هل شاركت الأحزاب الشيوعية والقوى الماركسية والماركسيون في الثورات التي بدأت مع تونس وعمت، ولا تزال، الوطن العربي؟هذا سؤال مهم، وهو مطروح في كل النقاشات، أو هو مضمر أحياناً. والحكم الأوّلي يتحدد في أنْ ليس من دور للأحزاب الشيوعية والقوى الماركسية الأخرى في هذه الثورات، أو أنّ الدور الذي كان لبعض القوى كان هامشياً. ولا أشك في أنّ كلّ هذه الثورات كانت عفوية، حتى الثورة المصرية التي بدأت بدعوة «رسمية» على الفايسبوك وفي الإعلام. وبالتالي لا يمكن القول إنّ قوّة منظمة، أيّة قوّة منظمة، كانت خلفها. ربما سوى النشاط الذي مورس من خلال الإنترنت من جانب الشباب، وكان يتعلق بالشعارات الى حد ما، لكن أكثر في تنظيم الحراك.
ولكي لا يشعر أي ماركسي بأنّه ظُلم مما سوف أتحدث عنه، أي مشاركة القوى الماركسية، سأشير الى المشاركين، مع ملاحظة مسبقة تتمثل في أنّ الشباب غير المنظَّم في أحزاب، الذي أصبح مشاركاً في الصراع دون خلفية فكرية سياسية، هو الذي أدّى الدور الأهم، والأساس في كل هذه الثورات الى الآن. وبالتالي، سيكون واضحاً أنّ أيّاً من الأحزاب الماركسية لم يستطع أداء دور المنظم والفاعل فيها، والى الآن كذلك، لكن هناك من شارك في الثورات، وهناك من رفض المشاركة، وهناك كذلك من لم يفهم ما جرى.
في تونس، شارك حزب العمال الشيوعي من اللحظات الأولى، كما شاركت «مجموعات» وأفراد ماركسيون، سواء من خلال الاتحاد التونسي للشغل، أو من خارجه. في مصر كان الحزب الشيوعي المصري من الداعين إلى إضراب «25 يناير»، وكذلك الاشتراكيون الثوريون، وشارك طيف واسع من الماركسيين في الحشود. في ليبيا، ليس لدي معلومات عن وجود ماركسيين. وفي اليمن كان الحزب الاشتراكي مشاركاً من خلال اللقاء المشترك الذي يمثل أحزاب المعارضة. أما في سوريا، فقد أيّد تجمع اليسار الماركسي الانتفاضة، واتخذ فصيل وحدة الشيوعيين السوريين موقفاً إيجابياً منها، ما لبث أن تشوش، لكنّ شباب هذا الأخير، وشباباً من الأحزاب الشيوعية المشاركة في السلطة، مع طيف من الشباب الماركسي، تشارك جميعها في الانتفاضة. في الأردن أيضاً، الشباب المتمرد على القيادات الحزبية أو الهارب منها يشارك في الحراك. وهو الوضع نفسه في العراق، مع وجود تيار يساري مشارك. كذلك تشارك بعض القوى الماركسية في الحراك القائم.
وسنلمس أنّ شباب الأحزاب والقوى الماركسية، بغض النظر عن موقف هذه الأحزاب والقوى، يميل الى المشاركة، وربما يشارك بفاعلية. وتكون النتيجة في الغالب هي ترك الأحزاب حين يكون موقفها مخالفاً لصيرورة الثورة أو متردداً حيالها، كما أنّ الملاحظ هو أنّ مواقف الأحزاب الشيوعية (في ما عدا المصري) سلبية إزاء تلك الثورات، وخصوصاً أنّ بعضها هو جزء من النظم «الرأسمالية» (المافياوية) القائمة، مثل حزب التقدم والاشتراكية في المغرب، وحركة التجديد في تونس، والحزبين الشيوعيين في سوريا، والى حد معين حزب الشعب الفلسطيني والحزب الشيوعي العراقي (إذ كانا مشاركين، الى فترة قريبة).
