الحكومة الرشيدة هي النتيجة الإيجابية لوجود إدارة عامة ذات توجّه سليم وتسيير فعال، إذ تُطبّق من خلالها السياسات العامة التي تضعها الحكومة على أفضل وجه. ولكي يكون بالمقدور التكيّف مع التكنولوجيات الجديدة، عملت حكومات العالم بأقصى استطاعتها للانتقال من أداء الأعمال بالطريقة اليدوية التقليدية إلى توظيف الطرق الأوتوماتيكية، أو ما يعرف بالأدوات ذات التقنية المتطورة. ومن هذا المنطلق، اتخذ لبنان، شأنه شأن الدول الأخرى في العالم عموماً، وفي الشرق الأوسط خصوصاً، المبادرة للمضي في اعتماد هذا المفهوم الجديد. ولتحقيق ذلك، تعيّن على لبنان مواجهة العديد من التحديات والمصاعب، وذلك لأسباب عديدة، نذكر منها: التوجّه الذي كان ينتهجه الحرس القديم في الإدارة العامة في خمسينيات القرن الفائت، والنظام الذي استشرى فيه الفساد، إضافة إلى أحمال ومتاعب الدولة التي أثقلت كاهلها، وكذلك الهياكل البالية التي كانت تتألف منها المؤسسات، فضلاً عن السياسات العامة الضعيفة، وغيرها من الأسباب الأخرى. وبعد نهاية الحرب الأهلية في 1990، دخل لبنان في مرحلة مصالحة وطنية، توجه فيها نحو تطبيق خطة وطنية واسعة النطاق لإعادة إعمار الدولة على كل الصعد، الاقتصادية والاجتماعية والإنسانية. وكان ينظر إلى الإدارة العامة بوصفها الركيزة الرئيسية والدعامة الأساسية، لتنفيذ الخطة الوطنية تلك على أرض الواقع، إذ إنّه من خلال هذه الإدارة والهيئات العامة، سيتاح للشعب اللبناني إعادة النظر في الدولة، واسترجاع ثقته بتلك الهيئات. وفي سبيل تحقيق ذلك، أضحى مفهوم التقنية المتطورة ضرورة ماسة ووجب أن تأخذ موضعها الأنسب ضمن الخطة الوطنية الموضوعة لمشروع إعادة الإعمار. كذلك وجب تأجيل مشروع الحكومة الإلكترونية حتى السنوات الأولى من القرن الحادي والعشرين، ذلك جراء العديد من المشاكل السياسية الدولية والمحلية التي واجهتها الدولة. وعلى حدّ قول وزير الدولة لشؤون التنمية الإدارية في 2007، يعود تطوير لبنان لأول حكومة إلكترونية إلى 2002. وكان الهدف من وراء الاستراتيجية الجديدة هو وضع الشعب اللبناني والمجتمع، بكلّ أطيافه، في صميم عملية تأسيس حكومة مترابطة قائمة على المعرفة، وقادرة على تزويد الشعب بخدمات عامة تحظى بثقتهم الكاملة. وإضافة إلى ذلك، ستزوّد الخدمات العامة عبر وسائل جديدة وسريعة، فيكون المجتمع اللبناني مستفيداً أساسياً منها، ومن تطبيق هذا المفهوم الجديد. لكن يجب ألا ننسى أنّ الحكومة اللبنانية ذاتها ستكون أيضاً أحد الأطراف المستفيدة. ومن المستحسن أن يعمل لبنان على التوجه نحو اعتماد التقنية المتطورة وتقنية المعلومات والاتصالات، لأنّ ذلك، كما أسلفنا، يصبّ في مصلحة المجتمع ومصلحة الإدارة أو الحكومة.

