منذ اندلاع الانتفاضة السورية في الخامس عشر من آذار، كان البعد الطائفي حاضراً، رغم خفوته وإنكار وجوده من جانب البعض على نحو مطلق. كان حاضراً في الهمس والجلسات الخاصة، بهدف إبعاد شبحه عن الحديث العام. وكان الحديث الهامس نابعاً من حقيقتين يعرفهما المرء جيداً، أولاهما أنّ سوريا بلد متعدد الطوائف والإثنيات، وثانيتهما أنْ لا أحد في سوريا حقيقةً يريد السير في هذا الاتجاه الملغّم، كي لا يعطي السلطة مشروعية تستخدمها في تشويه سمعة الانتفاضة. ذلك الأمر حق، لكن هل يكفي لطمس حقائق الواقع؟بعد أحداث مدينة بانياس، بدأ شبح الطائفية يطل، وارتفع مستوى الحديث عنه إعلامياً، وإن بخجل، لكن بعد أحداث حمص الأخيرة، أخذت الحالة الطائفية السورية (واسمها حالة لا مشكلة) حالتها العلنية في الصحف والإعلام المرئي. وفي متابعة ما كتب، سنجد تبلور اتجاهين واضحين، أحدهما ينفي وجود أيّة حالة طائفية، ويعد الأمر مجرد استغلال من السلطة لضرب الانتفاضة، والاتجاه الثاني يرى أنّ ما يحدث في سوريا ذو بعد طائفي واضح، متمثلاً بثورة سنيّة ضد حكم الأقلية، مشيراً بذلك سلفاً إلى أنّ ما يحدث هو مجرد طائفية ولا شيء سواها!
ينطلق الرأيان المتبلوران من معطى خارجي، يقيني، مطلق، أكثر مما ينطلقان من بعد نسبي، واقعي، يقرأ معطيات الواقع ويسعى إلى فهمها. هكذا نجد أنّ مناصر الانتفاضة يرفض الطائفية مطلقاً، منكراً وجودها، ومحيلاً إياها على مجرد سلطة تلعب على مكونات المجتمع كي تديم هيمنتها عليه. ذلك صحيح، لكنّه ليس كلّ الصحيح. ينطلق ذلك الرأي في رؤيته من معطى خارجي، منحاز للانتفاضة مما يحتم عليه تعبيد الطريق أمامها، ولو عبر نفي المشكلات التي تعيق تقدمها. وفي ذلك خطأ يعيق الانتفاضة أكثر مما يسهم في تقدمها.
ومن هو ضد الانتفاضة، سيرى في الأمر بعداً طائفياً يترجمه تخوّف الأقليات الحقيقي من التغيير القادم، الذي لم تتضح أفاقه المستقبلية بعد. وهو تخوّف موجود حقيقة، لكنّه مركّب، فيه من الحقيقة وفيه من الوهم الكثير، إذ إنّ الواقع السوري أعقد من أن ينظر إليه من ثنائيات: مع وضد، سلطة ومعارضة، طائفية عدم طائفية، فقراء أغنياء. الواقع السوري هو كل ذلك متداخلاً بعضه مع بعض، دون أن ينفي ذلك أنّ الوجه الأول للصراع حالياً هو بين الحرية والاستبداد، لكن في الخط الخلفي للصراع، ثمة الكثير من الأمور الرافدة لذاك البعد، ويستخدمها كلا الطرفين في معركته ضد الآخر.
إنّ تسليط الضوء على الحالة الطائفية ليس هدفه تشويه سمعة الانتفاضة أو إعطاء النظام مبرراً كي يستخدمه ضدها. على العكس، يأتي الأمر كي نفهم واقعنا على نحو جيد من أجل تسخيره في خدمة الانتفاضة وتفادي الوقوع في ما تريد السلطة المستبدة لنا أن نقع فيه. كذلك، تكمن أهميتة الحديث في منع السلطة من استخدام ذلك، وكي نؤكد أنّ الحالة الطائفية جزء من مكونات الاستبداد، لا ضمان لعدم تفجرها، كما يروج النظام لنفسه بأنّه حامي الأقليات، وصمام أمان ضد الحرب الطائفية، إذاً الاستبداد مسبب من مسببات الاحتقان الطائفي لا علاج له، لذا، لا بد من إنهائه، لكن دون نفي الحالة الطائفية التي يمكن الاستبداد أن يفجرها (وقد ينجح!) ليهرب من مأزقه، بل لا بد من الإحاطة بها لمنع تفجرها واحتوائها، بدل إنكارها.
في سوريا، ثمة حالة طائفية، لكنّها لم تصبح مشكلة طائفية. هي حالة طائفية بمعنى أنّ الوعي السوري الجمعي هو وعي طائفي ما دون مدني. وهو كذلك ليس لأنّ في الأمر نقيصة للسوريين، بل لأنّ الوعي البشري تاريخياً كان وعياً دينياً ـــــ طائفياً، ثم ارتقى لأن يكون وعياً علمياً علمانياً مدنياً، بسبب الثورات والمعارف، وتمثّل الدولة ـــــ الأمة في عصر القوميات، التي قطعت مع عصر الإمبراطوريات، التي كانت تعيش في داخلها مِلل ونحل وطوائف. وفي العالم العربي، دخلنا عصر القوميات والحداثة في الأفكار فقط (وفي فكر النخبة فقط)، وعجزنا عن إقامة الدولة ـــــ الأمة، بما يعنيه ذلك من عدم وجود سلطة مركزية تعمل على إحداث الدمج الاجتماعي المطلوب. دمج يقطع مع الوعي الطائفي نحو الوعي المديني والمواطني. لقد ابتلينا بسلطات كان جل همها إدامة سيطرتها على مجتمعها، مستخدمة كل ما يمكنها من أدوات، بما في ذلك البعد الطائفي.