وعلى ضوء كل ذلك يمكن أن نتناول رؤية تلك الأحزاب قبل الثورات وموقفها منها، وطبيعة مشاركة بعضها فيها، ومن ثم البحث في ممكنات دور ضروري للماركسية والعمال في الثورة الراهنة.
ما يمكن قوله أولاً، هو أنّ توّقع حدوث هذه الثورات لم يكن قائماً لدى الأحزاب جميعاً (كما أظن)، وربما كان هناك شعور بذلك لدى القليل من أفرادها. وفي أساس ذلك غياب التحليل الاقتصادي الطبقي، والتركيز على «المستوى السياسي»، أي الموقف من النظام ومن سياساته. ولا شك في أنّ الموقف من النظم أمر ضروري، لكن ليس ماركسياً من لا ينطلق من الأساس الطبقي لتلك النظم، والنمط الاقتصادي الذي تمثّله. وبالتالي سيكون النضال السياسي هو «قمة» أشكال النضال الاقتصادية والمطلبية والأيديولوجية لا الوحيد، وخصوصاً أنّه يتركز على شكل السلطة، الدكتاتوري، لا على جوهرها الطبقي. هذا الوضع كان يقود حتماً الى عدم رؤية الطبقات، والعمال والفلاحين الفقراء خصوصاً. تصبح «العلاقة» بين هذه الأحزاب والسلطة. وهي إما علاقة صراع من أجل الديموقراطية، أو علاقة دعم من أجل «محاربة الإمبريالية»، أو علاقة توافق ودعوة الى الإصلاح السياسي، وربما الاقتصادي.
لذلك غابت الطبقات الشعبية عن منظور الأحزاب والقوى الماركسية، ومن تناولها تناولها من موقع «اقتصادي»، دون استخلاصات سياسية ضرورية. بمعنى أنّ فصلاً عميقاً كان يقوم بين «الفهم الاقتصادي» والاستنتاج السياسي. هذا الأخير كان يميل الى الإصلاح أو التكيّف مع النظم (في سوريا والمغرب مثلاً). ومن ثم لم يكن يُلحظ تراكم الأزمة لدى هذه الطبقات، ولم يجرِ الانتباه الى أنّ احتقاناً يصل إلى حدّ التفجر بات قائماً. وبالتالي كان من الطبيعي ألا تكون هناك رؤية لدور الأحزاب حال انفجار الوضع الطبقي. وأصلاً، لم يجرِ توقّع احتمال كهذا. أكثر من ذلك، أصبح الموقف «العام» لدى كثير من الأحزاب والقوى الماركسية يقول بـ«خنوع» و«استسلام» الشعب، وأصبح الشباب رمز العبثية والهروب من السياسة، والإغراق في الفردية والذاتية، رغم أنّ البعض كان يحمّل النظم الاستبدادية مسؤولية ذلك. والمسألة هنا تمثلت في أنّ هذا الشباب لم يكن كذلك، وإن بدا عبثياً ومغرقاً في الذاتية، أو حتى «أصولياً»، إذ كان كل ذلك موقفاً مما يجري، أي من انسداد الأفق وغياب الحرية.
بمعنى أنّ انشداد الأحزاب والقوى الماركسية الى «السياسة»، بما هي نظم مستبدة، جعلها لا تلحظ حركة عميقة كانت تخترق الواقع، وتؤسس لانفجار هائل بدأ مع الثورة التونسية، ولا يزال يتوسع. وأيضاً ظل هناك من يعتقد بأنّ بلده بمعزل عن هذا الانفجار، ولا يزال هناك من يعتقد ذلك، أو لا يزال غير مدرك ما جرى، لذلك بقي يردد خطابه البالي، خطاب «الحرية والديموقراطية». أقول ذلك ليس لأنّ مطلب الحرية والديموقراطية خاطئ، بل أشير الى طبيعة الخطاب «الديموقراطي» ذاك، الذي انبنى على وهم. وهم الفصل بين شكل النظام السياسي وجوهره الطبقي، ووهم الفصل بين السياسة والاقتصاد. وهو الأمر الذي يبقي تلك الأحزاب والقوى بعيدة عن فهم ما جرى، وما هو ضروري في الواقع الآن. وأقصد أنّ تغيير الشكل السياسي يفترض تغيير النمط الاقتصادي ذاته، وأنّه ليس من الممكن أن تتوقف الثورات قبل الوصول الى تحقيق هذا التغيير العميق في النمط الاقتصادي.
