إلى حبيب شرتوني أينما كنتَ، في عيدِكَ

لا غضاضة في الاعتراف. نكره إسرائيل (وإن كنّا لا نحب عمرو موسى أو حسني مبارك)، ونكرهها بشدّة. لا إحراج في الاعتراف بذلك. ليست الكراهية السياسيّة مُبرّرة فقط، إنّها وقود التغيير الجذري. هل كان نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا سيندثر، لو لم يشعر نحوه سود البلاد بالكراهية الشديدة؟ لكن الدعاية الصهيونيّة لا تريد فقط وأد المقاومة العسكريّة، بل تصوير كراهيّتنا كأنّها نوع من العنصريّة بذاتها، لأنّ العنصريّة مسموحة فقط للرجل الأبيض (وللإسرائيلي ـــــ والأخير يسعى ليتماهى مع الرجل الأبيض، ولذلك هو يخفي من الصورة السياسيّة ممثّلي نحو نصف السكّان ذوي الأصول غير الأوروبيّة). اقتحام السفارة كان لحظة تلفزيونيّة و«إنترنتيّة».
وكل مصيبة تحلّ بدولة العدوّ تتيح لنا أن نحتفل، بانتظار الاحتفال الأكبر بزوال دولة الكيان الغاصب بيننا. من لم يبتهج لمشهد إنزال العلم، والتنافس بين فتيان الانتفاضة المصريّة لتسلّق المبنى؟ ومن لم يلاحظ أنّ سفارة العدوّ أصرّت على أن تقيم في مبنى سكني (طبعاً من دون موافقة السكان أو مشورتهم، لكن بأمر من حكومة السادات ـــــ مبارك)، كي تستعين بسكّان العمارة كدروع بشريّة؟ جعلت حكومة العدوّ من سكان العمارة دروعاً بشريّة، كي تضمن عدم تعرّض سفارتها لتفجير أو حريق. كان يجب على الحكومة المصريّة أن تفرض على إسرائيل نقل سفارتها إلى مكان آخر، وذلك لتسهيل مهمات التظاهر ضدّها. تريد سفارة العدوّ أن تتمتّع بحماية الحكومة، وبحماية من المدنيّين والمدنيّات، المرغمين والمرغمات على تحمّل أخطار السكن مع جهاز العدوّ في مصر. عمّ الابتهاج للاعتداء على السفارة مجتمع فايسبوك وتويتر: التهاني كانت مشتركة. قد تكون اللحظة علامة فارقة في تأريخ الانتفاضة المصريّة. قد نقول «بعد اقتحام السفارة، لا قبلها»، وما قبل اقتحام السفارة، هو غير ما بعدها. هي قضت على أحلام الصهاينة بالتعايش السلمي مع نتائج الانتفاضة المصريّة.
مثّلت حقبة حسني مبارك حقبة فاسدة في كلّ المجالات، بما فيها الإنتاج الثقافي في مصر. هناك نوع من الفن (يسمّونه في مصر «هابط») لا يزدهر إلا في عصر فاسد مثل عصر السادات ـــــ مبارك (تقارن ذلك بالإنتاج الثقافي في عهد عبد الناصر، المُتهم ـــــ هو فقط من قبل أبواق آل سعود ـــــ بالاستبداد). لا يعني ذلك أنّه لم يكن هناك إنتاج معارض شجاع في حقبة السادات ـــــ مبارك، لكن الإنتاج الذي حظي بمباركة الدولة (فنّيّاً وأدبيّاً) كان فاسداً في القيم. عادل إمام هو واحد من المتلوّنين، ومن النتاج الأخير لحقبة جمال مبارك التي لم يتسنّ لها أن تبدأ: كان إمام ناصريّاً في الحقبة الناصريّة، وساداتيّاً في الحقبة الساداتيّة، ومباركيّاً في حقبة مبارك، وينسحب ذلك على عدد آخر من أترابه. يمثل فيلمه «السفارة في العمارة» قيم حقبة مبارك البائدة (وهي لم تنته بسبب حكم المجلس العسكري الحاكم). أتى الفيلم ليسخّف المبادئ الأساسيّة التي تعتمر في صدر معظم العرب (باستثناء أبواق أمراء آل سعود المنتشرة في صحافة... أمراء آل سعود). يحاول الفيلم أن يجعل من جيل العداء لإسرائيل (وكأنّ ذلك الجيل توقّف عند جيل الستينيات) جيلاً يستحقّ السخرية في مبادئ عدائه لإسرائيل. في الفيلم، تصبح النيات الجنسيّة لـ«البطل» أهم من رفض إسرائيل واحتلالها، ويصبح الموقف من عدوان إسرائيل وجهة نظر، يجوز النقاش فيها.
