إنّ سرعة انتصار الثورة في طرابلس، إثر الانتفاضة التي انطلقت داخل العاصمة مساء السبت 20 آب، ودخول الثوار إليها من ضاحيتها الفقيرة، وسط تهليل شعبي، ذكّرنا بغبطة التونسيين والمصريين عند سقوط الطاغية، في كلّ من البلدين. فاجأت تلك السرعة الجميع، بمن فيهم حلف شماليّ الأطلسي (الناتو). والحال أنّ سرعة الانتصار في طرابلس خالفت المخطط الذي وضعته المنظمة، مهما ادّعى بعض أطرافها في نسب الانتصار إلى دعمها. فما هو ذاك المخطط الذي كانت الناتو قد رسمته؟فلنبدأ بما قاله بعض المنتمين إلى أوساط الحلف الأطلسي ذاتها. ماكس بوت منهم، وهو أحد المحافظين الجدد البارزين، ومؤرخ عسكري مشهور بتأييده لـ«نشر الديموقراطية» بقوة السلاح، وقد دعا بحماسة إلى تدخل عسكري أميركي أكبر وأوسع نطاقاً في ليبيا. في مقالة له نشرتها «وول ستريت جورنال» في 19 تموز 2011، أشار إلى تعليق في صحيفة «فايننشال تايمز» (15 تموز) قارن بين حملة القصف الجوّي في ليبيا وحرب كوسوفو الجوّية في 1999، كي يبيّن «نقص القوة النارية في عملية ليبيا». فأثنى بوت على المقارنة، مضيفاً إليها المزيد من التفاصيل: «كانت حرب كوسوفو ذاتها حرباً محدودة. إلا أنّه بعد مرور 78 يوماً، كان حلف شماليّ الأطلسي قد أرسل 1100 طائرة ونفذ 38004 طلعات جوية. أما في ليبيا، فقد أرسل 250 طائرة فقط، ونفذ 11107 طلعات جوية. وليس من باب الصدفة أن يقرر سلوبودان ميلوسيفيتش التخلّي عن كوسوفو بعد 78 يوماً، بينما لا يزال القذافي متربصاً بالسلطة بعد مرور 124 يوماً حتى الآن».
مفارقتا حملة الناتو في ليبيا
يمكننا التوسع في المقارنة؛ ففي «عملية عاصفة الصحراء» التي شنّتها قوات التحالف الذي قادته واشنطن ضد العراق في 1991، كفت 11 يوماً لتنفيذ عدد من الطلعات الجوية يعادل التي نُفّذت فوق ليبيا في 78 يوماً. وقد بلغ العدد الاجمالي للطلعات الجوية في 43 يوماً من «عملية عاصفة الصحراء» 109876، أي ما معدّله 2555 طلعة جوية في اليوم الواحد. بعد التدمير الناجم عن تلك «العاصفة» وحملات القصف الأخرى خلال سنوات الحصار الاثنتي عشرة بين 1991 و2003، نُفّذت 41850 طلعة جوية في الأسابيع الأربعة الأولى مما سمّي «عملية تحرير العراق». من بين هذه الطلعات، 15825 طلعة هجومية، ما يعادل 565 طلعة في اليوم الواحد. بناءً على ذلك، كان أندرو غيليغان محقاً في تعليقه في مجلة «ذي سبكتاتور» (4 حزيران) البريطانية عندما كتب: «بالرغم من جميع التعاويذ المعهودة عن هجمات «مكثّفة» و«القصف الأعنف إلى الآن»، فإنّ القصف في ليبيا كان ولا يزال خفيفاً نسبياً. وقد بلغ عدد الطلعات الهجومية للناتو خلال العملية كلها معدّل 57 طلعة في اليوم الواحد، أي أقل من نصف معدّل الطلعات التي نفذها الحلف في المهمة المماثلة في كوسوفو، وجزء بسيط مما فعلتاه الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا في العراق».
والحال أنّ إرغام أي ديكتاتور على التخلي عن الحكم، يتطلب ممارسة ضغط أكبر بكثير من إرغامه على التخلي عن جزء من أرضه. فمنذ أن غدت فرص القذافي في إعادة السيطرة على بنغازي أقرب إلى الصفر، سرّه بالتأكيد التخلص من المدينة الثائرة، ومعها كامل المنطقة شرقي أجدابيا، لو استطاع لقاء ذلك إنقاذ عرش «ملك ملوك أفريقيا» الذي شُغل من أجله منذ 2008 بشراء مبايعات بعض رجال قبائل أفريقيا جنوبي الصحراء. والرغبة في السيطرة بلا منازع على غرب ليبيا هي التي جعلت القذافي يصبّ قدراً عالياً من القوة العسكرية ومن العنف في محاولة للاستيلاء على مصراتة، أهم المدن التي أحكم الثوار السيطرة عليها في الغرب، ما منع القذافي من إنجاز التقسيم الفعلي للبلاد. وللسبب عينه، أصرّ الثوار على الصمود في مصراتة، رغم العنف الهائل الذي انصبّ عليهم، ورغم إتاحة الفرصة أمامهم لإجلائهم بحراً مع باقي سكان المدينة، على غرار آلاف المهاجرين والمصابين.
