لم أكن أتصوّر يوماً أن يجني عليّ أ. ف. تلك الجناية الممتعة (والمضيّعة للوقت أحياناً). فلقد فاجأني ذاتَ صبيحةٍ من شهر أيّار الماضي بإيميل منه، يعلن أنّه صار على الفايسبوك! أ.ف. مسؤولٌ عريقٌ في تنظيم سياسيّ عريق، وهو أكبرُ مني بعقدين أو أقلّ قليلاً. أيعقل أن يتجاوزني في التكنولوجيا السبيرنيطيقيّة؟ هلمّ، إذن، إلى الفايسبوك!كانت الانتفاضة السوريّة هي ما استولى على تفكيري أو كاد. فأخذتُ على نفسي أن أكتبَ عنها بشكلٍ شبه يوميّ، وأحيانًا ثلاثَ مرّات في اليوم أو أكثر. قد يكون ما أكتبه تعليقاً على مقالٍ قرأتُه، أو مشهدٍ رأيتُه في اعتصام، أو خبرٍ سمعتُه. ثم اكتشفتُ أمرين مذهلين، يتعلّقان بما أكتبه على الفايسبوك. الأول: ضرورةُ تكثيف الفكرة لكي تبقى ضمن عددٍ محدّدٍ من الأحرف (420)، إذ لا أحبّ أن يتجاوز «الستاتوس» حجمَ المستطيل المُعدّ له. والثاني: أنّ الحوار مع المعلّقين كثيراً ما بلور الفكرةَ الأصليّة وعَمّقها (وقد يَنْقضها)، على ما تبيّن الستاتوساتُ اللاحقة. وفي ظنّي أنّ الفايسبوك لم يؤثّر في الانتفاضات العربيّة وحدها، بل قد يمتدّ تأثيرُه إلى الكتابة العربيّة الجديدة في السياسة والأدب. لكنْ قد يكون لنا في هذا وقفةٌ أخرى لاحقاً.

■ ■ ■

لاحظتُ في أحد تعليقاتي الأولى، على صفحتي الجديدة، أنّ كثيرين ممّن سبق أن أيّدوا الانتفاضاتِ الشعبيّة في تونس ومصر واليمن وغيرها من الأقطار العربيّة، أحجموا عن تأييد الانتفاضة السوريّة. وعزوتُ ذلك إلى أنّ هؤلاء، في حقيقة الأمر، لم يؤيّدوا الشعوبَ في مصر وتونس واليمن وغيرها، بل عارضوا أنظمتَها المواليةَ للولايات المتحدة ــ وفي هذا فارقٌ كبير. فهؤلاء، كما يبدو، لم يكونوا، حقّاً، مع تطلّعاتِ تلك الشعوب إلى الحريّة والكرامةِ والخلاصِ من الفقر والفساد، بل كانوا، فقط، معادين لسياساتِ أنظمةِ بن عليّ ومبارك وعلي عبد الله صالح، المواليةِ لأميركا، والساكتةِ عن العدوّ الإسرائيليّ (أو المطبِّعةِ معه). فكأنّ النضالَ من أجل الحريّة داخل الأوطان، في عُرف ذوي المعايير المزدوجة هؤلاء، نقيصةٌ ومعرّةٌ ومدعاةٌ للشجب، في أسوإ الأحوال، أو لا يستحقّ التأييدَ والتهليلَ والمباركة مقارنةً بالنضال ضدّ الاحتلال الأجنبيّ، في أحسنها. لقد نسي ذوو المعايير المزدوجة، أو تناسوْا، أنّ الحريّة لا تتجزّأ، أو أنّها والتحرّرَ توأمان لا ينفصلان، أو وجهان لعملةٍ واحدةٍ اسمُها الكرامةُ الإنسانيّة. إنّ الشهيدَ والجريحَ والأسيرَ والمعتقلَ في ساح مكافحة الاستبداد الداخليّ (الأمنيّ والدينيّ والاجتماعيّ...) لا يقلّون إسهاماً في رفع شأن الإنسان والأمّة عن نظرائهم في ساحِ مقاومة الاحتلال الخارجيّ. أكثر من ذلك، وهو أمرٌ قديمٌ كنّا نظنّه من البدهيّات: إنّ النضال ضدّ الاحتلال الخارجيّ هو من أجل كرامة الفرد، لا المجتمعِ فحسب؛ بل لا كرامةَ لمجتمعٍ إذا انتفتْ كرامةُ الفرد. وما يساوي تلك التي كنّا نظنُّها بدهيّةً إنّما هو بدهيّةٌ أخرى: لا أولويّةَ للتحرّر من الاحتلال الخارجيّ على حريّة الفرد والمجتمع في الداخل. إنّ الأحرار الحقيقيين (والصفةُ هي من لزومِ ما لا يَلْزم، إذ لا أحرارَ حقيقيين وأحرارَ مزيّفين) يناضلون على جبهاتٍ متعدّدة، وإنْ غلب نوعٌ من النضال على نوعٍ آخر في حمأة المواجهة مع الاحتلال تارّةً ومع الاستبداد تارّةً أخرى: يناضلون ضدّ الاحتلال العسكريّ، والاقتصاديّ (عبر مقاطعة العدوّ وداعميه)، ويناضلون من أجل حريّة المرأة والمهمّشين ومن أجل حقوق الأقليّات، إلى آخره.
