ما يجعل جريمة «هيروشيما» فريدة لا يقتصر على هولها وحجمها، وفكرة أن اميركا قد قرّرت، عن قصدٍ ودراسة، أن تبيد خلال لحظات عدداً من البشر يوازي ضحايا الحرب السورية في سنين خمس. هناك اطروحةٌ لا يمكن لمن يقرأ التاريخ تجاهلها تقول بأن «الأجيال الماضية» ترتكب، دائماً، أفعالاً فظيعة، وعنفاً، وقتلاً؛ وتكون هذه الجرائم، في حالات كثيرة، «تأسيسية» لحدودنا السياسية وكياننا الوطني ومكاننا في العالم، وجزءاً من تاريخنا لا يمكن تلافيه - ومهمة الأجيال الحالية هي في التعامل والتأقلم مع جرائم أجدادها.
البعض يعالج ذلك بالانكار وبتزييف التاريخ، والبعض الآخر بالاعتذار وبتلاوة فعل الندامة (ما دام الاعتراف لم تعد له نتائج عملية)، ولكن الجميع - تقريباً - يبرر عنفه تحت صيغة انّه كان «اضطرارياً»، لا خيار فيه، ودفاعا عن النفس: إمّا أنا أو هو، قتلته كي لا يقتلني، أبدته كي لا يبيدني...
في حالة هيروشيما، الأميركيون أنفسهم لا يدّعون بأنّهم كانوا في مواجهة خطرٍ وجودي، أو في حالة دفاع عن حياتهم، أو - حتى - أنّ القنبلة كانت الطريقة الوحيدة لدفع اليابان الى الاستسلام. الأميركيون الذين يدافعون عن الجريمة (وأكثرهم يدافع عنها وينشر - الى اليوم - كتابات تؤيدها وتبررها) يقولون بوضوح إنّ المسألة كانت «خياراً»، وكانت الخيار «الأفضل»، لأن اجتياح اليابان كان سيكلف ملايين القتلى، أي ما يفوق بكثيرٍ عدد ضحايا القنبلة (وسيكون الكثيرون منهم اميركيين). هنا الوحشية الحقيقية، وهنا الشرّ الذي لا يجد ما يماثله: أن يصير القتل الجماعي عملية عقلانية، حسابية. خياراً نفعياً. هذا معنى الالتقاء بين عقلية امبريالية، تخوض الحروب وتدمّر بلاداً بأكملها من أجل حسابات ومصالح، وبين تكنولوجيا تسمح بتسهيل الابادة. كانت اليابان، بعد سقوط المانيا ووقوعها تحت حصارٍ محكم، ستستنفد امكانات المقاومة خلال أشهر، والاتحاد السوفياتي كان أقرب لاجتياحها من اميركا. ولعلّ الحشود السوفياتية على حدود اليابان هي التي جعلت واشنطن تستعجل برمي القنبلة، لكي تضمن أن تستسلم اليابان لها قبل أن تقع تحت الاحتلال الروسي، وكإشارة للسوفيات بأنهم صاروا يمتلكون هذا السلاح الرهيب، ولا يجوز لموسكو أن تفكّر في تحديهم لسنوات مقبلة.
حجم الكارثة، والرمزية التي تحيط بها، يجعلاننا ننسى بسهولة معنى أن تواجه مدينة، بعمالها واطبائها وجنودها وأطفالها، انفجاراً يوازي 15 الف طنٍّ من الديناميت في لحظةٍ واحدة. هذه هي الزاوية التي يقدمها إلينا تحقيقٌ مطوّل، أعده الصحافي الأميركي جون هيرسي عام 1946 بعد لقائه عددأً من الناجين من هيروشيما، وأعادت نشره مجلة «ذا نيويوركر» لمناسبة الذكرى السبعين للمجزرة. معايشة الانفجار، من وجهة نظر ضحاياه، تدخلنا الى جحيمٍ حقيقية، كان مصير من قُتل في لحظاتها الأولى خيراً من مصير الآلاف الذين أحرقتهم الأشعة ولم تقتلهم، فساروا بلا هدىً بحثاً عن مساعدة، ليموتوا خلال ساعات أو أيام وسط آلام رهيبة؛ أو الذين نظروا مباشرة الى الانفجار لحظة سطوعه في السماء، فذابت وجوههم بالكامل؛ أو من حاصرته الحرائق التي التهمت المدينة اثر الهجوم (دمّر الانفجار الأساسي، فوراً، جزءاً محدوداً من هيروشيما، الا أن الحرائق انتشرت بفعل الكتل الملتهبة التي تساقطت على أنحائها، كالنيازك، من بقايا منازل وأشجار رفعها ضغط الانفجار الى السماء، ثم أنزلها كالمطر).