المشاهد هذا الأسبوع من أمام سفارة الاحتلال الإسرائيلي ألهبت الجيل العربي الجديد على الإنترنت. لقد رافقتها على الإنترنت، وقد أثلج صدري أنّ الجيل العربي الجديد لا يقلّ عداءً لإسرائيل عن أجيال من سبقه، متى شعر بأنّه يستطيع أن يعبّر عن آرائه بحريّة، ومتى زال عنه كابوس الخوف الثقيل (تلك هي معضلة الطنطاوي وإسرائيل وأميركا في مصر، أنّ عامل الخوف الثقيل قد زال، وأنّ أحداً لا يستطيع أن يخلف عمر سليمان في مهماته القذرة، داخليّاً وخارجيّاً بالرغم من عدم اختمار الثورة في مصر). كانت إسرائيل، في السرّ، تعلم بدوافن الرأي العام العربي: هي عرفت أنّ مصالح احتلالها لا تتواءم إلا مع أنظمة استبداديّة، على نسق السادات ومبارك. كانت الصور من أمام السفارة تتوالى بتدرّج مثير. كانت مُتظاهرة مصريّة توافيني بالصور من الموقع، عبر هاتفها الخاص (وهي حاملة شهادة دكتوراه من جامعة أوكسفورد، وأقول ذلك فقط لأنّ الإعلام الغربي حاول أن يصوّر المتظاهرين والمحتجّين على أنّهم بلطجيّة مبارك، حتى أنّ موقع السوقيّة والبذاءة السياسيّة والجنسيّة، «إيلاف»، روّج لفكرة أنّ المحتجّين والمحتجّات كانوا مدفوعين من قبل زبانية جمال مبارك). تفجير الغضب المصري ضد سفارة العدوّ له أكثر من دلالة: إنّه لا يعبّر فقط عن الغضب الشعبي العربي التقليدي ضد العدوّ وضد وجود الكيان الغاصب بيننا، عنوةً، بل هو أيضاً تعبير عن إدراك عربي جديد. وعى الشعب العربي متأخراً أنّ إسرائيل هي الحليف الطبيعي للأنظمة الاستبداديّة في منطقتنا العربيّة، في الوقت الذي كانت تلهج فيه إسرائيل بحمد نظامها الديموقراطي (وهو ديموقراطي لليهود فقط ـــــ مع وجود عنصريّة بين اليهود أنفسهم ـــــ على طريقة ديموقراطيّة نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، قبل اندثاره)، كانت تخفي عن معظم العرب حقيقة دعمها الماديّ للأنظمة الاستبداديّة، من المغرب إلى السعوديّة (دعم عسكري ـــــ استخباري وأحياناً اقتصادي، حتى لا ننسى تحفيز موريتانيا الديكتاتوريّة على التطبيع مع إسرائيل). تكشّف كل ذلك في الأشهر الماضية، عندما فشلت الحكومة الإسرائيليّة، المتمرّسة في التقيّة، في إخفاء حقيقة عواطفها ومشاعرها نحو حسني مبارك. ستندم إسرائيل قريباً، إن لم تكن قد ندمت بعد، على مجاهرتها بشدّة وعمق حبّها لنظام حسني مبارك قبل سقوطه، وبعده. أي أنّها سمحت بتضمين التعريف الجديد للوطنيّة المصريّة، عناصر معادية لإسرائيل والصهيونيّة. كما أنّ الشعب المصري فهم اللعبة، وفهم أنّ إسرائيل والسعوديّة كانتا شديدتي التمسّك بنظام مبارك، حتى الرمق الأخير، وبعده. يفسّر ذلك توجه جماهير الشعب المصري، في آن، إلى موقع السفارة الإسرائيليّة وموقع السفارة السعوديّة (وإن كانت السفارة السعوديّة تحظى بحماية قويّة من قبل المجلس العسكري الذي يتلقّى عطايا النقد من آل سعود). وقد تغاضت كلّ الصحافة العربيّة، ومعظم الصحافة الغربيّة، عن خبر توجّه الجماهير المصريّة نحو السفارة السعوديّة، لأنّ خبر المواءمة بين العداء لإسرائيل والعداء لآل سعود محرج.
