لم يكن ترتيب إلقاء الرئيس السوري بشار الأسد خطابه الأخير أمام قادة النقابات العمالية ليخلو من مغزى جديد، فالطبقة العاملة التي أهملت قضاياها لعقد ونصف العقد، يعيد إليها الخطاب بعض الأمل، وهو أمر بالغ الأهمية والدلالة. فالنقابة والاقتصاد وقروض التسليف الشعبي والمشاريع الصغيرة والحالة المعيشية للمواطنين كلها مفردات تذكر بواقع الحال العمالي خصوصاً والاجتماعي الفقير عموماً.
وكان تجديد منح القروض التسليفية قد سبق فعلياً الخطاب، وكذلك سبقه إعلان مرسوم رئاسي بالعفو عن جرائم الفرار من الخدمة العسكرية في الداخل والخارج. فالتشريع/ المراسيم تسبق كلام الخطاب في إشارة إلى تكريس المؤسساتية رغم الفساد الإداري الضارب! لكن الخطاب لم يقتصر على هذه الجوانب، فقد تطرق لطيْف واسع من المسائل؛ منها تأكيد الشكر للأصدقاء والأشقاء؛ الأصدقاء الصين وروسيا الاتحادية، والشقيقة إيران. فإيران وعلى مدار الخطاب منحت لقب «الشقيقة» تكريماً لدعمها الاقتصادي والتأميني (خطوط الائتمان) والعسكري التسليحي والاستشاري، حيث جرى التأكيد في الخطاب أن المشاركة الإيرانية العسكرية استشارية فحسب بالرغم من شكاية الخطاب من نقص عديد الجنود المنتشرين على عشرات الجبهات. وهو ما يفسر التصعيد الأخلاقي والوطني بما يخص الفارين من الخدمة، فإلى جانب هذا التصعيد توجد مرونة وليونة تشريعية/ مراسيمية بخصوص الفرار وهو ما مارسه الخطاب في الشق السياسي؛ تصعيد كلامي ومرونة عملية ودبلوماسية. إيران «الشقيقة» تشارك بالسلاح والعتاد والمستشارين العسكريين، لكنها لا تشارك في الجنود الإيرانيين، وهذا أمر «منطقي»؛ فوجود رجال المقاومة اللبنانية في ميادين القتال المتعددة يردم هذه «الفجوة» ويجعل نبرة الخطاب في غاية الامتنان للمقاومة اللبنانية في دفاعها المستميت عن الدولة السورية، هذه المقاومة التي وعت منذ ظهورها في الربع الأخير من القرن الماضي أن مصيرها مرتبط عضوياً بوجود ومصير الدولة السورية في شكلها «القومي». أما الشق السياسي فقد تطرق إليه الخطاب بشكل سلبي، حيث تظهر الثقة بالنفس لتعكس الثقة بالحلفاء والأشقاء ولتضغط معنوياً ونفسياً على المعارضين المسلحين الذين لم يدركوا حتى الآن ضرورة الحوار والتفاوض، وضرورة وقف القتل وسفك الدم السوري. ولم تقتنع هذه الفصائل بعد أن لا حل عسكرياً لهذا النوع من النزاعات. فالتصعيد الكلامي وإظهار السلبية تجاه قضايا الحوار والتفاوض السياسي يخفي من الجهة الأخرى مرونة عملية ودبلوماسية تجاه الخصوم المسلحين إذا ما استثنينا التنظيمات الإرهابية كداعش والنصرة وغيرهما من المنظمات الظلامية التكفيرية.
ففي وقت كان الخطاب يعلن أنه لا فرصة الآن للسياسة والعمل السياسي في ظل وجود الإرهاب وفي سياق أولوية مكافحته، كان دي مستورا ومن على منبر الأمم المتحدة يدلي بإمكانية سير المسارين بشكل متواز: مناقشة مكافحة الإرهاب ذات الأولوية الحكومية من جهة، في موازاة مناقشة «هيئة الحكم الانتقالي» ذات الأولوية من طرف المعارضة بالشراكة مع النظام مع نقل صلاحيات الرئاسة إلى هذه الهيئة من الجهة الأخرى.
في هذا الوقت كان يقوم تحالف بين «هيئة التنسيق» و«الائتلاف الوطني» وفق تفاهمات مؤتمر القاهرة والتي تطرح فيما تطرح: أن لا مستقبل للرئيس بشار الأسد في المرحلة الانتقالية! وبالرغم من إعلان هذا التحالف وهذا الرأي المستفز للطرف الحكومي، إلا أن دمشق الرسمية لم تقم برد فعل خشن تجاه التحالف الجديد وتصريحاته! وهو ما يشير إلى تدبير روسي/ حكومي بهذا الخصوص.
الخطاب هذه المرة يأخذ طابعاً مركباً؛ يخفي ما يخفي ويظهر ما يظهر، والكلام لاحق للتحقيق والفعل، وأن الحل السياسي آت لا محال لأن لا مجال لحل عسكري في نزاعات كهذه، هذا من جهة ولأن غرض النزاع بالأساس سياسي من جهة أخرى. كما أن جهة الحسم متعذرة سواء لجهة الداخل ام لجهة الإقليم والعالم، فالتواطؤ الأميركي الروسي يمنع إمكانية الحسم لأي طرف. لكن ما يمكن أن نأمله هو الالتفات أكثر إلى الطبقات الكادحة والمنتجة من عمال وفلاحين كونها تعيش ظروفاً قاسية، فسورية الأمس وسوريا الغد لا يمكن أن تحيا وتزدهر كدولة «رجال أعمال»
فحسب!
* كاتب سوري