لم يكن السور الذي نهض محيطاً بمقر سفارة العدو الصهيوني في الجيزة يوحي بأنّه سهل الهدم. فمسطحات الخرسانة المسلحة المرتفعة لثلاثة أمتار والمدعمة بالفولاذ والممتدة لعشرات الأمتار، كانت تؤكد أنّ الأسلحة الثقيلة فقط قادرة على دكه. الأسلحة الثقيلة حصل عليها الثوار بالفعل في محيط السفارة. فالمطارق التي لم تنجح سوى في خربشة الجدار المحصن، سرعان ما استبدلها المتظاهرون بعمود إضاءة حديدي، واستوحوا أفلام الحروب القديمة وأخذوا في دك جزء من السور.
بدت تلك الآلية أكثر نجاحاً، فجرى تعميمها في لحظات، وفي ساعات معدودة كان الجدار الرهيب يتحول إلى أنقاض. روح المرح والفكاهة التي اتسمت بها كلّ مسيرة النضال الثوري المصري لم تغادر الساحة، فبدأ إطلاق نوادر عن أنّ السفير في الطبقة العشرين قد أصيب بالإسهال من مشهد المصريين يفترسون الخرسانة المسلحة. وبدأت نقاشات ضاحكة حول احتمال الغش في بناء السور، ليكون بذاك الضعف الذي جعله يتهاوى سريعاً. لم يكن أحد ممن دعوا إلى «مسيرة الشواكيش» لهدم السور الذي بني قبل أيام، يتصور أن تكون النتيجة بذلك النجاح، فقد أزيل السور بالكامل كأنّه لم يكن موجوداً أصلاً. لم يكن الأمر ليتوقف عند هذا الحد. فسريعاً تذكر الشباب الذين هدموا السور بطولة الشاب الذي تسلق طبقات المبنى العشرين لينزع العلم الإسرائيلي من فوق السفارة، ويضع مكانه العلم المصري. بدأ حينها سباق الصعود لعدد من الشباب لتسلق المبنى بمساعدة بعض سكانه، وما هي إلا ساعات حتى وصل أحدهم وانتزع العلم وأرسله منكساً للمتظاهرين في الأسفل. لم تتوقف الأمور عند ذلك، فقد اقتحم عدد ممن تسلقوا المبنى جزءاً من السفارة وألقوا ملفات وأوراقاً تتبع للسفارة على رؤوس الأشهاد. هكذا كان المشهد مساء الجمعة الماضي، إذ تضمّن صدامات واشتباكات متعددة، وقع خلالها مئات المصابين واستشهد خلالها اثنان من الشباب، رغم إصرار معظم وسائل الإعلام على تسميتهم قتلى.
الغريب أيضاً أنّ أصواتاً رافضة لما جرى عند السفارة اتهمت قوات الأمن بعدم القيام بدورها في مواجهة التظاهرة وعملية الاقتحام، رغم عدد المصابين والشهداء الذين ثبت استشهادهم بالرصاص.
لا يتجاوز هدم السور وانتزاع العلم واقتحام جزء من السفارة الصهيونية في القاهرة كونها حدثاً رمزياً، لا يساوي حتى ما قامت به الدولة الصهيونية عندما اقتحمت قوات نظامية الحدود المصرية وقتلت ستة من القوات المصرية. أو عندما هدد ممثلوها الرسميون بضرب السد العالي أو اجتياح سيناء. مثل تلك الأفعال والأقوال تعدّ إعلان عداء رسمي ومباشر، لكن رمزية الحدث لا يمكن أن تنفي حقيقة واضحة وهي أنّ إسرائيل فقدت بالفعل خط دفاعها الأول، بل والأقوى. فدولة إسرائيل لم تعتمد طوال عقود في تأمين حدودها على قدراتها العسكرية فقط، بل اعتمدت في المقام الأول على وجود أنظمة قمعية ومستبدة تشاركها في السيطرة على إرادة الشعوب، وتمنع الغضب من الوصول إليها. لا يتعلق الأمر فقط بأنظمة الاعتدال التي شاركت في حصار المقاومة ونزع سلاحها والتطبيع مع إسرائيل، بل يتعلق أيضاً بالأنظمة التي اعتمدت على الخطاب الراديكالي وحكم استبدادي يلجم إرادة الشعوب ويفرض حسابات الأنظمة وتوازناتها ورغبتها في البقاء في الحكم. من السهل دائماً على القوى الاستعمارية إدارة صراعاتها مع أنظمة لا تعبر عن الشعوب، وتخشاها أكثر من أعدائها الخارجيين، سواء كانت تلك الأنظمة حليفة للاستعمار أو لا. الأمر المستحيل بالنسبة