هناك غموض يلف عدد النساء العاملات في لبنان، وأكثر من ذلك عدد النساء المعيلات للأُسَر. الحقيقة أنّه في لبنان، من الصعب أن تستطيع المرأة، أيّاً كان وضعها الديني والاجتماعي، المجاهرة بإعالتها للأسرة، وذلك حفاظاً على التقاليد والأعراف التي تضع الرجل اللبناني، عربياً كان أو فينيقياً، في صورة الرجل المعطاء، المزود، والحامي عند الضرورة. مئات السنين مرت، والعديد من النظم الاجتماعية اندثرت، ونوعية الحياة انقلبت رأساً على عقب، ولا يزال على النساء وضع أنفسهن في حضن العائلة، وهي العقبة الأساس في إقرار قانون حماية النساء من العنف المنزلي، وحق المرأة في منح الجنسية لأولادها وزوجها، وأخيراً في إقرار احوال شخصية مدنية، قد تسهم في إنصاف النساء من جهة الإرث والزواج والطلاق. المعركة الأشد هنا بالنسبة إلى اللبنانيين هي شرعية المحكمة الدولية وعدمها، وسلاح المقاومة وشرعيته. هناك انقسام على هوية البلد الأزلية، وأزمة وجودية تقلق اللبنانيين عند كل مناورة سياسية من هنا أو من هناك. في خضم كلّ ذلك، من البديهي أن تصبح أمور النساء وحقوقهن، موضوعاً يعزله ويتجاهله ويسكته صنّاع القرار والهويات السياسية. فالمرأة لا تملك أي سلطة في تغيير نصاب الأمور السياسية، ولا تملك قوة التأثير فيها. أكثر من ذلك، تبدو النساء اللبنانيات، مقارنةً بالدول المجاورة، في وضع افضل، وبالتالي يجري إسكاتهن وتخويف الجمعيات المشاغبة بموضوع سحب الامتيازات.
غياب النساء في التمثيل الوزاري لا يعد صدفة، كما استعمال المعارضة لهذا الغياب في جلسات الثقة لا يعدّ دعماً. والماضي القريب، سواء لتيارات الحكومة السياسية أو معارضتها الحالية، بالنسبة إلى إعطاء النساء حقوقهن، يبرهن صحة هذا الواقع. ففي تلك المعركة السياسية التي يجري فيها تقسيم البلاد سواء المناطق والإعلام والجامعات وغيرها، تواجه النساء محاولات لتجيير قضاياهن لصالح فئة دون الأخرى. فالنائبة استريدا جعجع، حين تدعم تظاهرة لإقرار قانون حماية النساء من العنف المنزلي (٢٩ ايار ٢٠١٠) وتتغاضى عن دعم قانون حق النساء في منح أولادهن الجنسية، تتخلى عن أخواتها من النساء اللبنانيات، وتساوم على أنوثتها لخرق القضية، كذلك هي تقوم بعزل قضايا النساء بعضها عن بعض، فيصبح العنف مثلاً، أهم من حق قانون منح الجنسية، وتصبح النساء المتأهلات بالأجانب متروكات للقدر. الوضع مماثل حين لا تبدي النائبة جيلبيرت زوين أي حركة او اهتمام بأخواتها المواطنات. ولكونها سليلة عائلة من السياسيين والنواب (ابنة نائب سابق وحفيدة نائب سابق) فهي تستفيد من الامتيازات العائلية والأمان اللذين تتمتع بهما، هي والقليلات في هذا البلد، غير عابئة بالأخريات، مستفيدة من عائلتها ومن «التمثيل النسائي» في آن واحد. ورغم حق النساء في المجلس النيابي في حرية العمل على القضايا التي يرونها مناسبة، عليهن نفي وبشدّة صفة التمثيل النسائي عنهن، الى أن يثبتن العكس. النساء في هذا البلد لم يحظين بتمثيل نسائي حقيقي منذ إعلان دولة لبنان الكبير، وهذا واقع، كلما اعترفنا به، سهل عملنا على ارض الواقع، وباتت صفة ادعاء التمثيل النسائي في الحكومة أكثر صعوبة، وبالتالي عملية السطو على الحركة النسائية والنسوية ومطالبهن اكثر صعوبة أيضاً.
