يعيش قطاع من الجمهور الخليجي والعربي المتحمس للثورات ما يمكن تسميته «سكرة الناتو»، منذ انتصار الثوار في معركة طرابلس وإسقاط نظام القذافي. وصار هؤلاء، في ظل حالة المراوحة أو التعثر التي تشهدها الثورة في بلدان عدّة، يبشرون بالنموذج الليبي كحل مع الأنظمة القمعية القائمة. وتزايدت الدعوات، تحت وطأة استمرار نزف الدماء، إلى تسليح الثوار في سوريا والتدخل الخارجي عسكرياً لإسنادهم، ما يجعل التذكير بالبديهيات والإضاءة على بعض النقاط مهماً أمام تلك الحالة العاطفية الانفعالية.لا يمكن النموذج الليبي أن يكون مثلاً يحتذى به سورياً أو عربياً؛ فالتركيبة تختلف، والصورة حتى الآن لم تستقر هناك، والمخاوف عديدة. لكن الأهم أنّ الوعي العربي بخيار الثورة السلمية في مواجهة الأنظمة القمعية بُنِيَ على نجاح الثورات السلمية تاريخياً في بلدان العالم، وحاضراً في مصر وتونس، وعلى فشل خيار العنف الذي اتخذته الجماعات المؤدلجة (دينية وغيرها) في إحداث التغيير. بل إنّ ذلك الخيار جر بلداناً كالجزائر لبشاعة تماثل بشاعة أنظمة الحكم العربية.
إنّ الإصرار على السلمية في الثورات العربية ليس من باب الاستحباب، بل الوجوب؛ فالسلمية هنا ليست تكتيكاً، بل استراتيجية تحفظ الثورات من الخضوع لموازين القوى المختلة لمصلحة النظام المدجج بالسلاح، وتحمي التركيبة الاجتماعية القائمة من الانجرار إلى انقسام يؤسس لصراع أهلي طويل، ومجتمع كالمجتمع السوري لا يتحمل تبعات ثورة مسلحة.
الحديث عن التسلح والتدخل الخارجي، عندما يصدر عن بعض الموتورين والمعارضين السوريين المحسوبين على دول إقليمية وغربية، فهو لا يثير اهتماماً كبيراً. لكنّه حين يصدر عن الثائرين أو بعض الجمهور المتفاعل مع الثورات، فهو يعبر عن حالة يأس من الثورة الشعبية السلمية، ويسلم بعجز الثورة عن تحقيق أهدافها بالنضال الداخلي، وضرورة طلب العون من الخارج لتحقيق إسقاط النظام. ورغم أنّ التدخل الخارجي عسكرياً في سوريا هو أمر مستبعد بحكم التعقيدات الإقليمية، إلا أنّ التوقف عند ذلك النقاش ضروري في هذه المرحلة من الربيع العربي.
ينطلق مبدأ الثورة وأساسها من رغبة الناس في التغيير، منبعها داخلي ومنطلقها إرادة الشعب، وهدفها إنهاء احتكار شخص، أو نخبة حاكمة، للقرار وتحقيق مصالح الشعب وسلطته على أرضه وثرواته. هكذا قامت الثورات تاريخياً، وانتصرت لإرادة الشعب واستقلالية قراره، وهكذا أصبحت الثورة عنواناً لحراك الشعوب ضد الاستبداد الداخلي والاستعمار الخارجي أيضاً.
يتناقض مبدأ الثورة مع مبدأ التدخل الخارجي، لتناقض فكرة استقلالية القرار الشعبي، المعبرة عن إرادة الشعب، مع فكرة الهيمنة الخارجية المعبرة عن إرادة الدول الكبرى. وبالتالي يتناقض هدف الثورة مع أهداف التدخل الخارجي، ولا تختزل القضية هنا بالاحتلال العسكري المباشر، بل إنّ الآلة العسكرية ليست إلا وسيلة ضمن وسائل الهيمنة السياسية والاقتصادية التي هي الهدف الأهم للتدخلات الخارجية.
الأهم من ذلك الحديث المبدئي المفهوم (غالباً)، هو الحديث عن تناقض المصالح بين الثورة والتدخل الخارجي عموماً، وفي سوريا تحديداً؛ إذ يريد الغرب ضمان مصالحه السياسية والاقتصادية، غير أنّ المحرك الأهم لأي تدخل خارجي غربي في المسألة السورية، وفي الشرق الأوسط عموماً، هو الأمن الإسرائيلي الذي أصبح عقيدة «فوق سياسية» غربية. وبالتالي، هل من المصلحة الغربية/الإسرائيلية قيام دولة ديموقراطية قوية ذات سيادة على حدود إسرائيل؟ إنّ المتوقع أن يسعى الغرب، بدفع إسرائيلي، إلى ممارسة هوايته المفضلة: تفصيل دولة طوائف في سوريا على المقاس اللبناني والعراقي، ما ينسف أي حلم بالديموقراطية في بلاد الشام، ويهدد الثورة وأهدافها وطموحات الثوار.
