أشهر مرّت على الثورة في سوريا، توسعت خلالها إلى حدّ كبير، بعدما كانت قد بدأت في درعا، فهي الآن تشمل معظم الأرض السوريّة. لكن الملاحظ أنّها تتمركز في الريف أكثر من المدن، رغم مشاركة مدن مهمة مثل حمص وحماه واللاذقية ودرعا ودير الزور. وتقف بعض «الطوائف» متخوفة إزاءها، أو مترددة في المشاركة، وهو الأمر الذي يضعفها، ويؤخر انتصارها.ما يجب ملاحظته أولاً هو أنّ الانتفاضة كانت «قبل أوانها»، فقد تعممت اللبرلة في سوريا قبل سنوات قليلة. إذاً، لقد تفجّر الوضع السوري «قبل الأوان»، لكنّه تفجّر. ولقد فرض ذلك نشوء مشكلات، في الواقع لا بد من ملاحظتها. ونقول «قبل أوانها» رغم أنّ الانفتاح الاقتصادي قد فرض تحرير الأسعار، وبالتالي خضوع المواطن للسعر العالمي للسلع، رغم ضآلة الأجور والارتفاع الهامشي لها. ورغم تراجع دور الدولة في التوظيف، وفي دعم التعليم والصحة، وفي الإنفاق الاستثماري، ظلّت تستوعب أعداداً كبيرة من الموظفين، وخصوصاً أنّ القطاع العام بقي مهملاً، من دون تصفيته. وبهذا ظلّت فئات اجتماعية تعتمد على الدولة، رغم ضآلة رواتبها. وكان الاحتقان المتصاعد، الذي كان يظهر في حالات تململ وتذمر، لم يصل بعد إلى كسر حالة الرهبة من مواجهة السلطة، والإحساس بأنّ أي بديل هو أفضل من الراهن.
سنلاحظ أنّ الانفتاح الاقتصادي، الذي اكتمل منذ أواسط العقد الأول من القرن الواحد والعشرين، فرض انهيار الصناعات، حتى تلك التي كانت تعدّ من إرث سوريا، مثل الصناعات النسيجية، وكذلك انهيار الزراعة وفقدان سلع استراتيجية مثل القطن والقمح. ولذلك، نجد أنّ الحراك بدأ وتوسع في الريف، أكثر من المدن. من درعا وريفها إلى ريف دمشق، إلى بانياس وإدلب وجسر الشغور، إلى القامشلي. وربما يشبه ذلك الوضع التونسي، إذ انطلقت الانتفاضة من الريف ووصلت إلى المدن فانتصرت.
لا شك في أنّ أكثر من 80% من السكان دون خط الفقر، سواء نتيجة البطالة أو نتيجة ضآلة الأجر، لكن نسبة الذين باتوا يعيشون في فقر شديد، والعاطلون من العمل (نسبتهم تبلغ ما يقارب 30%)، ومن بلغ الاحتقان لديهم حده الأقصى، هم أقل من ذلك. ونلمس بأنّ أثر انهيار الريف واضح في الحراك، كما يمكن أن نلمس التأثر بانهيار الصناعات، في بعض المدن فقط. وسنلمس أنّ وضع الفئات الوسطى في المدن لم يصل بعد إلى حدّ الأزمة العميقة، فنسبة منها يعيش على نحو جيد، وأخرى لا تزال تقاوم الفقر. كما أنّ بعضاً منها استفاد من التحوّل الاقتصادي الذي حدث، في السنوات الأخيرة، نحو التركيز على الخدمات والتكنولوجيا الحديثة والعقارات والسياحة والمصارف. ويظهر ذلك أنّ الفئات المهنية لم تشارك جدّياً بعد.