غير أن هناك بعداً في تحقيق هيرسي يتجاوز توصيف المأساة، التي يصعب أن يحيط بأهوالها العقل البشري، ويتعلّق بالشعب الياباني، وثقافته وتنظيمه وتعاضده، وتعامله مع الكارثة ومع آلام أفراده؛ وهو قد يوضح لنا كيف تمكن هذا الشعب من استيعاب الكارثة وتجاوزها. في لحظة الانفجار (التي لم يسبقها انذارٌ أو ظهور لطائرات في السماء) كان أحد الناجين يراقب جاره وهو يهدم منزله بيديه، لأنه كان يقع في طريق «خندقٍ مائي» هدفه حماية المدينة (هيروشيما تخترقها سبعة أنهار، ولأن الأميركيين كانوا يتفننون باحراق المدن اليابانية، بمنازلها وسقوفها الخشبية التي تنشر النيران بسرعة، فقد قرر الدفاع المدني - قبيل الهجوم النووي - أن يشق خنادق تقسم أحياء المدينة الى مربعات، تحيط بها المياه عند الحاجة، لعزل الحرائق وايقافها). كان يكفي أن تعلن المدينة حاجتها إلى تلميذات المدارس لحفر الخنادق حتى تخرج آلاف البنات اليابانيات، حالما تعلن الصافرة خلو الأجواء من الغارات، الى الشوارع لبدء العمل - ولأنهنّ كنّ في الخارج لحظة الانفجار، فقد قُتل أكثرهنّ على الفور.
اليابانيّون الذين لم يُصابوا بجروحٍ خطيرة كانوا، اذ يصادفون قوافل الهاربين المصدومين، المثقلين بحروقٍ فظيعة، يقتربون من مواطنيهم المحتضرين ويعتذرون منهم بخجلٍ، لأنهم لا يشاطرونهم آلامهم. حين رأى الدكتور ساساكي، وهو يصعد درج مستشفى الصليب الأحمر، نور القنبلة النووية يشعّ من النافذة أمامه، وموجة الانفجار توقعه أرضاً، كان رد فعله الغريزيّ أن يصرخ بنفسه «ساساكي، غامباري!» («ساساكي، كن شجاعاً»)؛ قبل أن يكتشف أنه الطبيب الوحيد الذي ما زال سليماً في المستشفى، وينصرف - على مدى أيام - لعلاج أكثر من عشرة آلاف مصاب تدفقوا عليه. أحد الذين نجوا من المحرقة كان ينقل المصابين، في قاربٍ نهري، من ضفةٍ الى أخرى لم يصل اليها الحريق. وحين عاد من احدى رحلاته المكوكية ليجد النار قد بدأت تلتهم الغابة التي تجمّع فيها المصابون، نادى على الأصحاء بينهم، ليتطوّع مباشرة عشرات الشبان، وينظموا - تلقائياً - فرقة قاومت الحريق لساعاتٍ، ومنعت النار من الوصول الى الجرحى العاجزين. وحين كان أحد الأصحاء يمرّ على الجرحى ليسقيهم ماءً، كانوا، وهم يعانون سكرات الموت، يجهدون لرفع اجسادهم وحني رؤوسهم، ليشكروه على لطفه.
العقلية ذاتها التي صنعت «هيروشيما» قد زارت بلادنا ايضاً، مع حصار العراق، الذي لا يتكلّم عنه اليوم أحدٌ ولا يسترجع ذكراه. بدلاً من القتل اللحظي بالنووي، قرّرت واشنطن، بحسابٍ باردٍ ايضاً، أن تقتل عدداً مشابهاً من العراقيين، ولكن على مدى سنوات من العزل والتجويع. «هيروشيما العراق» كان وراءها، هذه المرة، العديد من المشاركين: «اخوة» عرب راقبوا - ببرودة ايضاً - مجتمع العراق وهو يُحتضر، وساهموا في الجريمة ودافعوا عنها. هؤلاء لديهم الوقاحة اليوم ليشتكوا من حال المجتمع العراقي، ومن سير الأمور في البلد، كأنها ليست نتيجة لتجويعهم وافقارهم وتجهيلهم لجيلٍ كاملٍ من العراقيين؛ وكأننا - إن هم نسوا - سننسى ما فعلوه، وسنسامحهم عليه، ولن نحاسبهم بما يستحقّون حين تحين ساعة الانتقام.