شُغل العالم العربي بمسألة العنف بعد ولادة إسرائيل الحربيّة. أدرك الشعب العربي أنّ العنف كان القابلة القانونيّة للاحتلال الإسرائيلي. لم يُخفِ مناحيم بيغن الأمر في كتابه، «التمرّد»، عندما اقتبس مقولة ديكارت ليقول بفخر الإرهاب الصهيوني: «نحن موجودون بقدر ما نحن نقاتل». ما قالته الصهيونيّة عن العرب ينطبق عليها: لا يفهم العدوّ إلّا لغة القوّة. ذلك ما أدركه جمال عبدالناصر، لكنّه أسند المهمّة القوميّة لإعداد عدّة القتال إلى رجل قد يكون أقلّ العرب كفاءةً في حينه (أعني عبد الحكيم عامر).توصلت المنظمات الفلسطينيّة إلى خلاصة استراتيجيّة عن دور الكفاح المسلّح في تحرير فلسطين: كانت المنظمات الإسلاميّة (ولا تزال) تصرّ على أنّ أحكام الدين هي المصدر الأساسي للتشريع الدستوري، فيما كانت المنظمات الفلسطينيّة تصرّ على أنّ الكفاح المسلّح هو الطريق الوحيد (عند جبهة الرفض والرفض غير الممانعة، ويخطئ الكثير من المؤرخين عندما يدرجون، خطأً، النظام السوري في جبهة الرفض، بينما كان هو خارجها) أو الأساسي (عند حركة «فتح» ومن لفّ لفّها). أما اليوم، فيخجل الحكّام ومسؤولو منظمة التحرير (وهي هيكليّة تُدار بأموال خليجيّة وغربيّة) من إدراج الكفاح المسلّح وسيلةً من وسائل النضال المُتعدّدة. الأمر يرد كما ورد في خطاب ميشال سليمان في عيد الجيش، عندما قال إنّ لبنان يحتفظ (يحتفظ، للتاريخ؟) بحقه في «تحرير أو استرجاع» أراضيه المُحتلّة. ما قاله سليمان يعني أنّ لبنان يهدّد أنّه إذا فقد أعصابه، فهو قد يستعين بالعنف لتحرير أرضه، أو أنّه ينتظر (على طريقة النظام السوري الصبور) عودة الأراضي المحتلّة إلى الوطن من تلقائها. غادر الجولان رحم الوطن، وقد يعود، خبّر بذلك «العندليب» (العندليب نفسه الذي بشّر في أغنية أنّنا «سنرجع يوماً» يوماً؟).
يعظنا الرجل الأبيض بضرورة نبذ العنف في كلّ أشكاله. يريد منّا تسليم قاتلات الذباب. لكن الرجل الأبيض يقع في النفاق: يغدق الأسلحة على المجاهدين المتعصّبين في أفغانستان خلال الثمانينيات، فيما هو يعظ الشعب الفلسطيني بعدم جدوى العنف. سكان العالم السفلي ممنوعون من أن يسألوا: إذا كان العنف غير مجدٍ، فلماذا لا يزال الرجل الأبيض ينتهجه صبح مساء، ولماذا تبوّأت الولايات المتحدة الصدارة الدوليّة بالعنف الكوني؟ والرجل الأبيض لا يسمح لنفسه فقط بممارسة العنف في أبشع أشكاله، بل يعطي بعض مجموعات العالم السفلي الحق في تبنّي العنف وممارسته، إذا إلتزم بممارسته نيابة عنه وعن مصالحه. محظيّون هؤلاء. كانت الولايات المتحدة ترغي وتزبد ضد قيام حركة «فتح» بممارسة العنف في السبعينيات، قبل أن تعود وتسلّح حركة «فتح» وتموّلها بعدما إلتزمت الأخيرة ممارسة العنف ضد الشعب الفلسطيني وحده. لكن متى كانت المعايير أخلاقيّة أو مُخلصة لدى الرجل الأبيض؟ ومتى كان العالم المتقدّم يحرص على مصالح الشعب المُستعمَر؟ هم يقتلوننا من أجلنا؟