وقد دحض الثوار جميع الاتهامات التي سيقت ضدهم في البداية بأنّهم يعتزمون تقسيم البلاد، من خلال عزيمتهم وإصرارهم في القتال لتحرير بلادهم بأكملها من ديكتاتورية القذافي. جرى كل ذلك رغم دفع الثوار ثمناً باهظاً بسبب التباين الشاسع بين قواتهم البرّية وقوات النظام: تباين في الدروع والآليات، والمدفعية، والصواريخ، والمقاتلين المدرّبين، لم يعوّض منه تدخل قوات الناتو إلا جزئياً. وقد شدّد المراسلون الصحافيون الموجودون على مختلف الجبهات في ليبيا، على سوء تسليح قوات الثوار وتدريبها وتنظيمها، وعلى كون غالبيتهم من غير المحترفين. وأبدوا إعجابهم بالتفاني المذهل للعدد كبير من المدنيين الذين تحوّلوا إلى مقاتلين في سبيل تحرير بلدهم بأكمله. يفسر ذلك إصرار الثوار على مواصلة القتال، في ظل وجود ظروف صعبة كهذه، في مواجهة قوات تتمتع بتسليح وتدريب جيّديْن ويكافئها نظام القذافي بسخاء، لحثّها على الاستبسال.
الأسئلة الجوهرية التي تتبادر إلى الذهن هي الآتية: لماذا شنّ الحلف الأطلسي في ليبيا حملة جوّية ذات كثافة منخفضة، مقارنةً ليس فقط بالحملة الجوية التي رافقت حرب الاستيلاء على العراق، وهو بلد غني بالنفط على غرار ليبيا، بل أيضاً بالحرب الجوية على منطقة كوسوفو غير المهمة اقتصادياً؟ ولماذا يحجم الناتو في الوقت عينه عن تزويد الثوار بالأسلحة التي عبّروا عن حاجتهم إليها تكراراً ومراراً؟
ظاهرياً، تبرز هنا مفارقتان: المفارقة الأولى أنّه جرى التشديد في حربي العراق وأفغانستان، اللتين قادتهما واشنطن، على «تأميم» النزاع (على غرار «الفتنمة» التي سبقت الانسحاب الأميركي من فييتنام في 1973). في ليبيا، رفض حلف شماليّ الأطلسي تسليح القوات المحلية التي ما انفكت ترجو تزويدها بالأسلحة اللازمة، وتؤكد أنّ باستطاعتها تحرير البلاد في وقت قصير لو حصلت عليها. ولا يغيّر من ذلك تسليم الأسلحة المحدود الذي قامت به فرنسا على الجبهة الغربية، ولا ما وصل إلى شرق ليبيا من قطر. ذلك على الرغم من أنّ الثوار الليبيين، بخلاف الأفغان، التزموا دفع ثمن أي سلاح يتلقونه، حالما تصبح أموال الدولة الليبية تحت تصرّفهم. ومن المعلوم أنّه ليس من عادات صنّاع وتجار الأسلحة الغربيين تجاهل فرص البيع. ففي السنوات الأخيرة، تزاحموا جميعاً متهافتين على بيع السلاح للقذافي، وتمكنوا من عقد صفقات بلغت قيمتها ما يقارب مليار دولار بين نهاية 2004، عندما رفعت حكوماتهم الحظر المفروض على ليبيا، ونهاية 2009. وتضمّنت الصفقات قنابل عنقودية باعتها شركة إسبانية للقذافي، ولم يتردد في استخدامها ضد شعبه.