أدى هذا الوضع إلى جعل «الشرارة» الأولى في درعا لا تتوسع سريعاً في باقي سوريا، كما حدث في تونس مثلاً، أو في اليمن حتى. وربما لم يحدث ما حدث فيما لو حصلت مسألة درعا في وضع عربي راكد، فقد وقعت أحداث مشابهة لها من حيث المطالب سابقاً، وحلّت بـ«هدوء». مطالب أهل درعا كانت تتعلق بالمنطقة نفسها، وتتعلق بالأرض التي سيطر عليها متنفّذو السلطة، واعتقال الأطفال وتعذيبهم، وتطوّرت إلى تغيير المحافظ ومسؤول الأمن السياسي. وحاول هؤلاء حلّها من خلال الحوار مع السلطة، من دون جدوى. لكن لا بد من أن نلاحظ انعكاس الوضع الثوري العربي، الذي بدأ مع تونس ووصل إلى مصر، وتفجّر في اليمن وليبيا، على تحوّل تلك الحالة المتكررة إلى ثورة. وسنلمس ذلك الانعكاس في مستويين. الأول يتعلق بالطابع «الشبابي» للثورات في تونس ومصر واليمن. ولا شك في أنّ تلك الوضعية هي أمر طبيعي في مجتمع تفوق نسبة الشباب فيه 60% من المجتمع، وتعيش نسبة كبيرة منهم في حالة عطالة من العمل. في سوريا الوضع مشابه، وبالتالي أثّر حراك الشباب في البلدان العربية على الشباب هنا، الذي بدأ في التفاعل مع الأحداث في مصر وليبيا واليمن، وأصبح يفكّر بحراك سوري، وهو الأمر الذي أطلق الدعوات على الإنترنت لتظاهرات هنا أو هناك. وبدأ الأمر في الدعوة الى تظاهرة في 15 آذار/ مارس، ثم للتضامن مع المعتقلين في 16 آذار/ مارس، ومن ثم الدعوة إلى تظاهرات في 18 آذار/ مارس، وهي الجمعة التي كانت درعا قد قامت خلالها باحتجاج من أجل مطالبها.
يتعلق الأمر الثاني باستفادة السلطة من أسباب نجاح الثورات في تونس ومصر. فقد استنتجت بأنّ نجاح تلك الثورات نتج من السماح للحراك بأن يتراكم على الأرض، ويفضي إلى اعتصامات في الساحات. وبالتالي، رُسمت استراتيجية المواجهة انطلاقاً من ضرورة سحق كل محاولة اعتصام، وكل تحرّك منذ البدء. وأصبحت هذه الاستراتيجية تعتمد على استخدام العنف الشديد، منذ البدء. لذلك، ووجهت مطالب سكان درعا بالعنف، منذ اللحظة التي تجمعوا فيها يوم الجمعة 18 آذار/ مارس. فقد تدخلت قطاعات من الجيش (الوحدات الخاصة والفرقة الرابعة)، وجرى استخدام الرصاص الحي فوراً، ما أفضى إلى سقوط شهداء.
أدى هذا الرد إلى عكس ما أرادته السلطة، فقد تصاعد الاحتجاج في درعا، وكلّ حوران، وباتت المنطقة كلّها خارج السيطرة، ثم أصبح مادة حقيقية للشباب المتحمس الذي بدأ الدعوة الى التضامن مع درعا. أثمر ذلك توسع الحراك إلى بانياس ودوما، وبعض مناطق ريف دمشق، واللاذقية. ومن ثم أصبحت الردود العنيفة للسلطة مادة للتوسع المتتالي، فوصلت الاحتجاجات إلى حمص ودير الزور، ثم إلى القامشلي وحماه وإدلب وريف حلب، وبالتالي إلى كل الريف السوري تقريباً. كل ذلك خلال الأشهر الثلاثة التي تلت 15 آذار/ مارس.
يعدّ ذلك التوسع بطيئاً إذا قارناه مع الوضع التونسي خصوصاً، وحتى اليمن (وضع مصر مختلف)، وهو الأمر الذي يشير إلى أنّ نضج الاحتقان لم يكن متساوياً في كل سوريا. وبدا أنّ الريف هو الأكثر تضرراً واحتقاناً، بعد الانهيار الزراعي الذي حصل في السنوات الثلاث الأخيرة، بينما لم يتحرّك العمال مثلاً. ربما تحرك بعضهم كأفراد ضمن التظاهرات التي تجري، لكن لا يزال الحراك ضعيفاً في مناطق التمركز العمالي. والفئات الوسطى المدينية، لم تزل دون حراك حقيقي، رغم مشاركة أفراد منها في الحراك. وبالتالي أوجد ذلك جملة مشكلات أساسية، لا تزال تؤثر على الحراك ذاته، وتعرقل توسعه السريع.