لا شكّ في أنّ الحكومات الغربيّة وإعلامها (المطواع) قرّروا باكراً أن يصنّفوا الانتفاضات العربيّة باللاعنفيّة. لم يقرّروا أنّ سمتها العفويّة غير عنفيّة، ذهبوا أبعد من ذلك بكثير. قرّروا أنّ الانتفاضات العربيّة هي عقائديّاً وفلسفيّاً لا عنفيّة. قرّروا بالنيابة عنّا جميعاً أنّنا وصلنا بهداية صهاينتهم إلى العقيدة اللاعنفيّة، وأنّنا لن نقبل منها بديلاً. قرّروا أنّنا قرّرنا تلقّي العنف من دون ردّ أو جواب. جريدة «نيويورك تايمز» طلعت علينا بمقالة طويلة مفادها أنّ الشعب العربي ثار لأنّه قرأ كتابات ضد العنف لجامعي أميركي مُتقاعد، اسمه «جين شارب». حاولتُ إقناع الصحافيّة المثابرة في الجريدة عينها بأنّ الرجل غير معروف، وأنّ لا أحد سمع به. ولكن من دون جدوى. الأمر كان أكبر منها ومنّي. كان ذلك ولا يزال فصل الحرب النفسيّة في الثورة المضادة. خافت الولايات المتحدة أن تحرق انتفاضات مسلحّة مصالحها، في طول العالم العربي وعرضه. أرادت أن تروّج لضرورة الإلتزام القاطع باللاعنف، واختارت أفراداً من كلّ حالة كي تروّج لنبذ العنف. لكن الولايات المتحدة وحلف شماليّ الأطلسي أغدقا الأسلحة بالأطنان على «ثوّار» ليبيا، ظنّاً أنّنا لن نلاحظ تغيير المعايير وعدم الانسجام. كانوا يأمرون الشعب الفلسطيني بضرورة الانتفاض السلمي على الاحتلال، وعندما انتفض سلميّاً، أيّدوا قمعه وقتله (ليس فقط في الثمانينيات، بل في هذه السنة أيضاً على الحدود مع فلسطين). إنّ عزو دافع اللاعنف إلى الانتفاضات العربيّة كان جزءاً من خديعة دعائيّة لمصلحة إسرائيل، وراعيها الأميركي.
لا يعني ذلك أنّ فكر اللاعنف لا يُروّج له (بخلاف أدبيّات سياسيّة ثريّة مثل مقالة الرفيق عامر محسن في «حب» القنبلة) في بعض أزقّة العالم العربي وجاداته ومقاهيه وملاهيه. تتطلّع من النافذة وترى منظمات تنبت يميناً ويساراً: «نجّارون ضد العنف» و«دجّالون ضد العنف» و«نصّابون ضد العنف» و«مرتزقة مسلّحون ضد العنف» و«بقايا جيش لحد ضد العنف» و«حقوقيّون ضد العنف» و«مريدو فؤاد السنيورة» ضد العنف. هل هم الخبثاء الذين (واللواتي) يرون في كلّ تلك التنظيمات التي تحمل رسائل ذم بالعنف مشاريع إسرائيليّة؟ هل هم الخبثاء الذي يشكّون (ويشككن) في وجود مشاريع صهيونيّة غير خفيّة في مشاريع تنطلق في كلّ حارة تنوجد فيها حركة مقاومة ضد إسرائيل؟ كلما أصرّ طرف مُقاوم على حق لبنان أو فلسطين في الدفاع عن الوطن وفي ردّ العدوان، تطلع أصوات تتكرّر فيها عبارات عن جمال النضال «الحضاري» الذي مثّله السنيورة في سنوات حكمه (واستحق من أجله ثناءً غير محدود من قادة العدوّ وفق وثائق «ويكيليكس»). وللسنيورة مقلّدون: أو أنّهم (من سلام فيّاض إلى حسني مبارك) مقلّدون للآمر الأميركي.