على أنّ الأسوأ في مواقف بعض ذوي المعايير المزدوجة، أنّهم نَزَعوا عن المنتفضين السوريين، الذين يُقدّر عددُهم اليوم بمئات الألوف (والأرجح بالملايين)، صفةَ «الشعب» وتبنّوْا أكثرَ مقولات النظام بؤساً، ألا وهي: أنّ المتظاهرين مضلَّلون مخدوعون، إنْ لم يكن سلفيين عرعوريين. وبمعنًى آخر، فإنّهم رفعوا الشعبَ المصريّ والشعبَ التونسيّ والشعبَ اليمنيّ... درجاتٍ فوق الشعب السوريّ، مع أنّهم (وأقصد ذوي المعايير المزدوجة) قوميّون عرب أو قوميّون سوريون! وبذلك عَيّنوا مفهومَهم للقوميّة تبعاً لمعايير النظام، لا معاييرِ الشعب السوريّ (أو قسمٍ معتبرٍ منه للإنصاف). وقد يزعمون أنّ أساسَ تأييدهم للنظام إنّما هو مواقفُه «الممانعة» (وهو مصطلحٌ فريدٌ ابتكره النظامُ تمييزاً من المقاومة على ما يبدو، ويحمل شيئاً من الدلع والدلال على طاولة التفاوض العتيدة مع العدوّ والولايات المتحدة). لكنّهم لم ينبسوا ببنت شفةٍ، في حدّ علمي، حين أَعلنتْ وزارةُ الخارجيّة السوريّة موافقة النظام على الدولة الفلسطينيّة «وعاصمتُها القدسُ الشرقيّة»، بما يعنيه ذلك، وإنْ مواربةً، من موافقةٍ رسميّةٍ سوريّةٍ على أن تكون القدسُ الغربيّةُ عاصمةً لدولة إسرائيل. تُرى، ألم يتهتّك شيءٌ من نسيج «الممانعة» في نظر أنصار الممانعة بعد ذلك الإعلان؟
الأسوأ، إنْ كان ثمّة أسوأُ ممّا ذكرنا، أنّ ذوي المعايير المزدوجة لم يَكْتفوا بخفض الشعب السوريّ ومطالبِه درجاتٍ عن نظرائه الشعوبِ العربيّةِ المنتفضةِ الأخرى، بل ارتدّوا على ثوراتِها هي نفسها، فإذا بها جميعها «من صنع الولايات المتحدة»، وإذا بها ارتدادٌ إلى زمن حكم مبارك وبن عليّ وصالح أو أشنع! وبدلاً من أن يعتبروا أنّ ما لم تنجزْه الانتفاضاتُ العربيّةُ حتى الآن أهدافٌ ينبغي تحقيقُها في سياق «السيرورة الثوريّة» (وهو تعبيرٌ لجلبير الأشقر)، فإنّهم اعتبروا أنّ تلك الثورات سعت، منذ ما قبل اندلاعها، إلى استبدال طاغيةٍ هرمٍ بطاغيةٍ أقلَّ هرماً، وإلى الحفاظ على المصالح الغربيّة والتطبيع مع العدو الصهيونيّ. لقد كان كثيرون من ذوي المعايير المزدوجة يَسْخرون من نظريّة المؤامرة (التي لها بعضُ الوجاهة بالتأكيد) كلّما صادفوا كلبيّين مشكِّكين في الانتفاضات العربيّة السابقة، فإذا بهذه النظريّة تكادُ أن تصير، بعد الانتفاضة السوريّة، دينَهم ومعبودَهم: فتناسوْا مثلاً أنّ الجماهيرَ المصريّةَ ما تزال تحتشدُ في ميدان التحرير للمناداة بتصحيح مسار الثورة باتجاه محاربة الفساد، ومحاكمةِ مبارك وعائلته، وإدانةِ قتلة المظاهرين، والحيلولةِ دون أن تَحْكمَ مصرَ الشريعةُ الإسلاميّة.