منطق توسع الانتفاضة

كما أشرنا، إذا كانت الدعوات على الإنترنت قد بدأت في 15 آذار/ مارس (وبعضها قبل ذلك، وإن كان على نحو طائفي قذر)، فقد بدأت الانتفاضة فعلياً في 18 آذار/ مارس، مع بدء الحراك في درعا، والرد الوحشي للسلطة عليه. إذ واجهت السلطة احتجاجاً شعبياً باستدعاء الوحدات الخاصة والفرقة الرابعة، وفتح النار على المعتصمين من أجل سحقهم خشية امتداد الحراك. لكن كانت النتيجة معاكسة لذلك، فقد انتفضت درعا وكل حوران.
التضامن مع درعا أصبح هدف الشباب الداعي إلى التظاهر في مناطق عديدة من سوريا، وللاحتجاج على عنف السلطة ووحشيتها. وهذا ما بدأ يحرّك مناطق أخرى، فقد تحركت دوما وبانياس، وهو ما نقل عنف السلطة إليهما، فأصبحتا مادة جديدة للتحريض، فتوسع التضامن ليشملهما مع درعا. ومن ثم بدأ توسع الانتفاضة في صيرورة تضامن متبادل. لكن هذا الزمن كان يسمح للسلطة بالتركيز القمعي على المناطق واحدة تلو الأخرى، وهو ما كان يعطيها قوّة، لأنّها تحرّك قوة قمعية محدودة العدد، وبالتالي كان يمكن نقلها من منطقة إلى أخرى. وبدا أنّ السلطة تستفرد بالمناطق، على نحو متتالٍ، ما دام التوسع في الحراك بطيئاً. لكن العنف الوحشي لم يكن يوقف الحراك، حتى في المدن والمناطق التي كانت «تذبح». على العكس من ذلك، كان يفضي إلى انتقال الانتفاضة إلى مناطق جديدة دون تراجع قوتها في المناطق التي «سحقتها» السلطة، ليظهر بأنّ هذا السحق لا يوقف الثورة بل يوسعها.
لقد حاصرت قوات السلطة درعا ودوما وبانياس، ثم حمص وتل كلخ والمعظمية وداريا، وتلبيسة والرستن، ثم حماه ومعرة النعمان، وإدلب، وأخيراً جسر الشغور. وكانت تقتل دون تردد، وتدمّر دون اكتراث. رغم ذلك كان التوسع مستمراً، فقد كان واضحاً انضمام مناطق جديدة كل أسبوع، وتوسع العدد المشارك في كلّ منطقة، رغم العنف الدموي الذي باتت تمارسه قوات السلطة.
إنّ بطء التوسع كان يشير إلى «عدم تكافؤ نضج الاحتقان»، لكنّه أعطى السلطة مسافة لكي تقمع المناطق، منطقة تلو الأخرى، رغم أنّ ذلك لم يوقف الحراك في المناطق «المنكوبة»، فالصلابة هي ذاتها بعد كل هذا العنف الوحشي. وهنا سنلمس العلاقة بين الاحتقان من جهة، وقوة السلطة ووحشيتها من جهة أخرى، وخصوصاً أنّ الجيش بقي محايداً أو مساعداً، رغم ظهور بعض «الانشقاقات» فيه. بمعنى أنّ الصلابة قائمة، لكن كسر حاجز الخوف بطيء، وهو ما يجعل تآكل قوة السلطة أبطأ مما هو ضروري لانتصار الثورة. وهي المعادلة التي جعلت الشعب لا يسيطر على الشارع بعد، من خلال كسر قوة السلطة، ومن ثم تأخر تفكك السلطة، وتحوّل بعض قواها نحو وجهة تفرض التغيير.