العنف لصيق بتاريخنا المعاصر. يمكن القول إنّ دخول الغازي الأوروبي (وفي ما بعد الأميركي) إلى منطقتنا، أحدث ضخّاً للعنف على نطاق لم يكن معروفاً من قبل. محطات من العنف صاحبت كلّ إطلالة للمستعمر: من غزوة نابوليون في مصر، إلى الغزو البريطاني للعراق، أو قمع الثورة العربيّة في سوريا، أو الاستعمار الإيطالي في ليبيا، أو الاستعمار الفرنسي في الجزائر، أو قمع الانتفاضة الفلسطينيّة في حقبة الاستعمار البريطاني، أو «دانشواي» أو ما تلاها، التي قال فيها حافظ إبراهيم: «قتيل الشمس أورثنا حياة/ وأيقظ هاجع القوم الرقود، ‏فليت كرومر قد بات فينا‏/ ‏يطوق بالسلاسل كل جيد،‏ لننزع هذه الأكفان عنا/ ونُبعث في العوالم من جديد». الغرب عرّفنا بممارسة مدى من العنف لم يألفه العالم العربي من قبل. ولم نتعلّم منه، إلا لماماً.
الأنظمة التي تلت حقبة الاستعمار، الجمهوريّة والملكيّة، استسهلت استعمال العنف ضد السكّان وتمتّعت برعاية واحد من الجبّاريْن. لم يكن هناك مدى من العنف غير مقبول. وهذا كان، ولا يزال، على طريقة الإدارة الأميركيّة: هي تتصنّع التعاطف مع الشعب السوري في محنته وفي تعرّضه للقمع الدامي، فيما تتيح لإسرائيل أيّ تمادٍ في جرائم الحرب من دون سؤال أو تردّد. العنف سمة من الحياة اليوميّة السياسيّة في العالم العربي، مع أنّ المجتمعات الغربيّة، وخصوصاً في الولايات المتحدة، تشهد عنفاً اجتماعيّاً يفوق مستويات منطقتنا. (أما العنف المنزلي فتتقارب نسبه بيننا وبين النسبة هنا في أميركا، حيث تتعرّض نحو ثلث النساء للعنف المنزلي، والنسبة كانت مماثلة في دراسة شاملة أجريت في سوريا قبل بضعة أعوام). لكنّ الأنظمة العربيّة كلّها كانت مُستعدّة لخوض معارك ومجازر ضد شعوبها: العنف كان مُفضّلاً عند الأنظمة. سلسلة طويلة: من قمع مظاهرات العمّال في السعوديّة، وقمع العائلة المالكة في البحرين عبر العقود، أو مجازر البعث الدوريّة في سوريا وفي العراق، إلى الاستعانة بالجيش لقمع انتفاضات عمّاليّة في شمال أفريقيا، أو مجزرة سجن «بو سليم» في ليبيا. أما الحروب الخارجيّة، فقد تجنّبتها كلّ الأنظمة العربيّة ضد إسرائيل: من الضروري التذكير بأنّ العرب لم يبادروا إلى الحرب على إسرائيل إلا في 1973، ثم سارعوا إلى إيقافها، ما أدّى إلى قلب الأمور الميدانيّة، وتحويل إنجازات الأيّام الأولى إلى هزيمة أكيدة. طبعاً، أظهرت الأنظمة رغبة ونشاطاً في الحروب بين الأنظمة: إنّ كميّة المتفجّرات التي استخدمها جناحا حزب العبث أحدهما ضد الآخر، تفوق النسبة التي استعملاها ضد العدوّ الإسرائيلي. نظام السادات لم يلجم نيرانه ضدّ ليبيا مثلاً، في الوقت الذي كان السادات يزفّ للعالم (الغربي) بشرى نهاية الحروب على إسرائيل. والسعوديّة (ومَن وراءها وإسرائيل كانت وراءها) استنزفت نظام عبد الناصر في حرب اليمن، وكان المشير عامر أكثر حماسة في حرب اليمن من الحماسة ضد إسرائيل.
