمالي.
إن الشعور بالعجز لدى بعض النخب، والشعور بالمأزق لدى المقاومة (حزب الله خصوصاً)، نتيجة طابعها الذي فرض انحصارها في طائفة، هو الذي يفرض التعلق بـ«حبال الهواء»، ويجعل النخب تتعلق ببقايا حلم تحرري كبير، تلاشى خلال العقود الماضية، وبشبح قوى تختلف مع الإمبريالية. وفي الغالب، يحكمها المنطق الشكلي الذي يجعلها لا ترى غير السياسي (السطح أو الشكل لمضمون عميق)، فتتعلق بأذياله، وتُصدم حين ترى الشعب يثور من أجل التغيير، فلا تجد غير المؤامرة مبرراً لما يجري. إنّها نخب لا ترى الواقع، لا ترى الشعوب، لا ترى الطبقات المفقرة، بل ترى السياسي، الدولة والعلاقات الدولية. فتستسخف ثوران مفقرين مطالبين بوضع معيشي لائق، وبعمل يسمح بالعيش، وبنظام ديموقراطي. فهذه لدى النخب كلّها «تفاهات» أمام «الممانعة»، ومن أجل المقاومة. رغم أنّ الشعوب هي قوة المقاومة الأهم دائماً. وحين تُفقر وتجوع لا يكون لديها خيار سوى التغيير، وهي في ذلك تؤسس لتناقض عميق مع الإمبريالية، يفضي إلى صراع حقيقي وليس «ممانعة» شكلية، من السهل حلّها.
لدينا نخب نرجسية بنحو مرضيّ، وعاجزة إلى حدّ الهزل، أو عاجزة عن فهم حقيقي للواقع. المطلوب هو وعي أعمق للواقع، وليس التعلق بشعارات. فالشعوب هي أعتى قوة مناهضة للإمبريالية، وهي قوة المقاومة الحقيقية. أما النظم فقد نهبت بما يكفي، وسحقت بما يكفي، وعجزت عن خوض معركة صغيرة ضد عدو. فهي لا تخوض الحرب إلا ضد شعوبها، ولا تدرّب جيوشها إلا على ذلك.
وتحيا الممانعة.

* كاتب عربي