التوسع البطيء، إذاً، كان يسمح للسلطة بهذا العنف المتتالي في المدن والبلدات. لكن التوسع مستمر، والخوف لا يدخل قلوب الشباب الثائر، الأمر الذي سيقود إلى انفجار عام، لا يسمح لقوى السلطة الممكنة بأن تسيطر على الوضع. لكن الوضع ذاك كان يجعل شعارات الحراك تنطلق من مبدأ التضامن مع المدن المحاصرة، وبالتالي كان يخفي المطالب الأساسية التي يتحرك الناس من أجلها. وبدت المسألة كأنّ الموضوع موضوع تحدٍّ من الشعب للسلطة «من أجل الحرية والكرامة»، لأنّ الاحتجاج بات يظهر كأنّه يطال تعدّي السلطة على المواطنين، وأنّ الاعتراض يطال العنف والوحشية، وليس لأنّ هؤلاء الشباب مفقرون ويعيشون وضعاً مزرياً نتيجة البطالة والأجر المتدني والعجز عن التعلم والعلاج. بدا أنّ التضامن هو شكل من أشكال كسر حاجز الخوف الذي سكنهم طيلة سنوات. لقد فجّرت جرأة سكان درعا الجرأة في مناطق أخرى، وفتحت لثورة شاملة تفرض تحقيق التغيير بإسقاط النظام. إسقاط النظام الذي أصبح الشعار الأساس بعد كلّ ذلك العنف في درعا، والذي بدأ يصبح شعاراً عاماً مع التوسع المتتالي الذي تشهده الثورة.
وإذا عدنا إلى المقارنة مع تونس (التي وضعها هو أقرب إلى سوريا من مصر، حيث القمع هو ذاته، وكبت الحراك خلال السنوات الماضية ذاته كذلك) فسنجد الفارق بين مجتمع محتقن إلى حد الانفجار السريع الذي فرض إسقاط الرئيس في أقل من شهر، بينما نجد أنّ عدم وصول الاحتقان حده الأقصى في سوريا جعل التوسع بطيئاً، ويحتاج إلى «محفزات»، كان التضامن مع السوريين في المدن التي تتعرض للعنف الشديد هو رافعتها. لكنّ الوضع ذاك قاد إلى أنْ تُمركز السلطة عنفها، وتنقله من منطقة إلى أخرى، كما قاد إلى تشوش الشعارات، وامتداد الزمن، وآلاف الشهداء والجرحى، وعشرات آلاف المعتقلين. لكن لا بد من أن نلاحظ هنا بأنّ عنف الانفجار التونسي فرض تحوّل الجيش (الذي كان مهمشاً في فترة بن علي) ضد الرئيس، وبالتالي قام بفرض تغيير ينطلق من طرده. بينما نجد تماسك جزء من القوة العسكرية في سوريا، ودفاعها عن النظام، ومن ثم تخوّف القوى الأخرى من التحرك نتيجة ذلك، وهو الأمر الذي لا شك يطيل الصراع، كما شاهدنا في اليمن. إلى أن يصبح ممكناً تحقيق تحوّل في بنية السلطة.
وانطلاقاً من ذلك، لا بد من تلمس مجمل المشكلات التي نشأت من أجل تحديد الصيرورة التي يمكن أن تتطور في الانتفاضة لكي تنتصر. هنا سنلمس مشكلة في الشعارات التي لم تطرح الأهداف بوضوح، ومشكلة تتعلق ببعض النخب التي مالت إلى اللغو بالتخوف من حرب طائفية، ومشكلة في غياب قوى سياسية جعلت الحراك عفوياً ويكتسب الخبرة في الممارسة.

