بيان «مجلس التعاون الخليجي» الذي طالب النظام السوري بتحقيق المطالب الإصلاحية التي يرفعها المعارضون كهدف لتحرّكهم، يذكّر في أحد جوانبه بتلك الطرفة التي كانت تتداول في بعض أوساط النخبة الحاكمة و«الموثوقة» في موسكو السوفياتية: التقى أميركي رأسمالي وروسي سوفياتي في إحدى المناسبات الدولية. قال الأوّل: نحن نعيش في ظلّ نظام حر. أستطيع أنا، مثلاً، أن أقف في واشنطن أمام «البيت الأبيض» وأشتم الرئيس نيكسون. أجاب السوفياتي على الفور: وأنا أيضاً أستطيع أن أقف في قلب «الساحة الحمراء» في موسكو وأشتم الرئيس نيكسون! الطرفة، وحسن التخلص في موقف الروسي السوفياتي، كان بالطبع الجانب الساخر لمشكلة جادة هي غياب الحريات السياسية في النظام الاشتراكي الجديد. هذه المشكلة قد مثّلت، دون أدنى شك، عاملاً رئيسياً من عوامل انهيار الأنظمة الاشتراكية التي أدى دوراً محورياً في قيامها انتصار «البلاشفة» في روسيا في 1917.
ورغم ذلك لا يجوز مقارنة الوضع في «دول مجلس التعاون الخليجي» بذلك الذي كان قائماً في «المنظومة الاشتراكية» التي بدأت بالتداعي. فالانهيار منذ أواسط الثمانينيات من القرن الماضي. ففي حالة دول التجربة الاشتراكية الجديدة، حصلت أخطاء في الأولويات وفي الأساسيات، من ضمن سعي ريادي عظيم صنعته آلاف العقول المبدعة وملايين السواعد المناضلة من أجل التحرّر والانعتاق والتقدّم الاجتماعي والاقتصادي والسياسي.
أما في مجلس التعاون الخليجي، فتهيمن حالة من التخلف والارتهان وانتهاك حقوق الإنسان التي لا مثيل لبعضها، ربما في أيّ مكان من العالم. هذا هو الواقع الحقيقي الذي لن تستطيع أن تحجبه أدوات وألاعيب الثروة الأسطورية التي يتمتّع بها معظم دول ذلك المجلس، وفي المقدّمة منها المملكة العربية السعودية.
قيل قديماً: إذا لم تستحِ فافعل ما شئت. والآن يمكن القول إذا كنت قوياً أو غنياً فافعل ما شئت! بالأمس القريب أرسلت دول مجلس التعاون قواتها المسمّاة «درع الجزيرة» من أجل المساهمة في إخماد الانتفاضة الشعبية في البحرين. حصل ذلك دون أن يُستنفر «المجتمع الدولي»، و«الرأي العام العالمي»، و«الشرعية الدولية»، ودون محاولات احتجاج أو تهديد بعقوبات أو منع من السفر أو تجميد أصول (وهي هنا، للمناسبة، ذات معنى حقيقي بسبب الثروات الخيالية المودعة في البنوك الأميركية والأوروبية والعائدة لملوك دول مجلس التعاون وأمرائها وحكامها). وبالأمس أيضاً تابعنا المحاولات الريادية لعدد من النساء والعائلات في المملكة العربية السعودية من أجل الحق في قيادة سيارة خاصة! مجرّد قيادة سيارة خاصة. ولقد كانت دروع النظام أيضاً حاضرة لمواجهة محاولات «الإفساد في الأرض»، وقمعها، حفاظاً على قيم المجتمع وعاداته ونقائه! يقف هؤلاء اليوم، من دون خجل، للمطالبة بالإصلاح في سوريا! فأيّ إصلاح هو ذلك المطلوب فعلاً؟! هل هو الإصلاح الضروري الذي يحتاج إليه الشعب السوري في مجال حرية التعبير والتنظيم وحق الاختيار، وفق قوانين تنظّمه وقضاء يحرسه وتعددية تؤول السلطة بموجبها إلى الأكثرية وفق اقتراع حر وديموقراطي...
لا شكّ في أنّه ليس هذا هو الإصلاح الذي يطالب به مجلس التعاون الخليجي. إنّه «إصلاح» العلاقة مع واشنطن وتل أبيب، دون أدنى شك. ففي السياسة السورية ثمة سياستان. الأولى داخلية، وهي موضع الشكوى الشعبية في مجالات السياسة وفي حقول الاقتصاد (وخصوصاً بعد «الانفتاح» الذي تسرّعت خطواته وكثر ضحاياه في السنوات الأخيرة)، وحيث تبلورت كتلة سياسية/ أمنية/ اقتصادية تستأثر بالقرار وتمارسه بقوة الإكراه والقمع. والثانية خارجية، حيث احتفظ النظام بسياسة اعتراض على المشاريع الأميركية والإسرائيلية، وممارسة إعاقة لهذه المشاريع في أكثر من ساحة وبلد وميدان. لقد كان المطلوب من القيادة السورية، حسب واشنطن وحلفائها، تعميم سياسة «الانفتاح» على الشق الخارجي، هذا فيما كانت تلك القيادة تحاول الفصل بين الأمرين، آملة أيضاً أن تسهم تنازلاتها الداخلية في تخفيف الضغط على نظامها، وفي إتاحة فرص ممارسة دور إقليمي، هو بدوره عامل تبرير وتوازن في الصراعات الداخلية.