إنّ التركيز على السياسي كان يفضي الى الإحباط، نتيجة عدم تفاعل الطبقات الشعبية مع مطلب الديموقراطية، رغم أنّه «يخدم كلّ المجتمع»، حسب ما كان يعشّش في وعي هؤلاء. ولا شك في أنّه يخدم تطور المجتمع، لكنْ هناك فارق كبير بين أن يعي «المثقف» ذلك، وأن تتحسسه الطبقات الشعبية التي تتحدد أولويتها في مقدرتها على العيش، وكل ما عدا ذلك، إما لا ضرورة له أو لا حق. فما هو جوهري هو المقدرة على العيش، ومن ثم تقبل تغيير النظم، وتقبل دولة ديموقراطية وعلمانية كذلك. وهذا الإحباط كان في أساس الأحكام الفظيعة على «الشعب».
والمتابع لنشاط كل الحركة الماركسية في الوطن العربي يلاحظ أنّ الأولوية التي حكمت نشاط معظمها (إذ إنّ بعضها لم يفعل ذلك أيضاً) هي الديموقراطية والنضال الديموقراطي، بالمعنى الليبرالي، إذ بدا نشاطها أقرب الى منظمات حقوق الإنسان منها إلى أحزاب ماركسية طبقية، تضمّن الديموقراطية في مشروع تغيير طبقي. وكان المنطق يقول إنّ تحقيق الديموقراطية هو أولاً، وكل شيء (وليس أولاً فقط)، وأنّه بعد ذلك يمكن أن يقدّم كل تيار تصوّره، وتسعى كل طبقة الى تحقيق مصالحها. طبعاً، في ذلك شكلية مفرطة هي نتاج سيادة المنطق الصوري ما قبل الماركسي. فالصراع هو أصلاً متعدد ولا يمكن تحديده في نقطة وتجاهل الكل، والأولية متغيرة ولا يمكن تأبيدها، ولهذا يحكم الهدف العام كلية النشاط: في شكله الاقتصادي المطلبي وفي شكله الأيديولوجي وفي شكله السياسي. واللحظة هي التي تحدد أولوية المطلبي أو الأيديولوجي أو السياسي، كلّ ذلك تحت رؤية تقوم على تحقيق تغيير الطبقة المسيطرة، ونظامها السياسي.
إنّ الأولوية كما مورست، أفضت الى أحادية جعلت الأحزاب والقوى الماركسية بعيدة عن «نبض» الشعب. وبذلك كان يتطور الاحتقان في وضع كانت فيه هذه الأحزاب والقوى تتلهى بـ«الديموقراطية»، من خلال مجموعة ضيقة من «النخب»، وفي سياق «ضرورة» فرضت التحالف مع قوى ليس ضرورياً التحالف معها، ومن الخطأ التحالف معها، أي الإسلاميين والليبراليين. ربما كان التنسيق الموضعي مفيداً من أجل الديموقراطية، لكن أكثر من ذلك كان مضراً، وهو يحمّل الأحزاب التي مارست ذلك عبئاً الى الآن.
إذاً، لقد فوجئت الأحزاب كلّها بالثورات. كانت عاجزة عن تحسس «روح» الشعب، ففاجأها من حيث لا تحتسب. بعضها اندمج منذ البدء، وبعضها شارك، وبعضها الآخر وقف ضد الشعب مع النظم. وفي البلدان التي لم تنفجر فيها الثورات على نحو شامل بعد، لا يزال الموقف سلبياً أو مشوشاً أو لا أدرياً. ولم تفكر الأحزاب الماركسية في تقويم ما جرى في البلدان الأخرى، من أجل وضع رؤية لدورها في حال انتقال العدوى الى بلدانها. وأصلاً لم تدرس وضع بلدانها الاقتصادي الطبقي لتلمس ممكنات الثورة. وفي كل الأحوال، ستبدو عاجزة عن ذلك، نتيجة «منطقها» غير الماركسي، الذي أبعدها عن التحليل المادي: التحليل الملموس للواقع الملموس. ولهذا أهملت الاقتصاد، وتجاهلت الطبقات، وحصرت كل اهتمامها بـ«الدولة»، أو السلطة.