بالإضافة إلى عدم سلامة نياته وتناقض أهدافه مع التطلع الشعبي، سيُحدث أي تدخل خارجي انقساماً حاداً داخل المجتمع السوري، وسيحسم موقف المترددين إلى جانب النظام، مؤكداً لهم دعاية النظام حول المؤامرة. بل إنّ بعض مؤيدي الثورة سيتخذون موقفاً مغايراً في تلك الحالة استناداً إلى الحس القومي والوطني السوري العالي لديهم. كذلك فإن الأقليات المذهبية سيدفعها الخوف إلى معاداة الثورة بالكامل، بما يعزز احتمال تكرار السيناريو العراقي لجهة الاحتراب الطائفي بين أغلبية تدفع لإعادة تشكيل النظام وأقليات تخشى التهميش وتتوجس من
التغيير.
إنّ من يدعو صراحة لتدخل الناتو أو غيره لا يحسب حساب العواقب الوخيمة لما يمكن أن يجره ذلك التدخل على سوريا ككيان، ويوصله الانفعال إلى الدعوة لما يناقض مبدأ الثورة ومصلحتها. لكن من يجر سوريا نفسها إلى التدخلات الخارجية والانقسام الأهلي، المنذر بشرور عديدة، هو السلوك الأمني للنظام الذي لا يزال غير قادر على استيعاب طموحات شعبه ولا حجم التغيير الذي حدث في سلوك الناس وتجرؤهم عليه أو في المشهد الإقليمي كلّه، منذ أحرق البوعزيزي حقبة كاملة، حين أشعل النار في جسده وأجساد الأنظمة الاستبدادية.
الأساس في النقاش هو ألا تكون الحماسة الثورية أو الغضب من قمع الأنظمة دافعاً للتحوّل عن مبادئ الثورة وأهدافها، عبر انتظار المخلص في الغرب أو الشرق، أو الدعوة إلى التغيير بأي شكل كان، وبأي ثمن، والانسياق وراء ردود الفعل غير المدروسة التي تُمَيِّع الثورة وتحوّلها إلى مجرد انتقام يعيد إنتاج مفاهيم النظام الاستبدادي. فالثورة ليست فعل هدم بل بناء، وليست انتقاماً من شخص الديكتاتور أو أهل النظام، بل إسقاط للعقلية الحاكمة وتأسيس لمرحلة جديدة ينتهي فيها العنف السياسي والأمني لمصلحة سيادة القانون وتعزيز الحريات.
خيار المدنية والديموقراطية له وسائل واضحة ومحددة، وله ثمن يجب أن يُدفع رغم كونه مؤلماً. ولا يمكن وسائل غير مدنية أو فكراً غير ديموقراطي أن يحقق تطلعات الناس للحرية. ولا يمكن استدعاء الوصاية الأجنبية إلا أن يعقد المشاكل القائمة، وبالتالي لا يمكن الرهان إلا على الثورة الشعبية السلمية، لأنّها تعبير مدني عن التطلع للحرية، وهي في حقيقتها كفعل شعبي غير عاجزة، وقادرة بذاتها على إنجاز التغيير وفرض مطالبها على النظام القائم والعالم بأسره، مهما طال الوقت.
المطلوب في الربيع العربي التقدم إلى الأمام، عبر وعي شعبي بالحاجة إلى الحرية وبالوسائل التي تحققها، وبالهدف من الحراك الشعبي: الحكم الديموقراطي والسيادة الكاملة للشعوب على أرضها، وفي سوريا كما في غيرها، رفض منطق العنف والطائفية ورفض الوصاية الأجنبية طريق الوصول للحرية. ومن يرحب بمصالح الناتو في سوريا، يقدنا إلى الخلف بإعادة إنتاج خطاب أحمد الجلبي وأمثاله، ومعروف ما الذي جرّه ذاك الخطاب من أهوال في العراق والمنطقة.
زيادة الزخم الشعبي هو المخلص الحقيقي، والذين ينتظرون غودو الغربي سينتظرون طويلاً، فلا خلاص فعلي للشعوب إلا بالدماء الطاهرة لشهدائها. وكلما ارتفع مستوى الدماء اقترب غرق الأنظمة في بركة
قمعها.
* كاتب سعودي