حول الشعارات

بدأت الثورة في تونس بشعارات مطلبية تتعلق بالعمل والأجر، لكنّها تطورت إلى أن وصلت إلى طرح شعار إسقاط النظام. وفي مصر شملت الدعوة إلى إضراب «25 يناير» مطالب الحد الأدنى للأجور، وحق العمل وحل مجلسي الشعب والشورى، والدولة المدنية، لكن قوة الاستجابة دفعت إلى الانتقال السريع إلى شعار «الشعب يريد إسقاط النظام» في 28 كانون الثاني/ يناير، كون إسقاط النظام هو الذي يحقق تلك المطالب كما جرى في تونس. وفي اليمن وليبيا، بدأ الحراك من أجل إسقاط النظام.
لكن في سوريا، يبدو أنّ التشوش كبير. فقد طرحت تظاهرة 15 آذار/ مارس شعار «الله، سوريا، حرية وبس»، الشعار الذي تكرر في درعا لفترة، وفي بعض المناطق لكنّه تلاشى، درعا التي كانت تطالب بقضايا محلية خاصة. ولا شك في أنّ الشعار كان مربكاً، لجملة أسباب، أوّلها أنّه ردّ على شعار سلطوي أثير هو «الله، سوريا، بشار وبس»، وردود الأفعال توقع دائماً في إرباكات، وكان الإرباك الأكبر يتمثل في تكرار الردّ على خطاب السلطة في الشعارات، إلى الحدّ الذي بدا فيه كأنّه ليس هناك مطالب سوى شعار «الشعب يريد إسقاط النظام» الذي بدأ طرحه في التوسع وإنْ ببطء. ثم إنّه، ثانياً، أثار شعوراً بطابع ديني ما للحراك، وخصوصاً أنّه ارتبط بالخروج من المساجد في تظاهرات يوم الجمعة. ولذلك مفاعيل إشكالية تحتاج إلى حلول. ثم ثالثاً إنّه ركّز على الحرية «وبس»، بينما مشكلات 80% من المجتمع ليست الحرية فقط، بل أساساً غياب العمل (البطالة) والأجر المنخفض، وانهيار التعليم وتقليص مجانيته بقصرها على نخبة، وانهيار الصحة، وبالتالي عبء العلاج في وضع معيشي صعب، إضافة إلى مشكلات السكن والزواج. وبالتالي، فالحرية ليست هي المطلب الوحيد، ولا المطلب الأول، ستكون مطلباً لدى الطبقات الشعبية المنتفضة فقط لحظة شعورها بضرورة التحرك دفاعاً عن ذاتها التي باتت تساوي الموت، نتيجة الوضع الذي أشرت إليه.
لكن سنلحظ بأنّ طرح هذا الشعار لم يهدف إلى المطالبة بإسقاط النظام، بل كان يتضمن الحرية ضمن النظام، أي الدعوة إلى تغيير بنية النظام الاستبدادية نحو بنية ديموقراطية، لدى طارحيه، أو كان رداً على العنف السلطوي من أجل التخلص من هذه الاستبدادية. وبالتالي، إلى هنا لم يكن شعار إسقاط النظام مطروحاً، فالناس باتوا يشعرون بحقهم في المطالبة بحقوقهم.
وإذا كان شباب متحمس، بعضه يدخل الصراع لأول مرة، وبعضه على تواصل مع أحزاب معارضة، قد طرح الشعار في 15 آذار (ربما بتأثير أحزاب معارضة)، فقد أصبح شعار درعا كتحدّ للقمع العنيف الذي مارسته السلطة في 18 آذار. لكن الأمور سارت نحو شعارات تؤكد التضامن مع درعا خلال تظاهرات بدأت صغيرة، لكنّها توسعت في بعض المناطق. وسرعان ما قاد القمع العنيف في درعا إلى أن يصبح شعار «الشعب يريد إسقاط النظام» هو الشعار الأساس هناك، وأخذ ينتقل إلى المناطق الأخرى، بعد عنف شديد من السلطة. ويبدو أنّه بعد هذا العنف لم يعد من حلّ وسط، أو مطالبة بإصلاح، ما أدى إلى توسع انتشار الشعار، ليصبح الشعار المركزي في كل التظاهرات. لكن لا بد من أن نلاحظ بأنّه إذا كان أهل درعا يعرفون مطالبهم التي طرحت قبل الحراك، وبالتالي جاء شعار إسقاط النظام كسياق طبيعي لتحقيقها، فإنّ انتقاله السريع إلى المناطق الأخرى قد أدى إلى «القفز »على المطالب الخاصة، ليس بالمناطق فقط بل، بالطبقات الاجتماعية كذلك. وبهذا، فقد بدا أنّه يقوم على «فراغ»، رغم أنّ الشباب كانوا يشيرون إلى العمل والأجور وتدخلات السلطة، والتعليم والصحة. لكن أصبح طرح هذه المطالب كشعارات، بعد انتشار شعار إسقاط النظام، مرتبطاً بالتراجع عن المطلب الأساس ذاك، ومعبّراً عنه.