وقد يبدو مخالفاً للمنطق أن يكون رفض الناتو لتسليح المتمردين غير مقرون بشنّه حملة حربية مكثفة للغاية، تعويضاً عن ضعف الذين تدّعي دعمهم في قتالهم على الأرض. فالمفارقة الثانية تكمن في ضعف حملة حلف الناتو الجوية في ليبيا مقارنة بحملة كوسوفو، فضلاً عن العمليات الجوية الأخرى التي أطلقتها واشنطن في السنوات الأخيرة. ويستاء من ذلك الثوار الليبيون بشدّة. وكما روى سي.جي. شيفرز في المدونة الإلكترونية «في حالة حرب» التابعة لصحيفة «نيويورك تايمز» (24 تموز)، ازداد سخط الثوار مع الزمن: «أحد الأمور التي يختبرها المراسلون الموجودون إلى جانب مقاتلي المعارضة الليبية هو لمس الفرق بين ما تقوله القاعدة عن حملة الناتو الجوية، من جهة، وتصريحات المسؤولين في المجلس الوطني الانتقالي، سلطة الأمر الواقع في مناطق الثوار، من الجهة الأخرى. رسميّاً، لا يمكن قيادة الثوار أن تشكر حلف شماليّ الأطلسي على تدخله بما فيه الكفاية. وتُكثر الشخصيات السياسية في المجلس الوطني الانتقالي من التصريحات المعسولة تعبيراً عن دعمها وامتنانها الكامل لما أقدم عليه الناتو، الذي تحرص تلك الشخصيات على إرضائه. أما الموجودون على جبهات القتال أو الذين يحدق الخطر بهم، فلديهم وجهة نظر أكثر تنوّعاً. هم أيضاً شاكرون لما أقدم عليه الناتو في الأيام الأولى من الحرب، عندما حال القصف الجوي دون تغلّب كتائب العقيد معمر القذافي على الثوار في الشرق ودون سحقها للانتفاضة في بنغازي. بيد أنّهم يعبّرون أيضاً عن إحباط عميق، قلق أحياناً، بشأن وتيرة الدعم الجوي والمناطق التي يستهدفها، وغالباً ما يشكون ما يعدّونه انعدام كفاءة وتدخلاً نصفياً فقط من الناتو».
هل يصدّق أحد أنّ حلف شماليّ الأطلسي الذي تجاهل مجلس الأمن في الأمم المتحدة حين شنّ حربه الجوية على نظام سلوبودان ميلوسيفيتش في 1999، قد اعتنق فجأة مبدأ احترام القانون في العلاقات الدولية؟ يصعب ذلك. هل الأمر إذاً أنّ الحلف شعر بضرورة احترام نص القرار الدولي 1973، الذي شرّع إطلاق الحملة الجوية على ليبيا؟ يكون من الغباء تصديق ذلك. لقد انتهكت حملة الناتو الجوية كلاً من نص القرار الدولي وروحه، متخطية «كلّ التدابير اللازمة... لحماية المدنيين والمناطق المأهولة بالسكان المعرضة لخطر الهجوم» التي نص عليها القرار. وكان لطرابلس ومناطق أخرى تقع تحت سيطرة النظام، نصيب عالٍ من الغارات، ما زاد من مخاطر وحدّة «الأضرار الجانبية» التي يلحقها الناتو بالمدنيين الذين يزعم حمايتهم.
أما البند الذي يدعو إلى «التنفيذ الصارم لحظر توريد الأسلحة» في نص القرار الدولي، فليس هو بالتأكيد سبب عدم تسليح الناتو للثوار. فلو عزمت دول الحلف على تزويدهم بما يحتاجون إليه من أسلحة، لما شكّل فيتو موسكو أو بكين عائقاً أمام واشنطن وحليفاتها لتنفيذ ما تشاء، كما فعلت في البلقان في 1999، ومجدداً في العراق في 2003. كذلك، إنّ عدم تدخل الناتو برّاً ليس على الإطلاق احتراماً منه لما نص عليه القرار الدولي في ما يتعلق بـ«حظر دخول أي شكل من أشكال قوات الاحتلال الأجنبية إلى أي جزء من الأراضي الليبية»، بل لأنّ الثوار أنفسهم أصرّوا منذ البداية على رفضهم أي تدخل برّي. وتعلن ذلك بوضوح لوحة كبيرة رُفعت في ميدان التحرير في بنغازي، كُتب عليها: «لا للتدخل الأجنبي على أرضنا، نعم لتسليح الثوار».

ارتياب متبادل

والحال أنّ الارتياب متبادلٌ بين الطرفين بدون أدنى شك. فالموقف العملي للقوى الغربية إزاء الثوار الليبيين مختلف تماماً عن موقفها إزاء جيش تحرير كوسوفو، قبل حرب 1999 وأثناءها، أو إزاء التحالف الشمالي قبل قصفها لأفغانستان وأثناءه، بدءاً من تشرين الأول 2001. ونلاحظ في وسائل الإعلام الغربية تشديداً دائماً من وحي رهاب الإسلام على دور «الإسلاميين» في الثورة الليبية، مع تقديمها ذاك الدور ذريعة لعدم تزويد الثوار بالسلاح، بينما غضّت الطرف عن وجود مجموعات مماثلة في صفوف القوات الكوسوفية، فضلاً عن أن التحالف الشمالي الأفغاني (واسمه المحلي «الجبهة الإسلامية المتحدة لإنقاذ أفغانستان») قد ضمّ عدداً كبيراً من المجموعات التي لا يختلف تشدّدها الأصولي عن تشدّد حركة طالبان إلا بقليل. والحال أنّ وسائل الإعلام الغربية منافقة تماماً في إدانتها للأصوليين الإسلاميين عندما يكونون مناهضين للغرب، بينما تلتزم الصمت إزاء المملكة السعودية، أكثر الدول تشنجاً في مجال الدين والراعية العالمية الرئيسية لجميع الحركات السلفية الرجعية.
