الشباب العربي هو عماد الثورات العربية ومحركها الأساسي. كان هذا الأمر واضحاً في ثورتي مصر وتونس، واستمر في بقية الثورات العربية. كان ذلك إعلان ولادة تيارٍ جديد ثائر على السلطة والمعارضة التقليدية معاً. تيارٌ يحمل فكراً شبابياً متجدداً، حان الوقت ليقود عملية بناء الدولة الحديثة التي طال انتظارها في العالم العربي. وبالتالي ليس مقبولاً أن يتراجع قادة الثورة الشباب لمصلحة من هَرِموا فكرياً وسياسياً، والمطلوب أن ينخرطوا في مواجهة الاستحقاقات والتحديات التي تعقب إسقاط الأنظمة المستبدة. قامت الثورات العربية طلباً للحرية والعدالة والكرامة، وعليه فإنّ أوّل استحقاق يواجه من قادوا هذه الثورات هو إقامة نظام ديموقراطي تعددي يضمن حقوق جميع المواطنين. ويبدو أنّ الفرصة مؤاتية، أكثر من أي وقت مضى، لإنجاز التحوّل باتجاه نظام ديموقراطي عربي. فالثوار الجدد لا تطغى عليهم الرؤية الأيديولوجية الضيقة، وهم بعد وراثة تجارب مريرة أوصلت بلدانهم إلى الحضيض بفعل الاستبداد والديكتاتورية، باتوا موقنين بضرورة التحوّل من حكم الفرد إلى دولة المؤسسات.
ينتقل النظام السياسي العربي الجديد بعد الثورات من «هيمنة الأيديولوجيا» إلى «احتواء الأيديولوجيا»، وهو ما يعني إقامة نظام سياسي هويته الديموقراطية التعددية، لا تهيمن عليه أيديولوجيا قومية أو يسارية أو دينية، منعاً لإعادة إنتاج الاستبداد. وتتعايش تلك الأيديولوجيات والأفكار داخل هذا النظام في صراع ديموقراطي ضمن المؤسسات، وتحت سقف الدستور. ومسؤولية الثوار الشباب هي قيادة التحوّل إلى هذا النظام التعددي، وإفشال كل محاولة هيمنة أيديولوجية من أي طرف.
بعد إنتاج نظام ديموقراطي، يبرز التحدي المتمثل في إعادة تشكيل الحياة السياسية وانخراط الشباب في العمل السياسي والحزبي. وهنا تستكمل الثورة على الأحزاب والتنظيمات التي مثلت أجنحة غير رسمية للأنظمة المستبدة، جرى استخدامها لأغراض تجميلية، وأيضاً على تلك الأحزاب المهترئة التي فشلت في تقديم مشاريع جدية، وبقيت ديناصوراتها تتصدر المشهد.
أمام الشباب خيار الانخراط في هذه الأحزاب وتغييرها جذرياً من الداخل، فهم رغم اتفاقهم على الثورة وأهدافها يختلفون في خلفياتهم وانتماءاتهم الفكرية، ويمكنهم الانتشار في الأحزاب القائمة وخلق روح جديدة فيها تتواكب مع المتغيرات. لكن ربما يتمثل الخيار الأفضل في إنشاء أحزاب جديدة بأفكار حديثة تخرج من الأحادية والجمود الأيديولوجي إلى إنتاج فكر شبابي يستند إلى العروبة والإسلام كثقافة حاضنة، ويرى في الحريات العامة والعدالة الاجتماعية والتحديث أهدافاً يقدم من أجلها برامج عمل قابلة للتطبيق.