ما هي المشكلة؟

يعود آخر إصلاح شهده لبنان ضمن الإدارة العامة إلى 1959، حين تأسست الهيئات العامة، استناداً إلى ركيزة راسخة. لكن بسبب اجتماع عدد من الأسباب والأحداث التي توالت على لبنان منذ ذلك الوقت، لم تشهد تلك الهيئات أي إصلاح، لا بل لم يطرأ عليها أي تحديث يذكر. واجتمع معاً عدد من الأسباب، وهي الإدارة المركزية والتأثير البيروقراطي، والنظام الجامد، والتدخل السياسي الخطير والمؤذي في شؤون الإدارة، فكانت دوافع أساسية قلّلت ثقة المجتمع اللبناني بإدارته، والأخطر من ذلك أنّها قللت ثقة مسؤولي الهيئات العامة أنفسهم بالإدارة. وكانت النتيجة السلبية، تتمثّل في إدارة خاملة غير قادرة على تقديم خدماتها العامة للشعب اللبناني للأسباب التي سبق ذكرها، ودون أن يكون لديها أية نية في تحقيق التقدّم والتطوير بعدما فقدت ثقة اللبنانيين بها.

عائق رئيسي وخطير

كانت الحاجة لدى الإدارة اللبنانية إلى الإصلاح أمراً ضرورياً وحتمياً بغية إعادة تأهيل النظام واستعادة ثقة المجتمع بالإدارة. ولقد شهد لبنان في تاريخه المعاصر عدداً من المشاكل والمصاعب، وعلى الأخص منذ 1975، مع بداية الحرب الأهلية. ومن البديهي أنّ وجود إدارة جيدة سيكون له أثر إيجابي على الحكومة، وبالتالي على الحكم. وقد حاول لبنان إعادة بناء اقتصاده ومجتمعه منذ نهاية الحرب الأهلية في 1990. وفي ذلك الوقت، علّق المسؤولون الحكوميون آمالهم على الإدارة العامة وقدرتها على لعب دور فعال في برنامج إعادة الإعمار، لكن لم تكن هناك طريقة ناجحة لإعادة تأهيل الإدارة بالوضع الذي كان سائداً في الدولة آنذاك. وكان قد تمّ تأسيس الهيئات العامة دون العودة إلى أية خطة أساسية ترتبط بالإدارة بوجه عام، ولم يكن النموذج الذي تقوم عليه الإدارة في حينها، عنصراً دافعاً أو قادراً على أداء أية مهام توكل إليه. وكانت غالبية المواطنين اللبنانيين، إن لم يكن جميعهم، يعانون بالفعل انخفاض مستوى الخدمات المقدّمة، واضطراب أداء السياسات العامة، وضعف عملية وضع السياسات المناسبة، إلى جانب التدخل السياسي والفساد والبيروقراطية. وكان ذلك أيضاً يتسبب في مشاكل مستعصية في القطاع الخاص، لأنّ على هذا القطاع التعاون والتعامل مع العديد من الهيئات العامة، كالمحاكم القضائية ووزارة المالي ووزارة الاقتصاد وغيرها من الهيئات. ومن المعروف أنّ التأخر في عملية الإصلاح الإداري وفي تقديم تقنيات جديدة، وفي ترجمة مفهوم الحكومة الإلكترونية على أرض الواقع، سيهدّد استمرارية وجود عدد من السياسات والخطط القائمة في الأصل، وسيعرقل عملية تطبيق واعتماد عدد من البرامج الجديدة التي من شأنها أن تساعد الإدارة، وتزودها بما تحتاج إليه في أداء عملها، وأن تساعد المجتمع أيضاً في حصوله على خدمات عامة أكثر كفاءة وعلى نحو أسرع. وبعد نهاية الحرب الأهلية في 1990، كانت الإدارة اللبنانية مثقلة بالمشاكل وتعوزها الكفاءة، فضلاً عن أنّها كانت قليلة التنظيم وضعيفة للغاية.