وإذا كان الانتقال السريع للانتفاضة في درعا، بعد العنف الشديد الذي مورس، قد أفضى إلى الانتقال إلى شعار إسقاط النظام، فقد أصبح الشعار مربكاً في المناطق التي لم تكن قد دخلت الصراع بعد، فبدا أنّها تنتقل إلى الشعار في قفزة لم يكن الاحتقان وحاجز الخوف يسمحان بها. لقد بدا أنّ النزول إلى الشارع ليس من أجل مطالب محدودة يتلمسها المحتجون، بل من أجل هدف كبير طالما صُوّر كمستحيل، وكان يبدو «خارق» للإمكانية. وهو الأمر الذي شلّ إمكانية تجاوز التخوّف والتردد. لكن كان هذا السياق «طبيعياً»، نتيجة الوحشية التي مورست في درعا، لكنّه فرض تأخر دخول مناطق أخرى. وأفضى ذلك إلى مشكلات ترابطت مع «التشقق الطائفي»، فأصبحت المسألة تتعلق بإسقاط النظام دون مطالب توضّح الأسباب التي تفرض ذلك، وبالتالي الأسس التي يجب أن يقوم عليها النظام الجديد. هنا بدت مسألة السلطة مجردة عن كلّ المصالح، سواء من زاوية الفئة الحاكمة التي راكمت الثروة، أو من زاوية المفقرين الذين سُحقوا خلال عملية النهب الطويلة. جعل ذلك الفئات الأكثر فقراً تبدو كأنّها تدافع عن سلطة المال، فقط لأنّها محسوبة (سواء لأنّها تعتقد ذلك أو لأنّ آخرين يحسبونها كذلك) على السلطة، أو أنّ السلطة محسوبة عليها.
الشعارات الأخرى جاءت رداً على خطاب السلطة الذي أصبح يصوّر الحراك كحراك مجموعات سلفية، ويتحدث عن استخدام للسلاح. وأيضاً ربط الحراك بـ«مؤامرة خارجية». لذلك رفعت شعارات «لا سلفية ولا إرهاب الثورة ثورة شباب»، و«لا سلفية ولا إخوان، لا رفعت ولا خدام»، و«لا أميركا ولا إيران». مع تركيز على إسقاط بشار الأسد، أو حديث عن فساد رامي مخلوف، وذي الهمة شاليش.
وظلّ شعار الحرية يتردد، ويبدو أنّه الردّ على القمع والقتل، أكثر من تضمينه معنى واضحاً. وكذلك بقي شعار «التضامن» مع المدن المحاصرة أو التي تتعرض للقصف والقتل هو الشعار المتكرر إلى الآن. وأحياناً يشار إلى الديموقراطية، وأخرى إلى الدولة المدنية.
وبالتالي يمكن تحديد طابع الشعارات التي تكررت بالآتي: جزء يركز على إسقاط النظام، ورحيل الرئيس، أو إسقاطه، وما إلى ذلك وفق التعبيرات المحلية في كل منطقة؛ جزء يكرر تعابير دينية، وخصوصاً «الله أكبر»، و«على الجنة رايحين»؛ جزء يؤكد على التضامن بين المدن والمناطق؛ جزء يطالب بالحرية؛ جزء أقل يلمس المطالب المحلية أو الاقتصادية، ويشير إلى الفساد؛ وجزء أخير محدود، يطرح ما هو وطني (مسألة الجولان).