الى القوى الاستعمارية هو أن تصبح وجهاً لوجه أمام إرادة شعبية لا تخضع للحسابات، وتحركها إرادة التحرر. هكذا تفقد إسرائيل اليوم وللمرة الأولى تقريباً أهم ميزاتها الاستراتيجية. درع الاستبداد وقمع الشعوب الذي حمى الكيان الصهيوني لعقود، سواء بقصد أو من دون قصد، يتهاوى وتوشك الثورة أن تحاصر الكيان الغاصب. ولكن ليس ذلك هو المعنى الوحيد لما جرى يوم الجمعة، فردود الأفعال التي سارعت إلى استنكار الهجوم على السفارة وإدانته أيضاً لها دلالة بالغة. فأيّ من القوى أو الأفراد الذين انتقدوا اقتحام السفارة وأدانوه وحتى اتهموا من قاموا به بمعاداة الثورة، ليسوا من دعاة االتطبيع، ليصبح موقفهم ضد مهاجمة السفارة مطابقاً لموقفهم المعلن من كامب ديفيد والتطبيع. ولكن تلك المواقف تعني ما هو أبعد من ذلك. فبالنسبة الى الكثير من القوى والنخب السياسية في مصر، أتاحت الثورة الفرصة لإزاحة ديكتاتورية مبارك، وتوفير هامش أوسع للمشاركة في المؤسسات السياسية والنيابية ابتداءً من تاسيس أحزاب وحتى الترشح لرئاسة الجمهورية، مروراً بالمجالس النيابية والمشاركة في الحكومة. بالنسبة إلى الكثير من القوى السياسية، أنجزت الثورة مهمتها بإتاحة تلك الفرص لهم. أما باقي القضايا مثل الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية ومثل العلاقة بالقوى الاستعمارية وإسرائيل، وهي قضايا مترابطة أصلاً، ومرتبطة بالفعل بالاستبداد السياسي فمعالجتها مؤجلة حتى يتحقق الاستقرار، أي تحقيق تلك القوى السياسية لأهدافها. ما يمكن فهمه أن الآمال المعقودة على الثورة تختلف من فريق لفريق. فقطاعات واسعة من الكادحين والفقراء لا تتحقق آمالهم بإتاحة الفرصة للنخب السياسية المشاركة في السلطة. ولا يمكن إقناع تلك القطاعات بالانتظار حتى تجري عملية تقسيم غنائم الثورة، عبر الانتخابات النيابية او الرئاسية أو تشكيل الحكومة وأجهزة الدولة، ثم يأتي دورهم في الحصول على بعض حقوقهم.
إنّ أحد مظاهر الثورة الأساسية هي أنّها تنهي مرحلة رفع المطالب والدفاع عنها لصالح مرحلة الفعل المباشر للجماهير. إنّ جماهير الثورة التي أعلنت كثيراً رفضها لهيمنة الحزب الوطني وقمع الشرطة لم تخرج في الثورة لتعلن مطالبها فقط، بل هاجمت مباشرة مقار الحزب الوطني وأقسام الشرطة في كلّ الجمهورية. وعندما تباطأ النظام في حل جهاز مباحث أمن الدولة، عمدت الجماهير الى اقتحام تلك المقار. الأمر نفسه جرى مع السفارة، فقد طالبت الجماهير بطرد السفير الإسرائيلي، فرد النظام ببناء سور خرساني لحمايتها، فهجمت الجماهير عليها. هو منطق الثورة الذي يتكرر، مؤكداً أنّها لا تزال مستمرة. مستمرة بمعنى قدرة جماهيرها على الفعل المباشر، لا على تقديم المطالب للمسؤولين فقط. قد ترى بعض القوى أنّ مهماتٍ أنجزت وهو ما لا يمكن نفيه. فما حققته الثورة بالفعل، حتى الآن، فاق كل التوقعات. لكن تصاعد الاحتجاجات الاجتماعية والعمالية، وتنامي الغضب الشعبي من العلاقات بإسرائيل يعني أنّ قطاعات واسعة من جماهير الثورة لا يزال لديها ما تريده، وأيضاً لديها ما تقوم به. المسارعة إلى وصم مواقف جماهيرية بالفئوية أو المغامرة أو التآمر أو عدم الفهم لن تؤدي في واقع الأمر إلا إلى عزلة أصحاب تلك المواقف عن الجماهير، حتى عندما تتحلى تلك المواقف بالنيات الحسنة. أما الجماهير، فقد أثبتت أكثر من مرة أنّها قادرة على فرز المواقف ومفاجأة الجميع بقدرتها على فرض ما تريده.
* صحافي مصري