الثورة المصرية مستمرة، وتدخل مرحلة بعد مرحلة، وستنجح في تحقيق أهدافها النبيلة البسيطة في الحرية والعدالة والكرامة الإنسانية. لست خائفاً على المستقبل، لكنّني، كمعظم المصريين، قلق على مسيرة الثورة من أخطار تتهددها؛ أخطار داخلية وأخرى خارجية. يأتي في مقدمة الأخطار الداخلية استمرار الحكم العسكري، وتحوّل الثورة إلى انقلاب. والأخطار الخارجية، أهمها الحصار الدولي والضغط الإقليمي والإصرار على استمرار السياسة الخارجية لنظام مبارك كما هي، خاصة في مواجهة التحديات التي يفرضها الربيع العربي.هناك بالقطع أخطار أخرى مثل عامل الزمن، إذ يصعب في زمن وجيز تحقيق أهداف الثورة في إقامة نظام ديموقراطي يحقق دولة القانون واستقلال القضاء واحترام حقوق الإنسان والكرامة الإنسانية، ويحافظ على تماسك المجتمع بكل مكوناته.
كذلك، لن ننسى الفلتان الأمني وتحدّي بناء هيئة الشرطة لتكون في خدمة الوطن والمواطن والشعب، وليس أداة بيد النظام، أياً كان ذلك النظام. ومن الأخطار أيضاً، الانهيار الاقتصادي وخراب البلاد، وهروب المستثمرين. كذلك انقسام النخبة السياسية والوطنية والفكرية حول المرحلة الانتقالية، وكيفية إدارتها وتذبذب السياسة الخارجية المصرية، خاصة في المحيط العربي، في مواجهة دول عربية إقليمية لها مطامع وتبحث عن مصالحها ومستقبلها.
إذن هي أخطار سبعة:
1) تحوّل الثورة إلى انقلاب عسكري.
2) انقلاب النخبة، وزيادة وتيرة التطرف الثوري، كعادة الثورات.
3) الحصار الدولي والإقليمي لمنع انتشار التأثير الثوري.
4) الانهيار الاقتصادي، وثورة الفقراء والمهمشين والعاطلين (ثورة ضد الثورة).
5) الفلتان الأمني، وانتشار البلطجة في القاهرة الكبرى.
6) النفوذ الأميركي والصهيوني، والمحاولات المستمرة لاحتواء الثورة.
7) صعوبة تحقيق أهداف الثورة ومطالب الشعب في وقت معقول.
يمكن أن تتحوّل الثورة إلى انقلاب عسكري، لأسباب عديدة. فهناك من ينادي ببقاء المجلس الأعلى للقوات المسلحة في السلطة لسنة أو سنتين، وهذه هي المقدمة الطبيعية لاستمرار الحكم العسكري الذى عشنا في ظلاله لمدة ستين سنة. في تلك الفترة، انشغل الجيش بالسياسة، مما أدى إلى هزائم متكررة، وفشل في تحويل مصر إلى دولة ديموقراطية حديثة، وفي تحقيق العدالة الاجتماعية الحقيقية. وحدثت تقلبات خطيرة بسبب حكم الفرد، فرؤية عبد الناصر اختلفت عن رؤية السادات، وجاء مبارك ليخضع لسيطرة العائلة ورجال الأعمال الذين دمروا تاريخه العسكري، بعدما قاد القوات الجوية في حرب تشرين الأول 1973.
تريد هذه الثورة تطبيق المادة الثابتة في كلّ الدساتير العالمية، وهي أنّ السيادة للشعب، وتريد أن تعيد السلطة للشعب، لتكون الأمة مصدر السلطات جميعاً. لذلك فإنّ بقاء المجلس العسكري في السلطة، وعدم نقل السلطة للشعب عبر انتخابات حرّة نزيهة، هو أكبر الأخطار. يمكن مواجهة ذلك الخطر بإجراء الانتخابات البرلمانية في موعدها المقرر في الإعلان الدستوري، وتذليل كلّ الصعوبات التي تقف في وجه تحقيق ذلك الإنجاز الديموقراطي، بتحقيق التوافق بين القوى السياسية وتوفير الأمن الضروري لسلامة الانتخابات، وإصدار قانون انتخابات لمجلس الشعب والشورى يضمن التمثيل المتوازن لكل الفئات والأحزاب الحديثة والقديمة، وتمثيلاً معقولاً للمسيحيين والمرأة والشباب.
