الساعة الثانية ظهراً من يوم الجمعة 6 أيار في دمشق... كيف لصحافية أن تهدأ؟ صعدت في سيارة صفراء من صبحية مقاهي الشعلان. قلت ببراءة مواطن، لا صحافي، «باب شرقي». ثم حين مشينا، بعد ثانيتين بدأت تتسلل الصحافة إلى السيارة. كنت دائماً أتذكر نصائح الأصدقاء: «ضبّي لسانك بالسيارة، شوفيرية التاكسي مخابرات». كان حظي يومها أن السائق مخبر ومستعد للمغامرة.
علمتني يوميات السيارات الدمشقية الصفراء المزركشة بالألوان والأنوار والأزهار الاصطناعية والصور والقلادات، أنهم بشر من لحم ودم ولسان سوري، وأن بينهم والد شهيد وتلميذ الجامعة وشبيحاً ومندساً... كان رهاني على نية أحمد. فالسائق بطل دمشق من دون منازع. هو، كما هي المدينة، يصادف أن يكون من فلسطين وتأتي طبريا إلى السيارة، ويصادف أن يكون جولانياً، فينبض فيك مقاومة. يصادف أن يكون ابن الميدان أو مصياف أو السويداء. كانت خطيئتي وسذاجتي يومها أنّي رأيت في سائق تلك السيارة الصفراء أخاً ومواطناً وصديقاً وسورياً طيّباً، هو رأى فيّ صيداً يبحث عنه.
«رايقة اليوم مو؟»، فيرد السائق «لا والله ما في شي، بعدني جاي من المعضمية». هناك، استسلم المواطن، واستفاقت الحاسة الصحافية، «يعني فيك تاخدني عالمعضمية، مو؟». وخرجت من المغامرة بجمع شهادة عين وأذن وصور من وضع ريف دمشق بعد ظهر ذلك اليوم: السومرية، المعضمية، داريا، التل، حرستا، دوما، وختاماً عند الميدان، لقاء أربعة آلاف ليرة سورية، أي نحو 80 دولاراً.
في تلك «الجمعة»، استهجنت القدرة الهائلة التي رافقت رحلتنا، فقد مررنا على عشرات الحواجز بين جيش وأمن. ووصلنا إلى ساحة الغضب في عزّها في «التل». كانت تدرّجات الأمن والشبيحة والأهالي والمتظاهرين تفترش الشارع عارية؛ عصي وهتاف ودواليب مشتعلة وأجهزة. «غضب الأهالي»، كما قالها زياد الرحباني، ولم يتعرّض لنا احد. ثم مررنا على يسار شاحنات الجيش الكثيرة عند مدخل دوما، ولم يتعرض لنا أحد أيضاً. كانوا يأخذون الهوية، ويعيدونها، ونعبر بإعانة حجج يخترعها أحمد ويكذب على الحواجز. لم يذكر لأحد أن في سيارته عين صحافية.
انتهت الرحلة، وبفضل إمكاناته المتميزة، اتفقت مع احمد: «غداً إلى السويداء؟» وأخذت رقم هاتفه... بعد الجولة، كنا قد تعارفنا، ورأيت صورة ابنه الصغير على هاتفه. توقفنا واشترينا المياه والعصير، ومزحنا وتكلّمنا في كل شيء... ظننتنا أصدقاء، شعرت بأمان، أردت ان اذهب معه إلى السويداء في اليوم التالي، لكنه قرر أن يأخذني إلى الامن الجنائي.
في اليوم الثاني (7 أيار)، التقيت صباحاً بالروائية المعارضة سمر يزبك. كانت مقابلة «بوليسية» كثيراً. تتخفى وتعتمد السرية وتتلفت يميناً وشمالاً. أوهمتني بأن مجرّد الجلسة معها خطر امني... حينها صرّحت لي بأن هاتفها مراقب، وكذلك شخصها وبيتها، وأنها تتعرض للتهديد بابنتها. كان في قلق عينيها الزرقاوين، وجه الأمن السوري المخيف.
بعد اللقاء، هاتفت أحمد لكي نذهب إلى السويداء. ما إن ركبت سيارته حتى بان لنا حاجز امني مفاجئ في قلب العاصمة امام فندق فور سيزونز. كان هجيناً ان يستوقفنا، ثم سارع احمد إلى القول «هذه صحافية»، بعدما حجب تلك المعلومة عن كل الحواجز يوم الجمعة. هناك قلت «أكلناها». وفعلاً تبيّن لاحقاً أن الحاجز كان على شرفي وبالتنسيق مع السائق، الذي رفع تقريره مساء الجمعة وكُلّف بجلبي... الضابط الدرعاوي، وجدي، ورجاله كانوا بانتظاري.