إنّ انتظار إقرار الحماية من العنف المنزلي قد استنفد طاقة الجمعيات الأهلية النسائية، وخصوصاً جمعية «كفى»، التي كادت أن تكون كبش المحرقة من قبل الجمعيات الإسلامية، وغيرها ممن أطلقوا حملات وأنشطة مناهضة للقانون، قادتها دار الفتوى الإسلامية، على الأقل إعلامياً. وعلى الرغم من وجود الأمل الذي لا شفاء منه عند الجمعيات النسائية المطالبة بالقانون، يمثّل عدم إقراره صفعة حادة، وإقراراً بالواقع الذي يجبر النساء على أن يكنّ كبش المحرقة في هذا البلد. ويمثّل القانون تحدّياً لتاريخ الأحزاب والتيارات الطائفية التي استفحلت عنفاً وقتلاً في الحرب الأهلية. ولقد كانت فكرة تمريره حلماً لا يحمي النساء فقط، بل يفتح الباب أمام اقتراحات لقوانين أخرى تحمي المواطن/ة غير المحمية من الأحزاب والميليشيات. يستند القانون إلى مبدأ أنّ العنف «الحميم» وغير الحميم يعاقَب عليه، إذ يتحدى القانون تاريخ العنف غير المعاقب عليه، كما يعترف بحق النساء كمواطن وصيّ على نفسه، وقادر على المحاسبة عند الخطأ، وخصوصاً أفراد العائلة. إذاً يمهد القانون لفكرة أنّ المحاسبة تتخطى الانتماء، وإذا تخطت الصلة القرابة، فبالتأكيد تستطيع أن تتخطى فكرة الانتماء الطائفي. فالقانون الذي يستطيع أن يحمي الزوجة من الزوج وبالعكس، يستطيع أن يحمي المواطن من الطائفة، حين تقوم الطائفة بجرّه إلى عنف مع الآخر، والعكس تماماً.
إنّ التحركات التي أخافت الناشطات والناشطين والجمعيات الأهلية، مثيرة للاهتمام، وشراستها تدل على خوف السلطات الدينية من فقدان صلاحيتها. فالجمعيات النسائية والناشطات اللواتي تحرّكن ضد القانون، وخصوصاً في طرابلس وطريق الجديدة، يعشن في اكثر الأماكن فقراً وتوتراً في لبنان، كما أنّ وضعهن في الصفوف الأمامية (وتغييبهن في معارك اخرى) يدل على استيعاب التيارات المحافظة لواقع لم يعد ينفع فيه إقصاء النساء كلياً. وقد يمثّل دفع نساء إلى مناهضة حمايتهن من العنف للحركة النسائية العلمانية تحدّياً في كيفية التعاطي معه، وقد يعلّم الحركات السياسية الأخرى، درساً في التنوّع، والتعامل معه كمصدر قوة لا ضعف، كما أنّه دليل على استغلال النساء وأحقية إقرار القانون، فأن تريد بعض من النساء العيش تحت سلطة الدين، يبقى حقاً لا يجوز لأحد الاعتراض عليه، أما أن تقوم حفنة من النساء المحافظات بمنع الحماية عن الأخريات على طريقة «علي وعلى أعدائي»، فإنّ ذلك يؤكد، رغم مناهضتهن للقانون، أنّهن بالتحديد بأمسّ الحاجة اليه.
لم يصبّ مناهضو القانون جام غضبهم على الجمعيات وحسب، بل أعادوا التشكيك في برامجها، واتُّهمت بالعمالة والأجندات الأجنبية. إذاً، تعكس الاتهامات أزمة الهوية، وتُحمَّل النساء تبعاتها. كما أنّ إعادة التشكيك في عمل الجمعيات المناهضة للعنف يدل على انزعاج فائق مما تكشفه تلك البرامج. لا أظنّ أنّ تقديم قانون حماية النساء من العنف جاء عبثاً أو حباً بالظهور الإعلامي، أو تهديداً للسلم القومي، بل جاء بناءً على عمل دؤوب ومعرفة حقيقية للواقع اللبناني. وأهم ما تقوله السلطات الدينية التي أوقفت تمرير هذا القانون، على نحو غير مباشر، إنّ للدولة حدوداً تنتهي عند الطائفة، وإنّ اللبنانيين ليسوا لبنانيين فقط، بل هم «لبنانيون + طائفة». حين تقترح النساء قانوناً يعامل النساء اللبنانيات بمعزل عن طوائفهن فهذا يُعدّ ضرباً من الجنون والشجاعة.
لا شك في أنّ اقتراح قانون لحماية النساء من العنف يكدّر مزاج السلطات الدينية، والأحزاب، والموالاة والمعارضة، وكل جماعة تتفشى فيها الطائفية والمذهبية والعنصرية. فهو أولاً يتحدى تاريخهم الدموي، وثانياً يمنعهم من التبختر في العالم العربي والتباهي بوضع «نسائهم»، كذلك، يجبرهم على التفكير في مفهوم الأمن والأمان والقوى الأمنية كحام لا كرمز سلطة. يفتح القانون كوّة في المجتمع اللبناني، ويرش الملح على الجرح، أي العنف. فهنا لا أحد يريد الكلام عن العنف، ولا أحد يريد أن يسأل عما يجري وراء الأبواب المغلقة. لماذا تنتحر العاملات الأجنبيات؟ لماذا تحصل حوادث فردية مؤسفة؟ لماذا لا نستطيع إنتاج دولة وحركات سياسية قادرة على ممارسة القانون والارتقاء الى درجة من المواطنة الحقيقية؟ لماذا على النساء التزام الصمت وتحمّل العنف المنزلي والتخلي عن حقوقهن؟ لماذا تُمنع النساء من الحماية؟
* محررة موقع صوت النسوة
www.sawtalniswa.com