لم تأت سلطة في سوريا تعمل على خلق نسيج اجتماعي مدني يحيد الطائفية أو يدفنها، بل بقيت الطائفية موجودة كوعي محرك لأفعال الأفراد، مع وجود سلطة كان همها الحفاظ على مجتمع مفكك، كما ورثته، كي تديم سيطرتها، إذ عمدت إلى منع التقاء الطوائف، عبر إدامة نموذج حكم ظاهره علماني، وجوهره طائفي، لكن ليس لمصلحة طائفة النظام، كما يروّج البعض، بل لمصلحة جوهر السلطة المتمثل في البقاء، عبر اعتماد الجميع وقوداً لها. هكذا كانت تركيبة الحكومة والجيش والأجهزة الأمنية، تقوم على نحو غير معلن رسمياً، لكن غير سري أيضاً، على طائفية ما، وفق تحاصص طوائفي، يعطي لكل طائفة منصبها المتماثل مع حجمها.
الوعي الطائفي البدائي ذاك، المتمازج مع أفعال السلطة (العلمانية ظاهراً، اللاعبة بالطوائف باطناً)، أنتج حالة طائفية مستترة في سوريا، لا يمكن إنكارها. حالة تتجلى في الحديث الطائفي الخافت، تحت مسميات الحالة الوطنية، وفي الفرز الطائفي الواضح والمقيت الذي تعيشه بعض المدن، بانياس والقطيفة مثلاً. حتى داخل كل مدينة وفي العاصمة أيضاً، سنجد أنّ كل منطقة تحسب لطائفة ما، مما يجعلنا أمام طائفية في حالة ركود، إن صح التعبير، لكنّها لم تتطور لتصبح مشكلة طائفية، بفضل وعي السوريين والانتفاضة، لكن ما علينا إدراكه أنّها قد تتطور وتصبح كذلك، إن لم يجرِ احتواؤها والعمل عليها.
وأما عن خوف الأقليات، ثمة حقيقة لا يمكن أحداً إنكارها أنّ الأقليات في سوريا خائفة فعلاً، ويأتي تخوفها من ماضٍ قمعي تعرضت له على يد الأكثرية، إذ تحفل الذاكرة الجمعية لهم بحوادث الماضي. ويضاف إلى ذلك تخويف النظام لهم واستغلال مخاوفهم وقوداً له لإدامة السيطرة، لكن هل يبرر ذلك لتلك الأقليات وقوفها إلى جانب الاستبداد؟
بالتأكيد لا. على الأقليات أن تدرك أنّ الاستبداد لا يحمي سوى مصالحه، وأفضل طريق لإزالة تخوفاتها هو الانخراط الفاعل في مجرى التغيير، لتفكيك الاستبداد الذي وضعها في هذا المأزق. هكذا، تثبت وجودها وتطرح تخوفاتها مستقبلاً على إطار البحث، من موقع الفاعل في الأحداث، لا المتفرج، فالحقوق تُنتزع انتزاعاً. ومن جهة ثانية، يحتم الأمر على قوى الانتفاضة أن تعرف كيف تطرح رؤاها لتفكك خوف الأقليات ووعيها المزيف. ولعل نضوجاً بديلاً وطنياً ديموقراطياً واضحاً قد يسهم في ذلك الأمر. بديل يخوض في تفاصيل الدولة المقبلة وطريقة إدارتها، لأنّه كلما تبلور ذلك على نحو واضح، تراجع خوف الأقليات، واطمأنت إلى مستقبلها، بما يعني ذلك تشجيعها للانخراط في الحراك الهادم للاستبداد.
ويضاف إلى ما سبق، بُعد طائفي خارجي، لا يمكن التقليل من شأنه، لأنّه سيؤثر بطريقة أو بأخرى في الداخل السوري سلباً لجهة تأجيج البعد الطائفي. يتمثل ذلك البعد في لعبة المحاور المتشكلة إقليمياً، بين محور شيعي تتزعمه إيران، ومحور سني تقوده تركيا، ومن خلفها السعودية. لا شك أنّ البعد الشيعي لدى ايران واضح المعالم، في دولة تقوم على ولاية الفقيه، بينما يبدو البعد السني التركي أقل حدّة وبراغماتياً، لكنّه واضح في أيديولوجيا حزب العدالة والتنمية، الذي استضاف مؤتمرات المعارضة التي غلب عليها الطابع الإسلامي. وإلى جانب ذلك، لا ننسى ما يتسرب عن ضغط القيادة التركية لقبول الإخوان المسلمين شريكاً في السلطة، مع بروز البعد السني على نحو فاقع في حالة السعودية، القائمة على حكم وهابي صريح. ولعل التعامل مع الأزمة البحرينية من منطلق طائفي كان واضحاً.
الصراع الإقليمي ـــــ الطائفي ذاك قد يجد صداه في الداخل السوري الذي يحيا حالة طائفية راكدة. حالة يغذيها النظام، دافعاً باتجاه حافة الهاوية، مع وجود أطراف تظن نفسها في صف الانتفاضة، تدفع بالاتجاه نفسه أيضاً (العرعور نموذجاً). وإذا تقاطع البعدان في لحظة توتر، فقد تنزلق الأمور باتجاه سيّئ، يقاومه السوريون حتى اللحظة، لكن المقاومة والتظاهرات على الأرض وحدها لا تكفي، دون تبلور بديل وطني جامع يحدد شكل الدولة المقبلة.

* شاعر وكاتب سوري