دقائق من سؤال وجواب وبطاقات، أخذوا هاتفي وأصبحت في سيارتهم، وانطلقنا إلى باب مصلى، حيث فرع الأمن الجنائي، والتهمة: صحافية. أمسيت في المقعد الوسطي الخلفي، بين اربعة رجال من صمت. صمت يقاطعه هاتف الضابط: «نعم سيدنا، جايين». وهناك بدأ صراع علامات الاستفهام في عقلي، «ماذا سيحدث الآن؟ إلى اين نذهب؟».
وصلت إلى فرع الامن الجنائي، بمزيج من الحشرية والقلق والغضب والشوق في آن. هذا الفرع يختص بالدعارة والمخدرات إجمالاً، لكنه في مثل هذه الايام، يعيش ربيع ازدهار نشاطه لتطهير الشارع من المندسّين، ومنهم الصحافيون... فهو الفرع نفسه الذي احتجز «مثقفي» الميدان قبل أسابيع. وهو الفرع نفسه حيث كان «المندس الحمصي» معلّقاً بالمقلوب ليصبح لاحقاً بطلاً من ابطال «اعترافات الإرهابيين» على التلفزيون السوري الرسمي.
وجه الأمن الجنائي، الذي يستقبل الصحافة، مختلف. الضابط المكلّف بمجالستي تلميذ دكتوراه في العلوم الاجتماعية. منذ اللحظة الاولى، عوملت باحترام وتفهّم. كان لا بد أن يراني «المعلّم» كي يقرر مصيري، فانتظرنا. بمزيج من وقاحة وغضب وصمت وحزن، كنت اتعرّف اكثر إلى الضابطين المتناوبين على مجالستي، بينما ينسخان مقالاتي السابقة عن الإنترنت ليراها «سيدنا». المشكلة أن المقال الاخير كان من حمص وعنها...
صعوداً إلى مكتب المعلّم، تتألق الصور العملاقة على مدخل من زجاج أسود. خلف المكتب رجل سمين، يحمل نظارته ويطّلع على مقالاتي من خلفها.. إلى عناوين، آخرها «حمص: في الشارع...».
يطلق حكمه على مسمع ضيف في مكتبه وضابط وأنا: «اصطحبها إلى الفندق وخذ الحاسوب واكشف على الكاميرا وعد، لا ترخيص من وزارة الإعلام ليوضح ماهية عملها ولا المقالات تبيّن أنها مع البلد».
من مكتب العميد، عبوراً بآليات التبجيل للقائد وعشرات الرجال المتوزعين في المبنى وأمامه، ننطلق إلى غرفة الفندق: «علينا ان نجلب الحاسوب ونكشف عليه، بعدما أصبح الهاتف بعهدتنا، والكاميرا لاحقاً». هذه المرة استقللنا حافلة صغيرة. الضابط في المقعد الأمامي على اليمين، وأنا بين الشباب في الخلف، والآلية الأمنية معروفة عن بعد، وزحمة دمشق القديمة تلفّنا. عيون الناس تنظر إليك في تلك الشاحنة بمزيج من تعاطف وكره ملتبسين. لا شيء يدعو إلى الخجل، لكن تخجل من عيونهم، فأنت في عهدة الأمن: متهم.
إلى الحارة الضيّقة، ترجلت والضابط من الحافلة وسرنا باتجاه البيت القديم الذي كان يؤويني. لم يسمح لي الضابط بأن اسلّم على أصدقائي في الحي، لكنني سلّمت. كان سلاماً سريعاً ولم أقل شيئاً. حاولت أن اتمتم كلمة الحروف الثلاثة «امن». أكملنا إلى دار النحّات. لم يتركني أختلي في غرفتي في الفندق ـــــ البيت، أصرّ على أن آتي فقط بالحاسوب وبقي باب الغرفة مفتوحاً. دقائق، وأصبحنا في الحافلة مرة أخرى. وفي المسير والحديث يصبح الضابط صديقاً متعاطفاً مع موقفي.