لكن إسرائيل وحلفاءها هم الذين ارادوا أن يضخّوا أفكار عدم جدوى العنف، فيما كانت إسرائيل نفسها وحلفاؤها يزدادون عنفاً وعدواناً. كان واضحاً أنّهم أرادوا أن يفرضوا وحدانيّة العنف لتحقيق مآربهم في السيطرة على المنطقة وفي وأد أي مقاومة للاحتلال أو حتى للدفاع عن النفس (يتشارك الحريريّون ضد العنف في لبنان مع إسرائيل في هدف نزع سلاح الدفاع عن لبنان). وكلّما تفاقمت عدوانيّة إسرائيل وعنفها، أراد الرجل الأبيض أن يفرض على ضحايا إسرائيل نبذ العنف. هو الاستسلام تحت شعارات غير مُنمّقة البتّة. لم تكن الولايات المتحدة تعظ ضد العنف عندما كانت تسلّح المجاهدين الأفغان. حتى اليوم، نفاق الإدارة الأميركيّة أكثر من صارخ: تصرّ على نزع سلاح حزب الله، فيما هي تسلّح ثوار الناتو في ليبيا و«ثوّار» سلام فيّاض في رام الله، بالإضافة إلى العصابات والعشائر القبليّة المُجرمة في العراق وأفغانستان.
وقد تسارعت التحليلات الغربيّة عن سلميّة الانتفاضات العربيّة بمجرّد أن اندلعت انتفاضة تونس. كانت التحليلات جزءاً من الدعاية السياسيّة المُبكّرة. لكن فكر اللاعنف لم ينتشر في المنطقة العربيّة ولم يجد له أرضاً خصبة، ولعل ذلك يعود إلى سيادة العنف ضد الشعوب العربيّة من قبل الأنظمة والعدوان الخارجي. ثم، كيف يجد العربي (والعربيّة) جدوى من اللاعنف وهو يرى زخم العنف الغربي المُتحضّر، طبعاً حول العالم؟ لم تبرز كتابات محليّة عربيّة ضد العنف. كانت هناك محاولات غربيّة لبث فكر اللاعنف. حاول الفلسطيني الأميركي مبارك عوض أن يجلب أفكار اللاعنف المُستقاة من طائفة الـ«كويكرز»، في الثمانينيات من القرن الماضي، إلى فلسطين، فما كان من إسرائيل إلا أن طردته واتهمته بالتحريض على «الانتفاضة المدنيّة»، ولم تؤثّر الاعتراضات الأميركيّة الخجولة جدّاً (لأنّ عوض مواطن أميركي). لكن أفكار عوض لم تنتشر ولم نسمع به مذّاك. صحيح، كانت منظمات أميركيّة وبعض المنظمات المحليّة، مثل مؤسّسة ابن خلدون في القاهرة، تعقد ندوات وورش عمل لنشر فكر اللاعنف. لكن من الصعب استساغة اللاعنف في مجتمعات تتعرّض للقصف الوحشي دوريّاً (كما قال أمل دنقل، «تَقتل أو تُقتل، هذا الخيار الصعب»). كذلك، حاولت مؤسّسات أميركيّة ثريّة نشر تلك الأفكار. مؤسّسة «ألبرت أينشتاين» الأميركيّة اتصلت بي قبل أعوام للإشراف على ترجمة كتابات «جين شارب» ما غيره. ولكن ما قرأته منها أصابني بملل قاتل ولامبالاة سياسيّة، فرفضت المهمّة بعد دقائق. عرضت الأمر على الرفيق عامر، وأعرض عنها هو الآخر. إلى أن قرأنا في «نيويورك تايمز» أنّ «جين شارب» هو الذي أقنع العالم العربي بصوابيّة اللاعنف. ثم تتعجّبون من نزوعنا نحو نظريّة المؤامرة، وهي ضروريّة لفهم ما يدور حولنا؟ (والطريف أنّ «نيويورك تايمز» في استماتتها لعزو الحيويّة الثوريّة عند الشباب العربي إلى عنصر أميركي أبيض، روت أنّ بعض الشبّان المصريّين تدرّبوا (كيف؟) على اللاعنف في ورش عمل أميركيّة في صربيا وأميركا، إلا أنّ مؤيّداً لنظام مبارك وطنطاوي، قال أخيراً، إنّ بعض الشبّان «الإرهابيّين» في مصر تلقّوا تدريبات على الإرهاب في صربيا وأميركا).