ومع ذلك، فمجلس التعاون الخليجي قد تأخر في إبداء حرصه على «الإصلاح» في سوريا وعلى المطالبين به! الأمر ببساطة، لأنّ مجلس التعاون كان يخشى، بالفعل، أن يستجيب النظام السوري للمطالب الإصلاحية جدياً. فإذا كانت السياسة السورية الخارجية هي المستهدفة أوّلاً من قبل واشنطن، فإنّ أولوية السعودية ومجلس التعاون الخليجي هي مرحلياً في السياسة الداخلية حصراً! وحين اطمأنّت سلطات مجلس التعاون الخليجي إلى اعتماد السلطات السورية للحل الأمني، دون الحلّ السياسي الإصلاحي، انتقلت فوراً إلى تنفيذ أمر العمليات الأميركي. وساعد في هذا الانتقال أيضاً رفض القادة السوريين للطلبات المتعدّدة التي حملها القادة الأتراك والكويتيون والبحرينيون وسواهم، من أجل تغيير سياسة سوريا الخارجية، والتخلي عن تحالفاتها، وخصوصاً مع الجمهورية الإيرانية ومع عدد من قوى المقاومة في لبنان وفلسطين والعراق...
وتجنّد المملكة السعودية خصوصاً في الترويج لمواقفها آلة إعلامية هائلة، أُنفقت من أجل إقامتها مبالغ لا يستطيعها أحد سواها. وهي تمكّنت، في سياق ذلك، من توظيف طاقات مهنية وصحافية كفوءة، أغرتها ببعض مظاهر الحيادية والموضوعية، كما أغرتها أساساً برواتب يمكن القول إنّ بعضها يضاهي رواتب كبار المديرين في أضخم المؤسسات المالية العالمية. في الآلة الإعلامية الهائلة تلك، تعمل مئات المؤسسات المرئية والمسموعة والمكتوبة، وبميزانيات بالغة السخاء والضخامة، ويصبح في صفحات هذه المؤسسات وأثيرها وشاشاتها التحرّك الشعبي البحريني المحدود المَطالب والسلمي الأساليب والحضاري والمهذّب، تدخلاً إيرانياً يهدّد مملكة البحرين خصوصاً، ودول مجلس التعاون الخليجي عموماً.
ونقرأ العجب أيضاً في مواقف أقلام انتمى بعض أصحابها يوماً إلى حركة التغيير والتقدّم والثورة والاشتراكية: إنّه نوع من الشيزوفرانيا في أوضح صورها. كلام جميل في كشف آليات الاستبداد وفي هجاء التفرّد والاستئثار، لكنّه لا يقترب في ذلك من الملك وحاشيته وآليات حكمه وارتباطاته الخارجية. وهو لا يذكر شيئاً بالتأكيد عن الفحش والهدر والإكراه باسم الدين أو المذهب أو الأسرة التي تملك تفويضاً إلهياً، لا نملك حياله إلا القبول والرضوخ والطاعة. فبذلك، تدوم نعم الأرض وتُفتح أبواب السماء. يقول صديق في افتتاحية إحدى الصحف السعودية، عشية مثول مبارك أمام القضاء: «لا يخطر في بال الرئيس أن يكتفي بولاية أو اثنتين... مرسوم تعيينه سطّره التاريخ... الشعب سعيد ويدعو له بالعمر المديد...». وتكاد المشكلة التي تتكرّر في تلك الافتتاحية وسواها، بالنسبة إلى هذا «الرئيس»، أنّه ليس ملكاً أو أميراً! فلو كان كذلك، لما تعرّض للخلع، ولا لانتقادات كاتب افتتاحية الزميلة «الحياة» (4 آب الجاري)، وافتتاحيات ومقالات أخرى في الصحف المنتشرة من الخليج إلى المحيط الأطلسي!
كان باسكال يقول «الحقائق على طرفي جبال البيرينيه ليست واحدة». كان يقصد من وراء ذلك الإشارة إلى تأثير البيئة ومعطيات الجغرافيا في تكوين معتقدات الناس وأفكارهم وقيمهم. لكنّ خياله لم يجنح إلى حدود ما نراه اليوم من اعتداء على المشتركات الإنسانية، القيمية والأخلاقية، بسبب الاحتفاظ بالسلطة أو من أجل حفنة من الدولارات.
إنّ النظام السوري يدفع اليوم، ويدفِّع معه الشعب السوري وكلّ القضية العربية، ثمن خطئه في عدم الاستفادة من التجارب التي قللت من شأن الحرية كقيمة، فجعلها مؤجلة وغير ذات أهمية أو أولوية، متناسياً أنّ الحرية هي أحد أبرز مكوّنات ثالوثه الشهير: وحدة، حرية، اشتراكية. لكنّ الخطيئة الأكبر والأفدح والأخطر تبقى في سياسات وارتهانات تلك الأنظمة التي سخّرت ولا تزال كلّ ثروات الأمة وتراثها الروحي لمصلحة أعدائها، بمن فيهم الصهاينة أنفسهم.
إنّ الأولوية تبقى هنا إذاً، رغم أنّ أولوية الحرية تخترق كلّ الأولويات منذ انتفاضات العبيد إلى... كفاح المرأة السعودية في أن تقود سيارتها ولو بمواكبة «محرم» من أفراد عائلتها!
* كاتب وسياسي لبناني