قبل أقل من ثلاثة أشهر على الانتخابات التشريعية المغربية، يتصدر الإسلاميون المشهد الإعلامي. وبينما يقف زعيم حزب العدالة والتنمية عبد الإله بنكيران، في جولاته في ربوع المغرب أمام آلاف الأنصار، يخطب مرة بحدة ومرة بخفة، يكتفي زعماء جلّ الأحزاب بالحديث في التلفزيون. عندما تدقق النظر في عيني زعيم العدالة والتنمية تجده جاداً بعمق، مع ذلك يهرّج أحياناً ليتخلص من الصورة النمطية للإسلاميين. يريد أن يظهر بشكل «لايت». يدرك مأزقه، وقد شهد ما جرى قبيل الانتخابات التشريعية في 2007. حينها، أصدر معهد أميركي استطلاعاً يقول إنّ 47% من المغاربة سيصوّتون للعدالة والتنمية. أثار ذلك الاستطلاع هلعاً لدى الخاسرين والرابحين، فاتفق النقيضان. أدان الخصوم الخاسرون الأرقام، واعتبروا النتيجة مبالغاً فيها، واتهموا الحزب بغموض مرجعيته الإسلامية وازدواجية الخطاب والازدواجية التنظيمية.حتى الرابحون المفترضون، بدل أن يحتفلوا بالنصر، وجدوا أنفسهم في ورطة، فأنكروا. وهكذا، قاد حزب العدالة والتنمية حرباً غريبة ضد نتائج استطلاع في مصلحته، مقلّلاً من قيمته، كأنّه شتيمة. بالتزامن مع تلك الأجواء، كان قد صدر كتاب «الحكومة الملتحية، دراسة نقدية مستقبلية» لعبد الكبير العلوي المدغري، وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية في عهد الحسن الثاني، وهو عرّاب دخول الإسلاميين المغاربة إلى الحقل السياسي. في ذلك الكتاب ابتهج المدغري بالقوة الانتخابية للإسلاميين، وكان الإخوان المسلمون في مصر قد ضاعفوا عدد مقاعدهم رغم البلطجة والاعتقالات في انتخابات 2005. وقدّر الوزير السابق أنّ ذلك سيكون حال الإسلاميين المغاربة. وتمنى حصول المعادلة الآتية: شعب مسلم + ديموقراطية وانتخابات نزيهة = حكومة إسلامية. لكن ليس كل ما يتمناه المرء يدركه، لذا توقع أن يكون النجاح الانتخابي شراً للإسلاميين. فبسبب فقر الدستور الإسلامي والظروف المحلية والدولية، توقع أن تسبّب الحكومة الملتحية معادلة قبيحة: شعب مسلم + انتخابات نزيهة = أزمة سياسية.
في 2011، تغيّرت الظروف المحلية والدولية. سقط حسني مبارك وزين العابدين بن علي، أشرس خصوم الإسلاميين، بينما خصم آخر يتزعزع في سوريا. والنتيجة هي أنّ فرصة فوز الإخوان في الانتخابات وافرة في مصر وتونس والمغرب، ويحتمل أن يتحالفوا مع السلفيين الذين يجرون مراجعات عقائدية خفيفة. وقد طلب من محمد الفيزازي، شيخ السلفية في المغرب، الترشح مع حزب العدالة والتنمية.
براغماتياً، سيضطر الحزب إلى التحالف مع أحزاب تشارك في الحكومة الحالية، إذ إنّ بنكيران يبتسم لكي لا يخيف، واليد ممدودة له من أحزاب كثيرة، تريد أن تجره إلى اليمين الليبرالي. وقد قال زعيم حزب الحركة الشعبية محند العنصر «لدينا نقاط كثيرة مشتركة مع العدالة والتنمية، ولدينا نقاط اختلاف كبيرة معه». كيف نفهم ذلك؟ يُجيب عبد الله العروي بأنّ «الليبرالي يرى في الشورى والإجماع رديفين للديموقراطية». تلك أرضية توافق، لليبرالي الحرية في السوق، وللإسلامي الحرية في صون الأخلاق الفاضلة.
لتوسيع الخيارات أمامه، صرّح بنكيران بأنّ «الاشتراكيين رجال» ويمكنه أن يتحالف معهم. وقد تحالف معهم في الانتخابات البلدية في مدينتي الرباط وأغادير.
في 2007، لم يكن ذلك وارداً، وقد فاز الحزب الإسلامي حينها بالمرتبة الأولى بعدد الأصوات. لكن القانون الانتخابي مكّن حزب الاستقلال من الحصول على المرتبة الأولى على صعيد المقاعد في البرلمان، وذلك من أساليب السلطة في المغرب لتجنب المشاكل. لا يجوع الذئب ولا يفنى الغنم.