لكن لا آثار أبداً لانتهاج الشعب العربي لعقيدة اللاعنف التي يشوبها الكثير من اللغط واللبس والتشويش المقصود. لا، لم يكن نضال الشعب الأسود في جنوب أفريقيا سلميّاً، وقد طال زمن سجن نيلسون منديلا بسبب رفضه القاطع لنبذ العنف (كما فعل ياسر عرفات بأوامر أميركيّة، ضد رغبة شعبه وإن كان خلافاً لخلفه قد أبقى خيار العنف في السرّ). وكان الثوّار السود في أفريقيا الجنوبيّة يمارسون ما سُمّي يومها «وضع العقود»، في إشارة إلى وضع دولاب سيّارة محترق حول عنق المُتهم بالعمالة لحكومة الفصل العنصري، وكان الليبراليّون الغربيّون يصفّقون لنضال السود هناك. الليبراليّون الغربيّون أنفسهم الذين يتقزّزون لمشهد رشق جنود الاحتلال الإسرائيلي بالحجارة من أطفال فلسطين وأولادها. ونضال الشعب الأسود في أميركا كان لاعنفيّاً؛ لأنّ الآلة العسكريّة للدولة كانت ستُستخدم لقمع الثوّار (وقد قامت حركة «الفهود السود» في الستينيات والسبعينيات بتجربة كفاح مسلّح، لكنّ أجهزة الأمن تعاملت معها بوحشيّة فظيعة).
صحيح أنّ بعض المُحتجّين العرب (في سوريا مثلاً) رفع شعار «سلميّة»، لكن الشعار كان من باب الدفاع عن النفس ومن باب الوقاية الاحترازيّة. لكن الانتفاضات العربيّة لم تكن لاعنفيّة إطلاقاً. وقد دحض الناشط المصري، الرفيق حسام الحملاوي، على مدوّنته نظريّات اللاعنف كعقيدة هادية للثورات العربيّة. وأشار حملاوي إلى ثورة السويس في خضم الانتفاضة على حكم الرئيس المؤمن، محمد حسني مبارك، وذكر أنّ أعمال عنف مُركّزة وسياسيّة صاحبت الانتفاضة المصريّة. الانتفاضة في السويس كانت مسلّحة، وتفجير أنابيب الغاز إلى إسرائيل لم يكن بالكتابات اللاعنفيّة. تعرّضت مقارّ للشرطة وللحزب الحاكم في تونس وفي مصر لأعمال عنف مركّزة. وقد حصل ذلك أيضاً في سوريا وليبيا. أما العنف العشوائي غير المُركّز، فقد حصل على أيدي الأنظمة وبقصف حلف شمالي الأطلسي. العنف الأخير هو القانون المحلّي أو الدولي، أما العنف المُضاد فهو الجريمة (كما ميّز «ماكس شترنر»، المفكّر الفوضوي).
لكن فكرة نبذ العنف من أساسها غرض إسرائيلي. والنيّة من إدراجه في أيديولوجيّات الانتفاضات إذا استطعنا أن نتحدّث عن أيديولوجيّات في الثورة هو من أجل إضعافها وتسهيل السيطرة عليها. والرجعيّات كانت دوماً تعمد إلى نبذ العنف اليساري والثوري: كم ندبت الرجعيّات عبر التاريخ الدماء التي سالت في الثورة الفرنسيّة، مع أنّ عدد الضحايا في حقبة «حكم الإرهاب» لم يتجاوز عدد الذين قتلتهم أميركا في أوّل شهر من غزوها للعراق. ومنظّر العنف، جورج سوريل، لاحظ أنّ النظرة نحو عنف البروليتاريا لا تقوم على تحليل لواقع حاضر، بل على هروب نحو الماضي للتخويف من آثار ثورة ماضية. ليس العنف في الانتفاضات العربيّة همروجة إعلاميّة، كما حوّلها ياسر عرفات إلى طقس فولكلوري فارغ. وليس العنف «للتطهير الجماعي» على نسق تنظير «فرانز فانون». وليس العنف إعلاناً مملّاً للجهاد يعلنه أنور السادات والملك فهد فقط للتحضير للسلام مع إسرائيل. وليس جهاد بعض التنظيمات الدينيّة التي ترى إراقة الدماء خدمة لله بصرف النظر عن الأهداف.