ليست السفارة رمزاً لاختراق الصهيونيّة للعالم العربي، ولمحاولة دحض فكرة الرفض المطلق لوجود إسرائيل الذي كرّسته لاءات الخرطوم، فقط. إنّ الطاقم الكبير في السفارة (لا) يخفي النيّات الاستخباريّة والإرهابيّة في هدف وجود السفارة، إلى جانب الهدف النفسي الذي يريد من الشعب العربي تقبّل فكرة السلام مع إسرائيل التي حظيت في مصر بعدد من المؤيّدين، يماثل عدد أفراد عائلة حسني مبارك، وبعضاً من الكتّاب المصريّين الذين يكتبون في الصحف السعوديّة. السفارة الإسرائيليّة في القاهرة هي بعثة لاختراق المجتمعات العربيّة، بالإضافة إلى إدارة الأعمال التجسّسيّة في مصر، وفي غيرها من الدول العربيّة. تقوّض نظام كامب ديفيد من دون أن تكون الانتفاضة في مصر قد تطوّرت بصورة تستطيع معها أن تطرد الوجود الإسرائيلي من مصر بالكامل. ولا يزال الخطاب الليبرالي يفرض ضوابط على الحديث عن «كامب ديفيد» في مصر: هو لا يتعدّى المطالبة بتعديل بعض بنوده، من أجل تحريك مزيد من القوّات المصريّة في سيناء، كما أفتى وليد جنبلاط. أيّ أنّ هدف الليبراليّين المصريّين ـــــ وحليفهم وليد جنبلاط، الإقطاعي ـــــ الليبرالي ـــــ هو تحقيق المزيد من المكاسب، وزيادة دعم أمن إسرائيل من قبل الجيش المصري.
إنّ متابعة تفاصيل الهجوم على السفارة يكشف الكثير عن طبيعة النظام الحاكم في مصر، وعن الوضع الاستراتيجي لدولة العدوّ. يبدو أنّ ستة من عناصر حماية السفارة (المدجّجين)، حُبسوا داخل السفارة، أو أنّهم بقوا في حمام مغلق، أو على السطوح، خوفاً من غضب الناس. وتروي الصحافة الإسرائيليّة كيف أنّ نتنياهو وباراك اتصلا أكثر من مرّة بـ«المشير» ـــــ كم هو مضحك ذلك اللقب على ضبّاط قادوا جيوشاً نحو الهزيمة، وكم يستحق ذلك اللقب الصبية الذين أذلّوا العدوّ في جنوب لبنان في 2006، وحدهم يستحقّونه ـــــ طنطاوي، لكنّه رفض أن يردّ على اتصالاتهما. وبعدما فقد نتنياهو ورفاقه الأمل في الحصول على جواب من المجلس العسكري، اتصل قادة العدوّ بأوباما وبوزير الدفاع الأميركي (ومدير الاستخبارات المصريّة الذي ردّ سريعاً على اتصالات العدوّ). ثم حاول وزير الدفاع الأميركي الوصول إلى طنطاوي لمدّة ساعتين، من غير جدوى، إلى أن نجح في نقل تهديد مُباشر للحكم المصري. يفصح ذلك عن مأزق العدوّ الاستراتيجي: تلك هي الدولة الصهيونيّة التي تمتّعت بكمّ هائل من المنح المالية من أميركا وألمانيا وغيرها من الدول، بالإضافة إلى تسليح غربي فائق الوحشيّة، ومن دون الشروط المُذلّة التي تُفرض على أنظمة الخليج التي تقتني أسلحة، فقط لدعم اقتصاد الدول الغربيّة، وقد وجدت (الدولة الصهيونية) نفسها في حالة عجز وضعف. في حالة الغضب الشعبي العارم، تزول فاعليّة ترسانة الأسلحة، ولو كانت نوويّة. ذاك درس نظام الشاه، ونظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، ونظام حسني مبارك نفسه. وقفت إسرائيل التي كانت ترسل