لكن شاب الحراك ميل كان يتصاعد نحو «الشخصنة»، أي التركيز على الرئيس وعائلته، ونحا البعض لاستخدام تعبيرات «دون سياسية»، أخلاقية، وهو ما كان يشوّه الوضع، ويؤسس لسوء فهم لدى قطاعات لم تنضم. ولقد نشأ ميل «تفريغي» للسباب والشتائم، والتحقير الشخصي، وكلّ ذلك كان يضرّ، فالمسألة ليست شخصية، ولا الصراع كذلك، بل إنّها مسألة سلطة نهبت واستبدت، وبالتالي فشعار إسقاط النظام يتضمن إسقاط السلطة بمجملها، بما في ذلك النمط الاقتصادي الذي تشكل، وسمح بالنهب وتمركز الثروة وتدمير الزراعة والصناعة.
في هذا الوضع، لم يعد واضحاً الهدف من الثورة، سوى إسقاط النظام، الشعار الذي لم يصبح بعد هو الشعار المتوافق عليه في كلّ التظاهرات، ويخيف قطاعات مجتمعية لم تشارك بعد في الثورة، وتتردد قوى المعارضة في طرحه. لقد أصبح مربكاً إلى حد معيّن، لأنّه يجعل طرح أي مطلب يتعلق بالمعيشة أو الدولة المدنية أو الديموقراطية، يبدو أقل من الهدف الأساس، وخصوصاً أنّه ارتبط بشعار الحرية، الأمر الذي فتح الأفق على عمومية لا حدود لها، وبالتالي لا معنى لها. فما البديل من النظام، ما دام الشعار أصبح يتعلق بإسقاط النظام؟ ألا يجب أن يحقق مطالب الطبقات الشعبية التي تقوم الثورة على أكتافها؟ سيسمح ذلك بتحقيق تغيير تقتنصه قوى سياسية برامجها واضحة، وتتعارض في الغالب مع المطالب الشعبية التي فجّرت الثورة، وفي الوقت ذاته يؤسس لارتباكات بين المفقرين الذين هم أساس الثورة. من هنا، يبدو الغموض في الأهداف مشكلة لا بد من تناولها، وهو وضع معاكس لأوضاع تونس ومصر، حيث كانت المطالب واضحة قبل طرح شعار إسقاط النظام.
إنّ الوصول إلى شعار إسقاط النظام لا يجب أن يهمش المطالب الأساسية التي تتعلق بقوى الثورة، العمال والفلاحون والفئات الوسطى، وإلا فلن تتحقق أهداف هؤلاء، ولسوف تقتنص قوى لا تختلف طبقياً عن السلطة الثورة، وتعيد إنتاج السلطة ذاتها بأشخاص جدد ربما. لكن هذا الأمر لن ينهي الثورة، بل سيعيد استنهاض الثورة من جديد، ما دامت لم تحقق مطالب الطبقات الشعبية. ولهذا يجب أن تتحدد الشعارات التي تعبّر عن مطالب الثورة لكي يكون واضحاً بأنّ إسقاط النظام يهدف إلى تحقيقها، لا لكي تقطف قوى أصولية أو ليبرالية ثمارها. من هنا لا بد من التأكيد على المطالب «البسيطة» التي تخص الطبقات الشعبية، وهي ليست بسيطة إلا من حيث الشكل، لكنّها تفتح على تغيير عميق في كلية النمط الاقتصادي. كما لا بد من التأكيد، لا على الحرية فقط، بل على الدولة المدنية الديموقراطية، لكي يكون واضحاً بأنّ الثورة تهدف إلى دولة المواطنين لا الى دولة الطوائف، فتنطلق من مبدأ المواطنة وأنّ الشعب هو مصدر الدساتير والقوانين والسلطات، لأنّ كل ذلك هو الذي يوحد الطبقات الشعبية في الصراع من أجل إسقاط النظام.

* كاتب عربي