وتبقى المسألة الاقتصادية تحدياً كبيراً لشباب الثورة. فقد قاد الثورة شبابٌ ينتمون في غالبيتهم إلى الطبقة الوسطى، رافعين شعارات الحرية والديموقراطية،بينما انحاز كثير من أبناء الطبقة المسحوقة في المجتمعات العربية إلى الاستقرار لا إلى الثورة، معتبرين أنّ الخبز لا الحرية أولويتهم. وبالتالي، بات ضرورياً إنشاء علاقة قوية عبر الاحتكاك المباشر بين شباب الثورة وأبناء العشوائيات ومدن الصفيح، لطمأنتهم على المستقبل وتبني قضيتهم وتوضيح إيجابية الثورة في تحسين أوضاعهم المعيشية.
أورثت الأنظمة الفاسدة شباب الثورة عبئاً اقتصادياً ثقيلاً، ما يحتم على الثوار مواجهة قضايا الفساد وسوء توزيع الثروة والديون على نحو علمي منظّم. وهنا تصبح الحاجة ماسة لتبني مشروع اقتصادي/ اجتماعي يرفع شعار العدالة الاجتماعية، ويؤسس لاقتصاد قائم على الإنتاج يمحو الويلات التي جرها اقتصاد الاستهلاك، ويستفيد من تجارب دول كالبرازيل وتركيا في دفع عجلة الاقتصاد والتخلص من الديون المتراكمة، ويحرص على كنس آثار النيوليبرالية المتوحشة ورفض وصفات البنك الدولي المدمرة والقروض المدفوعة برغبات الهيمنة السياسية الغربية.
والهيمنة السياسية والاقتصادية الغربية هي أحد التحديات التي تواجه الثورات وشبابها. فالتدخلات الخارجية لا تتوقف، والعقل الإمبريالي لا يسلم بخسارته مناطق نفوذه في العالم العربي، فيعمل مع بعض القوى الرجعية العربية وفلول الأنظمة البائدة على احتواء الثورات أو القيام بثورات مضادة تؤمن مصالحه الاستراتيجية التي لا يأتمن عليها إلا الأنظمة الخاضعة للسقف الذي يحدده.
الثورة التي تحرر أفراد المجتمع من نير الظلم والاستبداد، تُسْتَكمل بتحرير قرار المجتمع والدولة من سيطرة الدول الكبرى، وترفض الاستعباد الخارجي كما رفضت الاستعباد الداخلي، وتصر على استقلالية كاملة لقرارها السياسي. الثوار الشباب يعرفون أنّ بلدانهم وإن لم تكن محتلة عسكرياً فإنّها كانت خاضعة سياسياً للرغبات الأميركية، وأنّ عليهم أن يحرروا القرار السياسي من تلك الهيمنة، ويبنوا دولتهم المنشودة على أساس المصلحة الوطنية ورفض التفريط بسيادة البلد.
إنّ الدولة العربية الحديثة، التي ينشد الثوار بناءها، تفتح الباب لعلاقات مميزة مع كلّ بلدان العالم على أساس المصالح المشتركة واحترام السيادة الوطنية، ولا تحصر علاقاتها الدولية بعلاقة تبعية مع القوة العظمى. إنّها دولة قائمة بذاتها، لها وزن ودور في محيطها والعالم، وليست مجرد أداة تنفيذية لسياسات يضعها السيد الغربي. وهي تتحرك وفق المصالح الاستراتيجية العربية، ولا تفرط بالحقوق العربية، وترى أن قضية فلسطين قضيتها على نحو حاسم وأساسي، وترفض العنجهية الصهيونية وتواجهها بحزم، وتنظّم اتفاقها واختلافها مع القوى الإقليمية القائمة وفقاً للمصلحة العربية.
هي فرصة تاريخية أمام العرب لإعادة الاعتبار لمشروع النهضة العربي عبر فكر شبابي جديد، يذهب باتجاه التحديث، منطلقاً من خلفية عربية إسلامية تعزز الهوية والانتماء، دون أن تعرقل التقدم والتطوير. الفرصة تتجسد في تيار شبابي ثائر على كلّ ما هو مهترئ وفاسد، ومتطلع إلى مستقبل يصنعه هو عبر ثورة تستمر حتى النهوض العربي الشامل.
* كاتب سعودي