كذلك، يُعد تحقيق التوافق بين القوى السياسية على مختلف أطيافها من أهم التحديات التي تواجه ثورة مصر. لقد توحد الشعب المصري خلف النخبة التي تناست اختلافاتها لمدة عام تقريباً، لمواجهة نظام مبارك وسيناريو توريث الحكم لابنه جمال. استثمر هذا التوافق دعوة الدكتور محمد البرادعي إلى التغيير، وأعلن إنشاء «الجمعية الوطنية للتغيير». وتم بجهد كبير من الجميع، وفي مقدمتهم «الإخوان المسلمون»، الوصول إلى رقم مليون توقيع الكتروني أو ما يقاربه على بيان «معاً سنغيّر»، وكان أقصى أحلام الجمعية أمرين: فتح باب الترشيح لمنصب الرئاسة، ونزاهة الانتخابات.
تحقق خلال ستة أشهر ما لم تكن تحلم به النخبة، من إطلاق الحريات والحق في تأليف الأحزاب، والإعلام الحر، وانتزاع الحق في التظاهر السلمي والاعتصام في الميادين بجوار المطلبين السابقين. ومع كل ذلك، انقسمت النخبة بسبب اختلاف أوزانها الشعبية والسياسية، والخوف من عودة ديكتاتورية جديدة باسم الأغلبية الكاسحة، وليس على أسباب موضوعية. فليس هناك قضايا يتم مناقشتها بموضوعية، بل هو صراع سياسي تستخدم فيه كل الأدوات المالية، والتضليل الإعلامي، والتنابذ بالاتهامات دون دليل.
لمواجهة هذا الخطر دعا حزبا «الحرية العدالة» و«الوفد» إلى استمرار تحالف القوى الوطنية في صورة تحالف ديموقراطي ضم حتى الآن 28 حزباً. أنجز هذا التحالف وثيقة «القواعد الحاكمة لمسيرة الديموقراطية»، وهي قواعد عامة يسترشد بها أعضاء البرلمان القادم الذي قد تكون أغلبيته من هذا التحالف.
كذلك أنجز التحالف مشروعاً لقانون مجلس الشعب والشورى، قدّمه إلى السلطات التي تدير مصر، ويستعد أيضاً لوضع معايير اختيار أعضاء الجمعية التأسيسية التي ستصوغ الدستور الجديد،
خطورة انقسام النخبة أنّها تعطي رسائل خاطئة إلى المجلس العسكري بأنّه لا يوجد بديل قادر على تسلم السلطة بالانتخابات، وأخرى إلى الشعب الذي قد تقل ثقته بالمسيرة الديموقراطية وينصرف عنها. كما أنّها قد تخضع لظواهر هامشية لتصدر المشهد، وتتمثل بالثوريين الدائمين الذين لا يهدأون، ولا يكفّون عن رفع سقف مطالب الثورة، دون وجود خطة عمل لتحقيقها على الأرض، وهذا ما عانته كل الثورات التي أكل أبناؤها بعضهم بعضاً.
ومع الاستمرار في المطالب، ينسى الثوريون الأصل، وهو أن يتسلموا السلطة عبر الانتخابات ليحققوا ما يريده الشعب الذي يمثلون قطاعاً منه، ولا يحق لهم ادّعاء تمثيل الشعب دون انتخابات حرّة نزيهة.
كذلك، فإنّ الخطر المستمر الذي يواجه ثورة مصر وسيبقى معها لسنوات هو استفاقة القوى الكبرى والأقليمية، بعد صدمة المفاجأة. لم تتوقف تلك القوى عن محاولاتها وقف مسيرة الثورة، بإنفاق الملايين من الدولارات والريالات وكافة العملات، وشراء ذمم بعض الإعلاميين، وإنشاء القنوات الفضائية، وإصدار الصحف اليومية والمواقع الإلكترونية، بل وإنشاء الأحزاب السياسية، وشق صف الثوار.