لن تتحوّل الانتفاضات العربيّة باتجاه اللاعنف الصرف. قلّة من أبناء الطبقة المتوسّطة تعدّ ورشات عمل عن مضار العنف على أشكاله. ما لنا وللطبقة المتوسطة وتذبذبها الشهير. الطبقة المتوسطة لا تصنع ثورات. هي فاعلة في إجهاض الثورات، وفي تحويرها عن مسارها الطبيعي، فعّالة في التحذير من العناصر المتطرّفة ومن النزعات العنفيّة. لكنّها سريعة الذعر: تهرب إلى الأدغال عند إطلاق الرصاصة الأولى، ثم تعود كي تقطف ثمار نجاحات لم تصنعها هي. إنّ الحالة العربيّة الراهنة لا يمكن أن تتقدّم بشعارات ضد العنف. في فلسطين، اللاعنف يعني التسليم المطلق بحق الاحتلال والإجرام الإسرائيلي. في لبنان، يعني بأفواه الحريريّين التسليم ليس فقط بالاحتلال الإسرائيلي، بل بحق إسرائيل في العدوان متى شاءت، كما كانت تفعل في الماضي (وهال كتلة تيّار الحريري النيابيّة أن يعلن حسن نصر الله حق لبنان في الدفاع عن حقوقه النفطيّة فعبّرت عن انزعاجها من إقلاق حركة الاستثمار. هذا هو النسق النيابي المتطوّر لجيش لبنان الجنوبي).
إنّ العنف في مواجهة إسرائيل والأنظمة العربيّة السائدة حتمي ومصيري. إنّ النظام الإقليمي الذي يحتضن العدوّ والحكّام مفروض منذ 1948 بالعنف والقهر. وهو لن يفوّت فرصة للبقاء بأي ثمن. والمجلس العسكري الحاكم في مصر أو السلالة الحاكمة في البحرين أو حزب البعث يثبتون أنّ العنف هو سرّ بقائهم. إنّ مسيرة العنف ستزداد، كذلك فإن مُطلقي شعارات اللاعنف سيبدون سذّجاً أو أسوأ بكثير. ليس العنف خياراً ضروريّاً، كما نبّه كارل ماركس في خطبة له في أمستردام يوم 8 أيلول 1872. فهناك تغييرات جذريّة قد تحدث سلميّاً، لكن ماركس كان يتحدّث عن بضع دول، ليست إسرائيل وأنظمة الاستبداد وسلالات الخليج منها. لن تسمح أنظمة الاستبداد العربي بالتغيير السلمي. والمراحل الانتقاليّة (مثل مصر وتونس) ستكون حبلى بالعنف، وهي كذلك اليوم إذ ينشط «بلطجيّة» نظام لم يتقاعدوا بعد. وهذا العنف سيولّد عنفاً مضاداً. أوّاه. لماذا أتطلّع بشوق إلى مراحل صراع محتدم؟ إنّ تفجيرات أنابيب الغاز المصري تنذر بما هو آت. فقدت إسرائيل الأمل باستمرار ورود غاز نظام مبارك، كما اعترفت صحف العدوّ. وإذا كانت الانتفاضات العربيّة قد فعلت ما فعلت بقليل من العنف، يمكن أن نتصوّر ما ستفعله في مرحلة العنف المُضاد لدفع التغيير الجذري. أتحرّق شوقاً. تحرّقوا (وتحرّقن) معي.
* أستاذ العلوم السياسيّة في جامعة كاليفورنيا (موقعه على الإنترنت: angryarab.blogspot.com)