وبكلماتٍ قليلة، فإنّ الانتفاضة السوريّة قَلبتْ أطروحاتِ كثيرين من القوميّين في الوطن العربيّ رأساً على عقب. ولا بدّ من أن تدعونا أطروحاتُهم الجديدةُ، المدافعةُ عن النظام السوريّ، والمشكّكةُ في دوافع الانتفاضات العربيّة، إلى إحياء فكرة «العروبة الجديدة» (أو القوميّة الجديدة إنْ شئتم)، التي كتبنا عنها، نحن وآخرون، منذ سنين. إنّ أصحابَ المعايير المزدوجة، من الرفاق والرفقاء القوميّين، يُسهمون بمعاييرهم تلك في هلهلة فكرنا القوميّ والعودةِ به إلى حظيرة الأنظمة المستبدّة.

■ ■ ■

مع اشتداد عُود الانتفاضةِ السوريّة، انهالت عليها حملاتُ التشكيك في مواقفها الوطنيّة والقوميّة. وقد تركّز نقدُ المشكِّكين على نُقطٍ عدّة، أهمُّها: عدمُ توضيح الانتفاضة موقفَها من فلسطين والعدوّ الإسرائيليّ، ومن الولايات المتحدة وفرنسا (ولاسيّما بعد زيارة السفيريْن الأميركيّ والفرنسيّ إلى مدينة حماة)، ومن الأنظمة الرجعيّة العربيّة. وازداد نقدُ بعض أولئك المشكّكين مع تواتر أنباءٍ عن إحراق المنتفضين صورَ أمين عامّ حزب الله بسبب موقفه المؤيّد للنظام.
ليس الردُّ الجازمُ والحاسمُ على منتقدي مواقف الانتفاضة السوريّة من مسألة «الموقف القوميّ والوطنيّ» سهلاً، لا في «ستاتوس» واحدٍ ولا في عشرة. ويعود ذلك إلى أسبابٍ عدّةٍ، أهمُّها: 1) أنّ المعارضة السوريّة، ككلّ معارضات العالم وحركاته السياسيّة، ليست واحدةً؛ ففيها إلى جانب اليساريّ الوطنيّ (والأمثلة كثيرة)، والقوميّ الرافض للاستبداد (مثال الاتحاد الاشتراكيّ بقيادة حسن عبد العظيم)، من يَخْدم أجنداتٍ خارجيّةً (كعبد الحليم خدّام، ابنِ النظام وأحدِ رموزه الأساسيّة حتى وقتٍ قريبٍ بالمناسبة)، أو يتبنّى برامجَ دينيّةً متزمّتةً (الإخوان المسلمون). وهذا ما يَدْفع منتقدي الانتفاضة المبدئيّين (لا أنصارَ النظام كيفما كان) إلى الهلع الحقيقيّ من أن تَؤُول سوريا، في حال سقوط بشّار الأسد، إلى حكمٍ غيرِ «ممانع»، أيْ غيرِ داعمٍ للمقاومات في لبنان وفلسطين وربّما العراق، أو أن تتناهشَها العصبيّاتُ المذهبيّةُ، فتقعَ فريسةً للحرب الأهليّة أو التقسيم، هذا إنْ لم تخضعْ لحكمٍ سلفيّ. 2) أنّ بعض المثقفين السوريين المعارضين ذوي المواقف الوطنيّة والتحرريّة قد يترفّع عن أن «يذكّر» بمواقفه الوطنيّة التاريخيّة، التي كانت ستفقأ أعينَ منتقديهم. فمثلاً حين طلبتُ إلى صديقي ياسين الحاج صالح، مراسلِ «الآداب» في سوريا منذ سنواتٍ طويلة، أن يدلّني على مقالاتٍ أو مواقفَ له، وللمعارضين الوطنيّين الديموقراطيّين، معاديةٍ للصهيونيّة والاستعمار، لكي أضعَها على صفحة الفايسبوك التابعةِ لي، أَحجم عن ذلك بشعورٍ عارمٍ (ومفهومٍ) بالكرامة. وأستأذنُه هنا بإيراد جوابه: «ماذا تعني، سماح؟ موقفنا من إسرائيل والولايات المتحدة؟ هل يريد أحدٌ امتحانَ وطنيّتنا؟ أجد السؤالَ بحدِّ ذاته مهيناً، وأرفضُ التعليقَ عليه». كان قصدي طبعاً أنّ هناك كثيرين، وخصوصاً في صفوف داعمي المقاومة في لبنان، ممّن لا يعرفون مواقفَ المثقفين السوريّين المعارضين في الشأنين الفلسطينيّ والعراقيّ بشكلٍ واضح، ولاسيّما المنشورة في «الآداب،» ناهيك بأنّ بعضهم لا يعرف أنّ ياسين تحديداً سُجن ستّة عشر عاماً بتهمة الانتماء إلى تنظيم شيوعيّ (محظور). فكان عليّ أن «أذكّر» بمواقف بعض (لا كلّ) المثقفين السوريّين المعارضين، كي لا يقيسَهم اللبنانيّون، بوجهٍ خاصّ، بمقاييس 8 و14 آذار (بالمناسبة، ثمّة مساحاتٌ في العالم، وفي لبنان نفسِه، لا تَخْضع لهذه المقاييس، ولاسيّما مقياس «من ليس مع النظام السوريّ فهو ضدّنا»!). وكان من بين المقتطفات التي اقتبستُها عن ياسين ووضعتُها على صفحتي الفايسبوكيّة ما ذكره في ندوةٍ نظّمتْها «الآداب»، في مقرّ الدائرة السياسيّة للجبهة الشعبيّة لتحرير فلسطين في دمشق. وممّا قاله: «يبدو أنّ ما يَحُولُ دون دولتيْن في فلسطين هو ما يَحُولُ دون دولةٍ واحدةٍ [ديموقراطيّةٍ علمانيّةٍ على فلسطين التاريخيّة] أيضاً. وهو ما يعيد الاعتبارَ مبدئيّاً إلى أفكار التخلّص من الكيان الإسرائيليّ. وفي هذا السبيل يمكن لقيام دولٍ ديموقراطيّةٍ عَلمانيّةٍ في بلداننا أن يكون الخطوةَ الأهمّ» (الآداب، 1-3، 2010، ص 49). وهو مقتطفٌ يقدِّم نموذجاً ساطعاً لتفكيرٍ وطنيّ ديموقراطيّ، يَنْقض الكيانَ الصهيونيّ الإحلاليّ العنصريّ بمكوّناته كافّةً، ويبيِّن استحالةَ الوصول إلى أيّ حلٍّ معه، ويُضفي مشروعيّةً «مبدئيّةً» على أطروحة إزالة إسرائيل، فضلاً عن أنّه يشكّك عمليّاً في إمكان قيام دولةٍ واحدةٍ، ناهيك بدولتين... علمًا أنّ «حلّ الدولتين» هو طرحُ النظام الفلسطينيّ، بل طرحُ النظام السوريّ أيضاً كما رأينا من إعلان وزارة خارجيّته أعلاه، الذي كرّر، بشكلٍ أوضحَ، ما سبق للنظام السوريّ أن أعلنه خلال عقودٍ، وسط صمِّ «الممانعين» آذانَهم عمداً! أمّا في ما يخصّ الموقفَ من التدخّل الخارجيّ، فقد كَتب ياسين في عددٍ آخر: «قدّمتْ تونس نموذجاً إيجابيّاً للعالم العربيّ، يَقْطع مع النموذج السلبيّ الذي مثّله التغييرُ العراقيُّ، أي التغييرُ من الخارج مصحوباً باحتلالٍ أجنبيٍّ وبتدميرِ الدولة وبصراعاتٍ أهليّةٍ محرّضة» (الآداب، 1-3، 2011، ص 64). وهو مقتطفٌ واضحٌ في عداوته للتدخّل الخارجيّ في البلدان العربيّة، وإنْ بداعي «الإصلاح». ولولا خجلي من ياسين، لذكرتُ مقتطفاتٍ أخرى من كتاباته تُبرز معدنَه الوطنيَّ الأصيل، الذي لا يحتاج إلى إثبات. والأمرُ ينطبقُ بالتأكيد، وبشكلٍ لا يقلّ سطوعاً، على كثيرين آخرين من مثقفي المعارضة السوريّة الشرفاء، أمثال برهان غليون، الذين لم يستنكفوا لحظةً عن دعم «المقاومة الحقيقيّة» للاحتلال والهيمنة الخارجييْن، بما يتجاوزُ «الممانعةَ» التي تتوخّى في الحقيقة شروطاً تفاوضيّةً «أفضل» مع العدوّ. وإليكم مثالاً واحداً على ما أقولُه من كتابات غليون: «[إنّ] التفاوض السياسيّ من دون مقاومةٍ حقيقيّةٍ واستعدادٍ للتضحية يتحوّل، لا محالةَ، إلى مساومةٍ، ولا يستطيع أن يُنتجَ إلا تنازلاتٍ بعد تنازلات» (حوار مع مركز الجزيرة للدراسات، أجراه سيدي أحمد ولد أحمد سالم).