الهدف الواضح لتلك المحاولات، التي مصيرها الفشل، هو حصار الثورة المصرية داخل مصر، وحصار مطالب الثورة في مجرد الإصلاح المتدرج فقط، وبذلك يعاد إنتاج نظام مبارك بطبعة جديدة، كما حدث من قبل عندما فشل النظام الملكي في تحقيق آمال المصريين في الحرية والديموقراطية والحياة الدستورية والعدالة الاجتماعية، فأزيح بانقلاب تحوّل إلى ثورة. ثورة عملت على تحقيق عدالة اجتماعية منقوصة من دون ديموقراطية أو حياة نيابية دستورية أو حتى احترام الحقوق الإنسانية، فكانت عهود التعذيب والاعتقالات والحروب والصدامات وتقييد الحريات السياسية والإعلامية، بل وحصار المجتمع نفسه وتأميم المؤسسات كلّها.
تستخدم القوى الخارجية المال لتغذي التطرف الثوري من أجل زرع كراهية الثورة في نفوس المصريين، وتمارس الضغوط الهائلة على المجلس العسكري للإبقاء على السياسة الخارجية كما هي دون تغيير. كذلك تضغط على الحكومة المؤقتة بالاعتمادات المالية ونزيف الاقتصاد للتمهيد لثورة مضادة.
تعتمد تلك القوى الدولية والإقليمية على الآلاف من النخب الفكرية والسياسية والإعلامية والثقافية والاقتصادية التي ركبت موجة الثورة، وتحاول الآن أن تشق الصف الوطني، وتسعى إلى إحداث انشقاق بين الشعب والجيش، وبين الشعب والقوى الثورية.
صمود المجلس العسكري، وتطهير حكومة شرف من وزراء مبارك، واعتماد تعويضات الشهداء والمصابين بسرعة، وإنجاز المحاكمات العادلة الناجزة وعلانيتها، وتحقيق الحد الأدنى من العدالة الاجتماعية برفع الحد الأدنى من الأجور وخفض الحد الأقصى للأجور الفلكية، وتطهير وزارة الداخلية وإعادة هيكلتها من جديد، هو الطريق لمواجهة القوى الخارجية وضغوطها، فضلاً عن نقل السلطة إلى حكومة منتخبة، وبرلمان يمثل الشعب، ورئيس جديد يختاره المصريون بحرية.
الانهيار الاقتصادي والفلتان الأمني من الأخطار التي لا ينبغي إغفالها، إلا أنّها نتيجة للأخطار السابقة، وعند مواجهة الأخطار الكبرى سنتمكن من الصمود الاقتصادي واستعادة الأمن.
التبعية للخارج تعني استمرار نظام مبارك، لأنّ سر بقائه كان في صمت الجيش وعدم تدخله، وقمع الشعب بعصا الأمن، والسند الأميركي الصهيوني الذي وجد في مبارك كنزاً استراتيجياً لتحقيق أهداف العدو الصهيوني، وامتداد نفوذه في الخليج وأفريقيا والشمال الأفريقي.
وأخطر ما يواجه الثورة هو فشل الحكومة المنتخبة في تحقيق أهداف الثورة في مدى زمني معقول، يجعل المصريين يثقون في قدرتهم على إنجاز تحوّل ديموقراطي ليس من أجل الديموقراطية، بل من أجل بناء مصر القوية الحرّة المستقلة التي تحقق لمواطنيها الأمن والخبز.
الأمن والخبز، الاستقرار والتنمية، الحرية والإنتاج، العدل والمساواة، القضاء المستقل والجيش الوطني الدرع الواقية للبلاد، كل تلك الآمال هي أسس دولة الحق والقانون، دولة الديموقراطية وحقوق الإنسان، دولة الحرية والعدالة الاجتماعية التي يسعى إليها المصريون جميعاً، وسيحققونها بإذن الله ورعايته.
* قيادي في جماعة الإخوان المسلمين في مصر