كنت أسائله وأدينه، كأنه هو القرار الذي أوقفني. أحاكي رئيس الدولة ورئيس الجهاز ووزير الإعلام في وجهه، وهو كان يتعاطف معي اكثر ويبدي تفهّمه. للحظة ظننته هو الموقوف وأنا الضابط. عدنا، هناك استقررت في غرفة احتجازي. مكتب الضابط واسع، تزينه صور الرئيس ووالده وأخيه الراحل.. واحدة في «برواز» وكتب عليها: «قائد مسيرة الحزب والشعب»، وصورة أخرى في ساعة معلّقة في صدر المكتب، وصورة ثالثة للرئيس مع طفلته... وعلم حزب البعث. كنت أنظر إلى الصور المعلقة ولا أتعب، كأنني اتابع حواري معها. وقاحتي لم تأتني بعقاب. كنت أغضب، أطلب هاتفاً لأكلم والدي وأشرح له أنني «لم أمت»، وكان الضابط يرفض قائلاً «تعليمات علينا تطبيقها»، متمنياً لو كان بإمكانه إعانتي.
أبشع ما في الانتظار انك لا تعرف متى سيفرج عنك، والرجال يؤجلون سؤالك كل الوقت: «ساعتان على الأكثر وتنتهي الإجراءات»، «بعض الوقت ونرفع الإفادة»، «ليس الوقت بيدي». هكذا مضت ساعات العصر، ومن بعدها المساء. يدخل إلى المكتب ضابط ويخرج آخر، يدخل عنصر ويخرج آخر. وزّعت وجبات العشاء أمام عينيّ على الشباب المتعارف عليهم بلقب «شبيحة». أعاقر السجائر والمياه. عرض الضابط عليّ العشاء فرفضت. يسايرني فأجيب بوقاحة. أهدأ قليلاً. نتكلّم في السياسة ووضع الشارع والناس وإخفاق الأجهزة. كنت ألومه فيستمع دون أن يعاقب لساني السليط. سمّعني على حاسوبه صوت موال جوزيف صقر، «عندن بإسمي سبع ملفّات». كان طريفاً وواسع العقل. غريب أنه ضابط أمن.
عشت على أعصابي رحلة الهبّات. أهدأ، أستمع، أدخن، اتكلم، انظر إلى الصور، الساعة، ويجن جنوني. أفكر بأبي وأمي وأصدقائي وأخي في الخليج وأخي في اميركا. أفكر بما قد يدور في عقولهم، وفي قلقهم. أفكر بأمي التي ترتجف في بيتها ولا تعلم أين أصبحت. أنفجر بكاءً. تعود العصبية والشتيمة.
نظرت مرات عديدة إلى الاعلى حيث الرئيس أعاتبه... وقلت بصوت عال على مسمع الضابطين: «الله يعينك يا بشار الأسد على التخلّف اللي حاكم»، ولم يفعل لي شيئاً، كسرت المنفضة قطعاً صغيرة، ولم يفعل لي شيئاً. في هبة أعصاب أخرى، أمسكت قميصه ودفعته إلى الخلف بقوة، «هاجمته جسدياً»، ولم يحرّك ساكناً. سرقت هاتفي من جراره، استرده فقط، انتقدت الامن والإعلام والبعث و«سيدنا»، ولم يقم بأي رد فعل. لم أتذوق شرف الاعتقال، بقيت قيد «تدقيق أمني» وسهرت 24 ساعة متواصلة بين مكتبي الضابط والضابط الثاني.
انتظرت وانتظرت بين غضب وهدوء: إنها الرابعة فجراً، السادسة صباحاً. بدأت أبواق السيارات الصفراء تنادي مستديرة باب مصلى، وأنا أراقبها من نافذة مكتب الضابط. دون أكل، بلا نوم، ودون أن اعرف «ماذا سيحدث؟». إنها التاسعة، استفاقت الدوائر. حان وقت الظهر، أنقذني وزير الإعلام.



أي تغيير؟

قصة من قصص كثيرة في المدّ والجزر مع الأحداث السورية تحدث كل يوم مع كل من يكسر الممنوعات الصحافية والسياسية والحياتية. ثمة آلاف المعتقلين السوريين الذين يتلقون معاملة اقسى كثيراً من معاملة الصحافي اللبناني. ثمة مئات المفكرين والكتاب السوريين الذين قطف السجن سنواتهم. لا يمكن ان يعد هذا الموقف او ذاك مشهداً عاماً او حادثاً بطولياً. لا يجوز التعميم. هو نموذج عن ازمة الحرية في البلاد.
بين الاعتقالين الاول والثاني والترحيل والمنع، جلست في قاعة إعداد قانون الإعلام الجديد، ورأيت بأم عيني أن هناك مسعى حقيقياً لإحداث تغيير ما، لكن لم ألمس فاعليته. ثلاث مرّات قلت للجنة الإعلام إنني اتعرّض للمضايقة. تعاطفت معي، وحاولت أن تغيّر شيئاً ولم تستطع. إذا كان القرار الامني هذا وذاك أقوى من لجنة صناعة القانون، فأي تغيير سيحدث؟