أمّا بالنسبة إلى القضيّة الفلسطينيّة، فقد لا تتكرّر كلمةُ «فلسطين» وشعاراتُ فلسطين، كما نشتهي، على ألسنة المنتفضين العرب في سوريا ومصر وتونس واليمن وغيرها. إلا أنّ ذلك لا يعني أنّهم تخلّوْا عنها، أو أنّهم متحرّقون شوقاً إلى عناق الإسرائيليين! إنّها مسألةُ توقيتٍ فحسب، لأنّ تركيزَهم اليوم هو على إزالة الاستبداد الداخليّ. قال لي أحدُ العمّال السوريين في بيروت: «لا يمكن أن يتخلّى الشعبُ السوريّ عن فلسطين. لكنْ، لكي نُسْهمَ في تحريرها، علينا أن نكون نحن أحراراً». صدقتَ يا أحمد: إنّ تحرّرَ الأقطار العربيّة، باتجاه إعطاءِ صوتٍ أعلى لشعوبها، لا بدّ أن يكون في صالح القضيّة الفلسطينيّة.
وأمّا عن إحراق بعض المتظاهرين صورَ السيّد حسن نصر الله فهو، في نظري، عملٌ بغيض بالتأكيد. فنصر الله، أيّاً ما كانت آراؤنا سلبيّةً في تكريسه النظامَ الطائفيَّ في لبنان، وأيّاً ما كان انتقادُنا لتحالفاته المذهبيّة في العراق المحتلّ، وغير ذلك من أمور، إنّما هو قائدُ المقاومة اللبنانيّة التي طَردتْ عدوَّنا ورفعتْ رؤوسَنا عالياً. لكنْ، لكنْ (وهذا ما أجبتُ به أحدَ منتقديَّ على صفحتي): هل تتوقّعون من كلّ المتظاهرين السوريّين أن يتقبّلوا، بأريحيّةٍ ورحابةِ صدر، مديحَ نصر الله ووسائلِ إعلامه للنظام الذي يقتلهم ويعتقلهم؟ هل يُؤْخذ مئاتُ ألوف المتظاهرين (كي لا نقولَ ملايينهم) بجريرةِ عشراتٍ أو مئاتٍ أحرقوا صورَ قائد المقاومة؟ أكثر من ذلك: هل مُمزّقو صور السيّد أنفسُهم (إذا استبعدْنا وجودَ «مندسّين» تابعين للنظام قاموا بذلك العمل) عملاء لأميركا وإسرائيل؟ وكيف تنعتون، إذن، مَنْ نثر الأرزَّ على الجنود الإسرائيليين في 1982، قرفاً من ممارسات بعض المسلّحين الفلسطينيين، لكنْ ما لبث بعضُهم بعد أعوامٍ، وربّما شهورٍ قليلة، أنْ دَعم المقاومةَ أو امتشق السلاحَ ضدّ الجيش الإسرائيليّ؟ هل كانوا عملاء خونةً ثم باتوا، بين ليلة وضحاها، مقاومين شرفاء؟ إنّ ما يسري على تقلّبات «السياسيّين» و»المثقفين» الذين يُفترض أن يكونوا على علمٍ وافٍ بالمخاطر والتهديداتِ والعواملِ الجيوإستراتيجيّة، قد لا يسري بالضرورة على كلّ متظاهرٍ أو مواطنٍ لا يمتلك ما يكفي من المعلومات. وأخيراً، لا آخراً، هل يحقّ، أخلاقيّاً على الأقلّ، لمن لم يَفتحْ فمَه ضدّ قمع النظام أن يعطي دروساً للمنتفضين عن المقاومة ضدّ إسرائيل، أيّاً ما كانت وجاهةُ نقده إيّاهم؟ أيحقُّ له أن يلومَهم لأنّهم تظاهروا ضدّ مَنْ دَعَمَ قاتلَهم، مع أنّهم سبق أن مَحَضوه ـ ومَحضوا شعبَ المقاومة اللبنانيّة ـ كلَّ الحبّ والتقدير وفَتحوا لهم بيوتَهم المتواضعةَ صيف 2006؟

■ ■ ■