مشكلات التكتيك في الثورات

هذا الوضع جعل دور البعض الذي شارك في الثورات مرتبكاً. في مصر شاركت الأحزاب الماركسية في إطار الجموع، وانساقت وراء التكتيك الذي فرضه الشباب (وكان يعاني مشكلات). فلم تبرز أهداف الطبقات المفقرة، ولم تركز على الوضع الاقتصادي (الأجور والبطالة والأرض) تحت حجة عدم السماح للإخوان بإبراز خطابهم. وربما أسهم بعضها في تحريك العمال في اللحظات الأخيرة (التي كانت حاسمة بكل المقاييس). ربما في تونس نجح حزب العمال الشيوعي بالارتقاء بالصراع ونقله الى حد المطالبة بإسقاط النظام، ومن ثم لا يزال يخوض الصراع من أجل فرض الدولة الديموقراطية. في سوريا، المشاركون لم يبدوا تميّزاً بعد، فهم مع الحراك دون تلمس مشكلاته، والمعوقات التي تجعل توسعه بطيئاً بعض الشيء، والأهداف العامة التي يجب أن تتوضح (حيث يسود شتات من الشعارات دون أهداف واضحة غير إسقاط النظام، وهو الشعار الذي لم يصبح الشعار المركزي بعد). في الأردن وفي المغرب والجزائر، لا يزال العمل الماركسي دون استراتيجية ورؤية. وفي مصر، ليس من رؤية لواقع الصراع الآن، بعد إسقاط مبارك وبقاء نظامه.
فأولاً، لقد تحقق تغيّر في مصر وتونس، لكن هناك اليمن وسوريا (وليبيا)، حيث الصراع لا يزال محتدماً. فما هو الدور الذي يجب أن يؤدّيه الماركسيون؟ وثانياً، في تونس ومصر، رغم طرد الرئيسين فيهما لم يحسم الصراع بعد، ولا تزال الطبقة الرأسمالية (بالتبعية للإمبريالية) تعمل على ترقيع نظامها التابع.
لكن يمكن ملاحظة مشكلات نظرية تحكم الماركسيين، كانت في أساس إشكالية دورهم وهي تمنع تبلور رؤية حقيقية لدورهم الراهن.
أولى تلك المشكلات مسألة النظرة الطبقية وانطلاقها من أنّ الصراع هو صراع طبقي، إذ نلمس أنّ فهم مسألة الانتقال من الاقتصادي الى السياسي، كما طُرحت في الماركسية، بات يعني تجاوز الطبقي، وتحويل الصراع الى صراع «سياسي» (أو سياسوي)، أي صراع بين أحزاب سياسية (وهي هنا تتمحور حول السياسة بمعناها المبتذل، أي المتعلق بالحدث السياسي، وبالسلطة السياسية) وبين السلطة بما هي أفراد يمارسون السياسة (السياسة الخارجية أو القمع الداخلي). ولذلك، يصبح الحزب ليس حزب طبقة بل أفراد يتجمعون حول برنامج وأيديولوجيا. ومن ثم يصبح الصراع هو صراع الحزب من أجل «افتكاك» الديموقراطية، أو صراعه ضد السلطة لتبعيتها للإمبريالية، وليس لأنّها سلطة طبقة تمارس الاستبداد وتتّبع السياسة الإمبريالية. هنا، يجري التركيز على المظهر وتجاهل الجوهر الطبقي. ولقد أشرت توّاً الى السبب في العجز عن فهم إمكانات الثورات، نتيجة عدم الاهتمام بالواقع الاقتصادي الطبقي، وهو الأمر الذي جعل أولويات الأحزاب تتحدد في الديموقراطية أو مناهضة الإمبريالية، وباتت تنظّم استناداً الى التوافق على ذلك، دون النظر الى الطبقات.