أسباب التوجه نحو حكومة إلكترونية

بهدف الوصول بالإدارة العامة إلى مرحلة التكنولوجيا المتقدمة، ومواكبة التقنيات الجديدة، وُضعت ونوقشت خطة على المستوى الوطني في 2003، تحت ما يسمّى «الخطة الإلكترونية الوطنية»، هدفت إلى تطوير العديد من المجالات الفرعية والسياسات المحفزة على التطوير، بالإضافة إلى تحقيق هدفها الرئيسي. وتشكل تقنيات المعلومات والاتصالات إحدى السياسات الرئيسية في الخطة، فجميع الخدمات العامة في أي من المؤسسات والهيئات العامة يجب أن تطور وتمكنن، حتى تتمكن من خدمة المجتمع كاملاً، بنحو يتماشى ومفهوم اللامركزية الإدارية.
إنّ أياً من سياسات الخطة الإلكترونية لها أهدافها ومبادراتها الخاصة، إلا أنّه يمكن تصنيف هذه المبادرات عموماً ضمن سبع فئات. يمثّل ردم الفجوة القائمة في الجاهزية، الذي يعود إلى وجود تباعد ضمن الهيئات العامة، المبادرة الأولى لهذه السياسات، وتحسين مدى الالتزام على الصعيد الوطني، ما يساعد على استعادة ثقة المجتمع اللبناني بحكومته، إضافة إلى تحسين قطاع تقنيات المعلومات والاتصالات، ووضع الانتقال نحو مفهوم التكنولوجيا الجديدة هدفاً لها. كذلك يمثّل تطوير القدرات البشرية، المرتبط مباشرة بمجلس الخدمة المدنية والموارد البشرية للإدارة العامة، إحدى تلك المبادرات، واستخدام تكنولوجيا المعلومات والاتصالات من أجل التنمية الاجتماعية والاقتصادية وتغطية جميع الفجوات الناتجة من النظام القديم هدف لها. وأخيراً استحداث الحكومة الإلكترونية، وذلك بإضفاء الشرعية على مفهومها. ولضمان نجاح هذه الخطة، يجب أن يكون تنفيذها على المستوى الوطني، ما دفع المسؤولين إلى تنفيذها، حرصاً على إيجاد عدة طرق للتنفيذ، وفي حين أنّ التخطيط الجيّد دون تنفيذ سيفشل في تحقيق النجاح، فإنّ التخطيط الجيد سيضمن تطبيقاً سلساً وسهلاً. بالإضافة إلى أنّ تنفيذ هذه الخطة يجب أن يكون وفق مراحل عدة. ولعل إيجاد كيان وطني أو هيئة عامة مسؤولة عن التنفيذ يشكل المرحلة الأهم، وعادة تكون وزارة الدولة لشؤون التنمية الإدارية هي تلك الهيئة.
وجراء الوضع الحساس في لبنان بانتماءاته السياسية المتعددة، يجب الحصول على إجماع أصحاب المصالح جميعاً. لكن برغم هذا الإجماع الوطني، يجب أن تكون خطط ومشاريع هذه الاستراتيجية محددة للغاية. وكمرحلة أخيرة، فإن تحديد العائدات على الاستثمار وإجراءات وضع المعايير تعدّ ذات أهمية عالية من أجل المراقبة والتقييم.

