كلما ذهب المرء خطوة أبعد في اتجاه تجذير النقد ضد «تحالف» الديكتاتوريات والمعارضات الكولونيالية العميلة للغرب، أعاده تطرف الموالين للأوليغارشيات الحاكمة خطوات إلى الوراء. تلك معضلة حقيقية باتت تواجه اليوم كل من يريد الذهاب أبعد من الرّطانة اللفظية الجوفاء للنظم ومعارضاتها. رطانة لا تكلّف نفسها عناء السؤال عما بعد الانتفاضات وركوبها كولونيالياً. وسؤال الما بعد هنا، هو سؤال ليبي بامتياز. فما بعد ليبيا هو غيره ما قبلها. وهو كذلك لأنّ هشاشة الانتفاضات باتت مطية حقيقية لأي كان، كي يحوّر في بنيتها الأخلاقية ويقودها إلى حيث يريد. لكن ما علاقة كل ذلك بالاعتداء الهمجي على علي فرزات؟ الجواب على ذلك يمكن أن يكون سهلاً جداً، ولكن سهولته مفخّخة إلى حد كبير. فأن تتضامن مع شخصية فذة كعلي فرزات ضد ديكتاتورية بعينها، أمر وأن توسّع نطاق التضامن ذاك، ليغدو معيارية أخلاقية في وجه ديكتاتوريات المنطقة جميعها، أمر آخر تماماً.
فما تعرّض له علي فرزات، على أيدي موالين للنظام في سوريا، قد يتعرض له غداً مبدع آخر على أيدي ديكتاتورية سلالية خليجية مثلاً. حينها، هل ستسارع أبواق سلالات النفط في قطر والسعودية لاحتضان قضيته وإبرازها على ذاك النحو؟ يحق للمرء أن يطرح أسئلة مماثلة، من دون أن يمثّل ذلك انتقاصاً من قيمة تضامنه الكامل مع الرسام السوري الفذّ، في وجه وحشية نظامه. هو ليس تضامناً مشروطاً بالطبع، وإلا ما تضامن المرء مع الرجل أساساً. أصلاً التضامن مع قضية إما أن يكون كاملاً أو لا يكون. لكن الحذر في التعامل مع تلك القضية تحديداً واجب. فعندما تتبنى أبواق نفطية كولونيالية كـ«الجزيرة» القطرية و«العربية» السعودية، قضية علي فرزات، لا تفعل ذلك من باب الواجب المهني والأخلاقي، بل من باب توظيف الحادثة في سياق صراع ملّاكها (سلالتا آل ثاني وآل سعود) المستجد مع النظام في سوريا. هكذا يجب تعريف الأمر. سلالتان نفطيتان تسجلان نقاطاً على سلالة أخرى غير نفطية.
والمشكلة هنا أنّ حجم القمع الممارس في سوريا لا يتناسب مع حاجة من يتعرض للقمع إلى مساءلة المنبر الذي «يعرض ظلامته» أخلاقياً. مثلاً، المعارضة الوطنية السورية لن تجد اليوم منبراً أفضل من الجزيرة القطرية، كي تعرض عبره مشروعها السياسي البديل. تلك «حاجة مشروعة»، تفوق بكثير حاجة معارضتنا الوطنية إلى نقد السياسة القطرية الوظيفية كولونيالياً. قد تظهر تلك النزعة النقدية لدى معارضينا الوطنيين لاحقاً، لكن ظهورها اليوم غير وارد، وغير مناسب أصلاً لظروف معارضة ملاحقة تحتاج إلى من يحتضن مشروعها. طبعاً تلك محاولة أولية لتفسير امتناع المعارضة الوطنية السورية عن نقد الدور القطري المشبوه في المنطقة. لكن لنلاحظ شيئاً هنا: بدأت ترتفع أصوات حقيقية داخل التجربتين التونسية والمصرية، تنتقد دور قطر وسلالات النفط عموماً، وتعرّج بين الحين والآخر على المد الوهابي في مصر تحديداً. الملاحظ في ذلك الموضع أنّ عدوى النقد لم تنتقل بعد إلى سوريا. طبعاً، النظام المتآكل اليوم لم يكن يسمح بشيء مماثل، بحكم تحالفه الوثيق سابقاً مع سلالات النفط، لكن ماذا عن «سوريا الجديدة»؟ خذوا مثلاً الواقعة التالية: خرجت قبل أيام تظاهرات معارضة للنظام السوري في السعودية، واعتقل بسبب ذلك أكثر من مئة وعشرين متظاهراً سورياً، على أيدي رجال الأمن السعوديين (عادت السلطات السعودية وأطلقت سراحهم بعد أيام). ماذا كان رد فعل المعارضة السورية و«جمعيات حقوق الإنسان السورية» الهزيلة على ذلك؟ لا شيء تقريباً! لم تجرؤ أي «منظمة حقوقية سورية» على توجيه، ولو كلمة لوم، للنظام الديكتاتوري السلالي هناك. بلى، لقد فعل ذلك المرصد السوري لحقوق الإنسان، ولكن بصياغة مثيرة للشفقة: «يناشد المرصد السوري لحقوق الإنسان العاهل السعودي...». منذ متى كان المرصد يساوم الديكتاتوريات على حقوق مواطنيه؟ هو لم يفعل ذلك مع الديكتاتورية في سوريا، ولكنّه فعلها مع الديكتاتورية في السعودية! أيّ تناقض ذاك؟ قد يبتلع البعض ذلك التناقض غير الأخلاقي بحجة أنّ المرصد لن يفرّط بحق مواطنينا المعتقلين في السعودية، وأنّ الأولوية الآن تبقى للداخل ولفضح آلة القمع التي تطحنه. حسناً. ابتلعنا التناقض ذاك معكم، ولكن من «يسكت» مرّة سيسكت كل مرّة، وخصوصاً عندما يتعلق الموضوع بآل سعود. وهنا أيضاً يسجل للرفاق في مصر عدم سكوتهم عن حالات الاعتقال التي يتعرض لها مواطنون مصريون في السعودية، حتى في أيام مبارك! مرّة أخرى، بماذا تختلف السعودية عن باقي الديكتاتوريات في المنطقة... إيران مثلاً؟ نحن إزاء ديكتاتوريتين دينيتين، لا تقيمان اعتباراً لقيمة الفرد (الوضع في إيران أفضل قليلاً)، ولا تتعاملان مع الدول المجاورة لهما إلا بمنطق الوصاية وفرض الشروط. ومع ذلك انتقدت إيران في سوريا على مساعدتها اللوجستية في قمع الانتفاضة، ولم تنتقد السعودية رغم عنفها المادي ضد أفراد يدعمون تلك الانتفاضة!
المنطق يقول إنّ سلوكاً كذلك لا يندرج في إطار ازدواجية المعايير فحسب، بل يتعداه إلى حد اعتباره فضيحة أخلاقية. ثمة فارق هنا بين كيانات دولتية تضع السياسة في مواجهة الأخلاق، وكيانات حقوقية تتعامل مع السياسة من منظور أخلاقي. في الحالة الأولى، يمكن إطلاق تسميات محايدة على الصيغة المقترحة، أما في الحالة الثانية فالحياد في توصيفها يكون أشبه بالخيانة. الحياد مطلوب أحياناً في السياسة، لكنّه ممنوع تماماً في الأخلاق. هكذا لا يعود بمقدور أحد التملص من نقد الديكتاتوريات العربية جميعها، ومن فضح سياساتها الوظيفية حتى لو صبّت مرحلياً في مصلحة قضيته. فما يبدو مرحلياً اليوم سيكفّ عن كونه كذلك غداً. وعندها، لا مناص من سؤال معارضتنا الوطنية السورية عن رأيها في التوظيف النفطي القذر لنضالاتها وتضحياتها. لسنا بأقلّ من مصر وتونس يا رفاق.
* كاتب سوري