الحزب الماركسي هو حزب طبقي، أي إنّه يمثّل طبقة، وتقوم بناه التنظيمية على أكتافها، لا على تنظيم فئات وسطى (وإن كانت فئات وسطى تتنظّم انطلاقاً من اعتناقها الماركسية). هو حزب ينبني في الطبقة ولتحقيق مصالحها، وتنظيمها (إضافة الى النقابات وأشكال العمل الأخرى) من أجل انتصارها. لذلك، لا بد من إعادة النظر في فهم معنى الحزب، ودوره، وعلاقته بالعمال والفلاحين الفقراء، لكي نصل الى الصراع الطبقي، ويصبح الحزب جديراً بأن يقود هؤلاء.
ثانية المشكلات هي مسألة الثورة. كانت هذه الكلمة قد غابت عن معظم الماركسيين في الوطن العربي، وأحلّ محلها مفهوم التغيير الديموقراطي والسلمي، في مواجهة نظم استبدادية مافياوية. وكان جلّ النشاط السياسي يتمثّل في التوافق مع الأحزاب الليبرالية والإسلامية من أجل «افتكاك» الديموقراطية. ولقد أصبحت كلمة ثورة تحيل على ماضٍ رحل، وعقلية باتت قديمة، وتحجّر أيديولوجي. لذلك، لم يكن ممكناً الالتفات الى الاحتقان الطبقي، ولا تلّمس إمكان نشوب ثورة.
ولا شك في أنّ الانطلاق من ضرورة الثورة، يفرض سياسة جديدة، وبنية تنظيمية جديدة، ومنظور مختلف. لقد أصبح النضال الديموقراطي نضالاً مطلبياً، لا يهدف إلى تغيير النظم ولا يطمح الى ذلك، بل يهدف الى تغيير شكل النظم لكي تسمح بتعددية شكلية في واقعها لأنّها منفصلة عن المصالح وعن كل السياق الديموقراطي. وبالتالي باتت تتعلق بمقدرة نخب الفئات الوسطى على التعبير الجزئي عن ذاتها.
بينما كان الواقع يفرض الثورة، كانت الطبقات تنفجر نتيجة عجزها عن العيش، دون قيادة، ودون رؤية بديل ممكن. وإذا كان الشباب قد أدى دور «القائد» لتلك الثورات من خلال استخدام التقنيات الحديثة (الفايسبوك)، فإنّه لا يمتلك البديل، وهو في صراعه الراهن يتبلور، وربما يبلور بديلاً.
ثالثة المشكلات هي مسألة السلطة. فقد بدا أنّ مسألة الاستيلاء على السلطة غائبة عن الرؤية، والصورة التي يمكن أن تكون أقرب الى منطق الماركسيين هي الضغط الشعبي من أجل تحويل الدولة الى دولة ديموقراطية تفتح للتنافس الحرّ من خلال الانتخابات. ولذلك، سيكون هدف الثورات هو «الدولة الديموقراطية»، بينما لا بد من أن تتأسس استراتيجية الماركسيين على تطوير الثورة من أجل الوصول الى السلطة، لا الدخول في «لعبة» انتخابات مسيطَر عليها مسبقاً من مواقع القوة في السلطة القديمة والمال، وفي وضع رأسمالي مافياوي لا يسمح بديموقراطية حقيقية.
إنّ التأكيد على مسألة السلطة يفرض وضع استراتيجية مختلفة، تنطلق من أنّ الدولة الديموقراطية لا تتحقق إلا عبر تغيير النمط الاقتصادي، وأنّ المنطق العام يوصل الى أنّه لا إمكان لانتصار الثورة حقيقةً إلا من خلال سعي الماركسيين إلى الاستيلاء على السلطة، للتعبير عن مصالح العمال والفلاحين الفقراء وكل المفقرين.