يفترض مع الدستور الجديد أن تتقدم الإرادة الشعبية على تلك المقالب الناعمة، وحينها سيفوز حزب العدالة والتنمية في الانتخابات، وبناءً عليها سيعيّن الملك محمد السادس وزيراً أول إسلامياً. وزير قد يكون مطيعاً، وحينها لا مشكلة. وقد يكون رئيس وزراء حقيقياً، يصرّ على ممارسة كل صلاحياته. هنا سينتهي حكم الكواليس والتكنوقراط وسيعرف المغرب تغييراً.
بناءً على الافتراض الثاني، سيواجه الحزب مشاكل صعبة. فإذا كان العداء الخارجي للحكومة الملتحية قد قلّ، وقد رفع الفيتو الأميركي عن حكم الإخوان لمصر، فإنّ المشاكل التي ستواجهها الحكومة الملتحية محلياً لم تقلّ، هذا إن لم تكن ازدادت. فهل ستكون تلك الحكومة ملتحية أو إسلامية؟ الحكومة الإسلامية، حسب المدغري، هي التي تنفذ البرنامج الإسلامي، وتجمع بين الازدهار والفضيلة، تصطدم بالبرجوازية المحلية وتصادر الثروات لتعيد توزيعها على الشعب. أما الحكومة الملتحية فليس لها من الإسلام إلا اللحية وتعمل بالتشريع الوضعي، وستتابع تدبير المال والاقتصاد في بنيته وشروطه الحالية، وتكتفي بالصلاة والصوم والحجاب. ما الخيار الذي سينتصر؟ قبيل انتخابات 2007، تحالف حزب العدالة والتنمية مع حزب رجل الأعمال عبد الرحيم الحجوجي. أثار ذلك خوفاً. جرى التحالف لطمأنة الأغنياء على أملاكهم. هذا في باب المال والاقتصاد الذي لا يُعلى عليه، وخاصة أنّ كرسي المعارضة أقل عبئاً من كرسي الحكم، فالحزب المعارض له الحق في أن يطالب الحكومة بتحقيق نمو اقتصادي يبلغ 10% للقضاء على البطالة. لكن حين يصل إلى كرسي الحكم يكتشف عجزه...
وماذا ستفعل الحكومة الملتحية تجاه أشباهها؟ في غزة، سحقت حكومة حماس الإسلاميين الأكثر تشدداً الذين يزايدون عليها في محاربة المنكر. طبعاً، يحق لحماس في ظروفها أن تنسف مسجداً بمن فيه. في المغرب، كيف سيتعامل الوزير الأول الإسلامي مع الذين يرفعون في وجهه شعار «الإسلام هو الحل»؟ سيقول لهم إنّ الإسلام قائم في البلد، حتى لو لم تصبح المساجد أضعاف الحانات الموجهة إلى السياح فقط.
وماذا ستفعل الحكومة الملتحية مع خصومها؟ كان بنكيران من الأوائل الذين هاجموا حركة «20 فبراير» الشبابية. مستقبلاً، ستكون شرعية الحكومة الملتحية رهينة لقدرتها على حماية حرية التعبير لدى خصومها، والخصم الأخطر للإسلاميين هو الشباب العلماني الذي أطلق شعلة الربيع العربي.
نظرياً، تلك ليست ثورة فقهاء وآيات الله، بل ثورة شارع أنشأها شباب علماني قليل العدد، لكن مصمّم وله مرجعية واضحة. والإسلاميون الذين يصعدون منتشين الآن، لم يتوافر لهم وقت بعد لينتبهوا إلى طبيعة الأرض التي يتحركون عليها. إنّها أرضية الديموقراطية والحزبية النسبية التي لعنوها طيلة تاريخهم. ها هم يستخدمونها الآن، ظنّاً منهم أنّها قفاز سيتخلصون منه في نهاية الطريق. الإسلاميين سيدوسون هذه الحقيقة، وسيكونون أمام خيار تحقيق عدالة اقتصادية تحطم الفساد السائد، فإن نجحوا ستتقوى ثقتهم بأنفسهم وسيصير النموذج التركي بوصلتهم. أما إن فشلوا اقتصادياً، فسيلجأون إلى تشدد أخلاقي ضد سراويل الجينز النسائية، حرصاً على الحياء في الفضاء العام.
للتذكير، ليس هذا سبب إحراق البوعزيزي في تونس والكنوني في المغرب نفسيهما، بل بسبب عربتي خضر وخبز، وبسبب الإهانة. لا يجوز أن تنسى الحكومة الملتحية نقطة الانطلاق.

* صحافي مغربي