حلول مقترحة

بعد توصيف مشكلة الإدارة العقيمة، التي تعود إلى النظام القديم الفاسد إضافة إلى الرياح السياسية التي عصفت بلبنان خلال الحرب الأهلية، يجب على الإدارة اللبنانية والهيئة المسؤولة عن المشروع التفكير بنحو استراتيجي، وعلى المدى البعيد، حتى تتمكن من التطور والتقدم على مختلف المستويات، بالإضافة إلى التفكير بتوجّه عالمي، ومحاولة إيجاد حلول وطرق تسمح بتطبيق الأهداف المنشودة. ولعل وجود رؤية واضحة للحكومة الإلكترونية اللبنانية، التي تعد واحدة من الحلول الموصى بها، سيحقق فوائد اقتصادية ومزايا اجتماعية، وتحسيناً لمستوى معيشة جميع المواطنين اللبنانيين.
يجب استخدام ركائز الحكومة الإلكترونية الأربع، عند تطبيق المفهوم الجديد، لأنّها تشكل قاعدة له، إذ يشكل الإصلاح الإلكتروني الحل الأمثل لتحسين الكفاءة العامة للحكومة، وقضية تقليل النفقات، في حين أنّ نظام الـ«المواطن الإلكتروني» (e-citizen) هو الحل الذي يهدف إلى تقديم الخدمات إلى المواطن بطريقة سريعة وموثوقة وسهلة الفهم والاستخدام. وتمثّل الأعمال الإلكترونية حلاً إضافياً، ضمن مجتمع الأعمال، لأنّ القطاع الخاص مرتبط بهذه العملية جراء العلاقات التي تجمعه مع مختلف الوزارات والهيئات العامة. أما بالنسبة إلى الركيزة الرابعة، فإنّ المجتمع الإلكتروني هو الحل الذي يعنى بتحقيق اللامركزية الإدارية، ويتماشى معها. وهو بدوره سيعزز التنمية الإقليمية ويرفع مستوى المعيشة في المجتمع، ويدعم المواطنين المتضررين سواء من ظروف المكان أو التعليم أو الظروف الاقتصادية الصعبة.
تعد طريقة «معالجة البيانات الإلكترونية» (EDP) نظاماً ممتازاً مستخدماً في العديد من المؤسسات العامة، ولا سيما تلك الممكننة. ويمكن استعمالها في الخدمات الحكومية اللامركزية واللاحصرية منها، والتوسع السريع بها، بالإضافة إلى أنها أحد أكثر الأنظمة وضوحاً، جعل منها توجهاً شائعاً للإدارة العامة في الوقت الحالي. وباعتقادي أنها أداة تقنية مناسبة للاستخدام في المؤسسات العامة اللبنانية، وستساعد في تنفيذ الخطة الوطنية الإلكترونية. وهناك نظام آخر تحت اسم «النظام الاجتماعي التقني» (STS) الذي يعمل على مستوى المنظومة، مما سيساعد على إبقاء الإدارات العامة في أنظمة العمل مواكبة لتطورات التكنولوجيا. وبرأيي فإنّ استخدام هذا النظام سيحسن من أداء المؤسسات العامة اللبنانية، فعندما يتعلق الأمر بإدارة الموارد البشرية في الإدارات العامة، فإنّ إدارة المعلومات أمر مهم جداً، فهي التي ستحدد مزايا وقيود المعلومات. وقد فشل موظفو الدولة في التكيّف مع تكنولوجيا الكمبيوتر الجديدة، على عكس القطاع الخاص. لذا أعتقد أن الأهم هو أن يكون لبنان قادراً على تكييف مؤسساته وإداراته العامة، لمواكبة هذه التكنولوجيا.
وتأتي الاستعانة بالمصادر الخارجية حلّاً آخر لمشروع الحكومة الإلكترونية اللبنانية، فالعوامل الخارجية كالخدمات التكنولوجية وسوق تكنولوجيا المعلومات والبيئة التنظيمية ستعكس تأثيراً ايجابياً على العوامل الداخلية، وستؤدي بالتالي إلى نتائج إيجابية وأداء ممتاز. فعندما يتعلق الأمر بالأداء، فإنّ الاستعانة بمصادر خارجية للإدارة اللبنانية ستحقّق نتائج ممتازة.

خاتمة

قد تكون المشكلة واضحة جداً، لكن حلّها أكثر وضوحاً، نظراً لتوفر أدوات التطوير والتغيير بالإضافة إلى أنّ الخطة الالكترونية الوطنية متاحة أيضاً. وما نحتاج اليه هو التركيز على عملية التنفيذ وتسييرها وإجراءاتها. فكلّ ما يلزمها من مواد متوفرة باعتماد الخطة الإلكترونية الوطنية، والركائز الأربع ونظام «معالجة البيانات الإلكتروني» و«النظام الاجتماعي التقني»، بالإضافة إلى التقنيات الأخرى. وسوف تؤثر هذه التقنيات على سياسات التشغيل والممارسات التي ستخلق بيئة عمل إيجابية، في حين أنّ الإدارات العامة ستتفاعل مع بعض التوقعات المحتملة التي ستؤدي إلى تحقيق الجودة في الحياة العملية.

* باحث ومستشار في السياسات العامة، مؤسس «المبادرة المدنية للإصلاح العام في لبنان» (CIPRIL)