طائرات إرهابيّيها حول العالم لإنقاذ فرد إسرائيلي، تستجدي الإدارة الأميركيّة كي تأمر بدورها المشير طنطاوي بوقف الهجوم العفوي على السفارة. لم تقو إسرائيل على فعل شيء إلا الانتظار الطويل، وتدبير أمر تهريب عناصر الإرهاب من داخل السفارة (قد تكون ألبستهم اللباس الصعيدي أو الكوفيّات، كما ذكرت بعض الصحف). وقد سمح رئيس الحكومة الإسرائيلية لقوّات حماية السفارة بأن تطلق النار على جماهير الشعب المصري، وقد فعلت ذلك بالفعل، لكن من المؤكّد أنّ المجلس العسكري فرض رقابة على نشر أخبار عن إطلاق الرصاص على الشباب المصريّين خارج السفارة. (قد تنتج شركة أميركيّة قريباً فيلماً دعائيّاً عن «بطولة» إرهابيّي العدوّ وعن «وحشيّة» المتظاهرين المصريّين).
لكن يمكن الاستعانة بما حدث، لاستشراف المستقبل الاستراتيجي القريب. عمّ الذعر إعلام العدوّ وكان كالذي يمسك بقشّة كي يعوم في الماء الهائجة. تزداد عزلة إسرائيل العالميّة، كما أنّ الغضبة الشعبيّة العربيّة الآخذة في التصاعد، لا تنفع معها الطائرات الحربيّة المقاتلة التي كانت فاعلة في هزيمة جيوش الأنظمة العربيّة عبر العقود. سادت حالة تخبّط واضحة في صفوف قادة العدوّ، إزاء أزمة السفارة، وعمل إعلام العدوّ على تغطية الإحراج ومشاهد الغضب الشعبي العارم. ما كان يُفترض أن تواجه إسرائيل ردّة الفعل تلك، بعد أشهر قليلة فقط من سقوط عزيزها مبارك. (حتى الكاتب الليبرالي الأميركي، ريتشارد كوهن، المعلّق في «واشنطن بوست»، كتب رسالة حنين إلى عهد مبارك بعد اقتحام السفارة). اكتشف زعماء إسرائيل أنّ عقد «كامب ديفيد» بين أميركا ومصر وإسرائيل (يخطئ من يظنّ أنّ اتفاقيّة كامب ديفيد هي معاهدة ثنائيّة، وخصوصاً أنّه رافقها العديد من البنود العسكريّة والاستخباريّة السريّة التي شاركت في وضعها الولايات المتحدة ـــــ يُسأل عنها نبيل العربي) قوّي وفعّال في دعم الصهيونيّة، لكنّه يعاني من ضعف أكيد. يكمن ذاك الضعف في قدرة الولايات المتحدة على ضمان استمرار نظام استبدادي موالٍ لواشنطن. قامت الحكومات الأميركيّة المُتعاقبة منذ 1979 بالواجب، وأغدقت المساعدات العسكريّة والاستخباريّة على نظام السادات ـــــ مبارك، لكن غضبة الشعوب أقوى، كما شاهدنا. حاولت الحكومة الأميركيّة ـــــ لمصلحة إسرائيل، ولمصلحة سيادة نفوذها وهيمنتها في المنطقة العربيّة ـــــ أن تجعل من حكم مبارك سلالة فرعونيّة حاكمة. وقد دشّن جمال مبارك عهده في الحكم، عبر التنسيق بين حكومة والده وإدارة بوش. كانت وسائل الإعلام الأميركيّة تتسابق للقاء جمال مبارك، وكأنّه حكيم أرض النيل. تمسّك أوباما بمبارك حتى الرمق الأخير، وعندما استحال استمرار مبارك، حاول أوباما إرضاء إسرائيل عبر المجيء بعمر سليمان، لكن ذلك باء بالفشل أيضاً. من المؤكّد أنّ الخيار الأميركي في إبقاء عمر سليمان من أجل المدّ بعمر حكم مبارك، من دونه، كان الخيار الأخير لإدارة أوباما.