ولم تبدِ وسائل الإعلام الغربية أيّ قلق بشأن هجانة القوات الأفغانية المجتمعة في إطار التحالف الشمالي، عندما سلّمته حكوماتها زمام السطلة في أفغانستان. جرى الأمر رغم ما جرى في 1992 بعد هزيمة نظام نجيب الله، الذي كان مدعوماً من موسكو حتى انهيار الاتحاد السوفياتي في نهاية العام السابق. فحولت أطراف التحالف الشمالي أفغانستان إلى ساحة تحققت فيها مقولة «حرب الجميع على الجميع»، وغرقت «دولة أفغانستان الإسلامية» في فوضى دموية، ما أتاح لحركة طالبان تحقيق فوز سهل نسبياً في 1996. وبالطبع، لم تنتب واشنطن أيّة هواجس حين قررت إطاحة طالبان بحملة مشتركة من قوات التحالف الشمالي وقواتها الجوية ـــــ وقد نفذت لأجل ذلك نحو 85 طلعة جوية هجومية يومياً، طوال 76 يوماً، منذ بداية العمليات في تشرين الأول وحتى 23 كانون الأول 2001، أي بما يزيد على معدّل الطلعات فوق ليبيا بنسبة 50 بالمئة.
نسب العديد من المراقبين تلك المفارقات في التدخل الغربي في ليبيا إلى غاية تتمحور حول السيطرة على البلاد بعد رحيل القذافي. وكان العديد من المتعاطفين مع الانتفاضة الليبية ـــــ وقد أبدى بعضهم، بمن فيهم كاتب هذه السطور، تفهّمهم لطلب بنغازي المساعدة من «الشيطان» بهدف تفادي مجزرة متوقعة ـــــ قد حذّروا الثوار الليبيين منذ البداية من تصوير الشيطان على أنّه ملاك للمناسبة، ومن نسج الأوهام بشأن الدوافع الحقيقية للدول الغربية. وقد أثبت تطوّر الوضع في ليبيا صحة تلك التحذيرات المبكّرة، لدرجة أنّ اقتناعاً وُلد في بعض الدوائر العربية المناهضة للهيمنة الغربية بأنّ الحلف الاطلسي يطيل أمد الحرب عمداً، ليطيل أمد حكم القذافي. عبّر عن ذلك الاقتناع منير شفيق، المنسق العام للمؤتمر القومي ـــــ الإسلامي (الذي تشارك فيه حركة الإخوان المسلمين، وحماس، وحزب الله)، على موقع «الجزيرة.نت» (4 تموز): «لا يستطيع أحد أن يتفهم ما معنى أن تركز طائرات الأطلسي على ضرب مواقع تكاد تكون وهمية في طرابلس، بينما يترك راجمات الصواريخ والمدفعية والآليات العسكرية تقصف مصراتة وعدداً من البلدات الأخرى. بل ترك أرتال قوات القذافي تنتقل من مكان إلى آخر على أرض مكشوفة، من دون أن يتعرض لها. فأين حماية المدنيين وأين مساعدة الشعب في الخلاص من القذافي؟ موقف أميركا والأطلسي فاضح في التآمر على ثورة الشعب في ليبيا، وإبقاء قوات القذافي ناشطة إلى حين التمكن من الهيمنة على المجلس الانتقالي، وربما عدد من الكوادر الميدانية كذلك. ومن ثم إطاحته، فالتآمر هنا قد تركز على الشعب والثورة وعلى مستقبل ليبيا».
يحاكي ذاك الارتياب الشديد شعوراً عبّر عنه الثوار الليبيون أنفسهم، كما يتضح من تصريح أحد قادتهم المحليين نقله معمّر عطوي في «الأخبار» (2 حزيران): «في نظر المتحدث باسم المجلس المحلي لمدينة سرت، التابع للمجلس الوطني الانتقالي المعارض، أبو بكر الفرجاني، يتقدم حلف شماليّ الأطلسي نفسه ببطء في عمليته العسكرية ضد كتائب القذافي، بهدف إبقائه فترة أطول في السلطة، وبالتالي ارتفاع قيمة الفاتورة المطلوب من المعارضة دفعها للدول العظمى والشركات الكبرى التي تقف خلفها».

* أستاذ في«معهد الدراسات الشرقية والأفريقية» في لندن
(ترجمة: كوثر فحص)