من الملاحظات التي تردّدتْ كثيراً على الفايسبوك، ولاسيّما في الردّ على ما كنتُ أكتبه هناك، الفزعُ الذي اعترى كثيرين من أن يحلَّ محلَّ النظام السوريّ، إنْ سقط، نظامٌ سلفيّ. وقد وجدتُ في هذا الفزع شيئاً من الاحتقار للشعب السوريّ، وكأنّ هذا الشعبَ عاجزٌ عن اختيار بديلٍ من النظام الحاليّ لا يكون قمةً في التخلّف والمذهبيّة، شرط أن يُمنح المجالَ التامَّ للتعبير عن رأيه. بل وجدتُ في ذلك الفزع، المفتعلِ أو المُبالغِ فيه لدى البعض، إقراراً ضمنيّاً بفشل النظام، بعد عقودٍ من الحكم «العَلمانيّ»، في أن يتصدّى للموجة السلفيّة العارمة (إنّ صحّ أنّها عارمةٌ فعلاً). الأهمّ أن يسأل الفزِعون الهلِعون أنفسَهم: لماذا حدثتْ هذه الموجة؟ وهل أساسُها دينيٌّ بحت، أمْ أنّها تستندُ إلى الرغبة في استغلال الفضاء الذي يَصْعبُ إغلاقُه تماماً، لأنّه يندرجُ في حيّز «المقدَّس»، من أجل التعبير عن النفَس المعارض؟ وكيف نفسّر أنّ عدداً من المسيحيّين (وهم مواطنون سوريّون من خلفيّاتٍ متعدّدة) باتوا يدخلون المسجدَ يومَ الجمعة، لا لشيءٍ إلاّ بغية الاجتماع فيه للخروج في التظاهرات بعد انتهاء الصلاة؟!
إنّ النظام هو مَن يَدفع باتجاه التخويف من الاحتراب الطائفيّ الداخليّ للبقاء في الحكم. وهو أولُ مَن يستطيع أن يخفّف من حدّة هذا الاحتراب، قبل أن يصبحَ حقيقةً واقعةً لا رادّ لها (هل فات الأوان؟). كتبتُ في أحد «ستاتوساتي» الأخيرة، عشيّةَ الهجوم على مدينة حماة في اليوم الأخير من شهر تمّوز:
«إنّ أبشعَ نكتةٍ سمعتُها منذ اندلاع الأحداث في سوريا هي أنّ النظامَ يَمنع الحربَ الأهليّة. يا عيب الشوم! يعني، إذا كان «منعُ الحرب الأهليّة» قد كلّف منذ بداية الثمانينيّات حتى الآن عشراتِ آلاف القتلى، فهل يهمُّ إذا «نجح» النظامُ بعد ذلك في «منع» الحرب الأهليّة؟ وهل كانت الحربُ الأهليّة ستَقتل بالضرورة عدداً أكبرَ من الناس؟ ولماذا الخيارُ أصلاً بين الحرب الأهليّة من جهة... وحربِ النظام ضدّ الأهل من جهةٍ أخرى؟».
مع كتابة هذه السطور وتفاقمِ الحربِ ضدّ حماة، يبدو أنّ النظامَ السوريّ قد عَقد العزمَ على مواصلة «الحلّ» الأمنيّ... ولو اقتضى الأمرُ حلَّ سوريا نفسها! ولم تكن جلساتُ «الحوار» مع المعارضين إلا ذرّاً للرماد في العيون، من أجل شرذمةِ المعارضة، وخنقِ الانتفاضة، وتصويرِ النظام «مستبدّاً عادلاً». والرهانُ اليومَ هو أن ينجح شعبُ سوريا في توحيدِ طاقاته، وأن تنجحَ المعارضاتُ السوريّةُ في حصر خلافاتها وفي التقدّم ببرنامجٍ عامّ يَرْسم معالمَ سوريا حرّةٍ ديموقراطيّةٍ مدنيّةٍ مقاومة.
النصرُ لشعب سوريا في معركته المشرّفة!

* رئيس تحرير مجلة «الآداب»