الثورة تفرض منتهاها، ومنتهاها هو الاستيلاء على السلطة. كانت القوى الماركسية المشاركة في الثورات تبدو كأنّها لا تعرف ماذا تفعل مع كل هذه الحشود الشعبية، ولم تفكّر لحظة في كيفية توسيع الحراك، وإدخال العمال والفلاحين الفقراء كطبقة في الثورة، وكيف تستميل الفلاحين، والجيش. ومن ثم كيف تقود كل هؤلاء الى مراكز السلطة للسيطرة عليها وفرض بديلها.
على كل، إنّنا في بداية طريق الثورة، والصراع قد بدأ للتو، ولا بد من أن تستمر الثورة الى أن يفرض البديل الذي يحل مشكلات الطبقات المفقرة والمجتمع عموماً.

تكتيك الماركسية الآن

لم تزل الثورة في بداياتها، رغم «انتصارها» في بعض البلدان، واستمرار نشاطها في أخرى. وهناك حراك متفاوت في معظم البلدان التي لم يتحوّل حراكها الى ثورة، ولا شك في أنّها ستطاول السعودية حتى، وبعض بلدان الخليج، وستصل الى السودان وموريتانيا، وبالتالي لن يبقى من هو في منأى عنها.
والسؤال المطروح، على ضوء كل الملاحظات السابقة، يتحدد في التكتيك الضروري في الثورة، الذي يمكن أن يصاغ على ضوء البحث الجاد في واقعها الآن، واحتمالات تطورها. والمسألة المهمة هنا هي تحديد التكتيك في ثلاثة مستويات من الثورة. المستوى الأول هو تلك البلدان التي حققت مرحلة أولى (تونس ومصر)، والمستوى الثاني هو البلدان التي لا يزال الطور الأول لم يتحقق رغم مرور أشهر على الثورة (اليمن، ليبيا، سوريا)، والمستوى الثالث يتعلق بالبلدان التي بدأ الحراك فيها، لكنّه لم يصل الى مرحلة الثورة (المغرب، الجزائر، العراق، عمان)، أو تلك التي لم يبدأ فيها الحراك بعد (السعودية، السودان، موريتانيا).
المشكلة التي لا بد من التوقف عندها قبل البحث في التكتيك الضروري تتمثل في وجود أو عدم وجود أحزاب وقوى ماركسية تشارك في الثورات. إنّ الغياب أو الوجود الهامشي للأحزاب الماركسية، وغياب الرؤية الواضحة للواقع يفرضان العمل على نحو مزدوج، من أجل تطوير الثورات من جهة، وبناء الحزب القادر على قيادة الصراع الطبقي من جهة أخرى. لا تتعلق المسألة هنا بخطأ في التكتيك فقط، بل في هزال أو غياب القوى الماركسية، ولا شك في أنّ هذا النهوض الثوري الذي أفضى الى اندفاع الطبقات المفقرة الى خوض الصراع، والى انخراط الشباب منهم فيه، يفتح على أفق جديد يمكن أن يسمح ببناء حزب العمال والفلاحين الفقراء في الوطن العربي، لكن يحتاج ذلك الى وقفة من أجل إعادة صياغة الرؤية انطلاقاً من فهم الواقع، وأساساً إعادة صياغة الوعي لدى المنخرطين الجدد في النضال الطبقي. وهنا من الضروري التحديد بأنّنا نريد ماركسية تستطيع فهم الواقع والتأسيس على ممكناته، لا ماركسية معلّبة من مخلفات الماضي ومصوغة في إطار أيديولوجي هو نتاج زمن مضى.
بالتالي، في ظل الانخراط الثوري في النضال القائم، لا بد من الانطلاق من ماركسية «صحيحة»، هي تلك التي أضافها ماركس بالأساس، وأقصد المنهجية التي تسمح وحدها بوعي الواقع من منظور علمي، وتؤسس لاستراتيجية صحيحة، لكن ما يجب أن يكون واضحاً هو أنّ استمرار الثورات وتطوّرها، وبالتالي انتصارها، يتوقف على دور العمال والفلاحين الفقراء، فهم وحدهم من يستطيع تقديم بديل حقيقي. وهذا هو الأمر الأساس في تحديد دور الماركسية.
* كاتب عربي