والتعاطي العربي مع مشاهد اقتحام السفارة كان كافياً كي يخرج أبواق آل سعود من جحورهم، كي يسعفوا إسرائيل. علي سالم، داعي التطبيع مع إسرائيل (الذي لا يجد تناقضاً بين تطبيعيّته وكلامه المعادي لليهود كيهود في الإعلام العربي، لكن ما علينا، أليس كل اصدقاء إسرائيل في العالم العربي المعاصر من المعادين لليهود؟) أعاد تأكيد نغمة باتت مُتكرّرة في الإعلام السعودي: نغمة التحذير من الفوضى ومن الحروب بعد سقوط مبارك. وكانت جريدة الأمير سلمان وأولاده، «الشرق الأوسط»، حافلة منذ اندلاع الانتفاضة المصريّة بمقالات وصور تحذّر من مغبّة الفوضى لو سقط مبارك، وكانت تزخر بدعاية إعلام مبارك السوقي عن مؤامرات إيرانيّة وحمساويّة لإسقاطه. رئيس تحرير الصحيفة المذكورة، وهو أصدح الأصوات الليكوديّة في مضارب آل سعود، ساوى بين حرق السفارة وحرق مصر. حتى وليد جنبلاط (العائد من ليبيا مُجاهراً بثناء على النظام الجديد، كما كان يعود أيّام العقيد مُجاهراً بثناء على القذّافي، لكن جنبلاط اصطحب معه هذه المرّة مستشاره للشؤون النفطيّة) أدلى بدلوه في موضوع السفارة، وحذّر من إلغاء كامب ديفيد لأنّ ذلك يضرّ بـ«رقيّ» الثورة المصريّة، على حدّ قوله. وفي مسألة الرقيّ والقتل بالفؤوس، هل هناك من هو أعلم من وليد جنبلاط؟ وصحافة آل سعود اختارت لنفسها، لأسباب لا قدرة للإنسان العادي على فهمها، مهمة الوصاية على المسيرات الديموقراطيّة في العالم العربي. لعلّ الأمر اختلط على أبواق آل سعود: لعلّهم ظنّوا أنّ قطع الرؤوس في الساحات العامّة في الرياض هو نموذج للديموقراطيّة الفُضلى.
وتقدّم ـــــ لا تقهقر ـــــ الانتفاضة المصريّة، والارتقاء بها إلى مرتبة الثورة، سيؤدّيان حتماً إلى إحداث فرز ضروري بين الفريق الجذري ـــــ الثوري والفريق الليبرالي في صف مؤيّدي الانتفاضة المصريّة. طبعاً، للإسلاميّين حساباتهم الخاصّة المتناغمة إما مع الحكم القطري أو السعودي، أو مع الاثنين معاً هذه الأيّام. الإسلاميّون (إخوان وسلفيّون) نأوا بأنفسهم عن اقتحام السفارة، لا بل هم أدانوه. أصبحنا نفهم مفهوم الجهاد في العرف الإخواني: هو لم يكن يوماً جهاداً ضد إسرائيل. الجهاد بالنسبة إليهم، كان قتال نظام عبد الناصر لأنّ الإخوان كانوا في صف حلف إقليمي ـــــ عالمي يضمّ، في ما يضمّ، دولة العدوّ الإسرائيلي. لكن الحرب الباردة أصبحت من الماضي، وإن كان المرء اليوم أكثر تفهّماً لموقف عبد الناصر العدائي ضد الإخوان. الجناح الليبرالي في مصر، سارع إلى التعبير عن معارضة شديدة لاقتحام السفارة. لكن متى كانت الثورات ليبراليّة؟ هل هناك ثورة في التاريخ صُنعت بأيدٍ ليبراليّة؟ الليبراليّون لا يوسّخون أيديهم بالثورات: هم يحاولون قطاف ثمارها والصعود على متنها في الأيّام الحلوة، لكن متى تصبح ثورة، هم يهربون أو يتسلّقون.
موقع «كلنا خالد سعيد»، الناطق باسم شركة غوغل، التي وافقت سرّاً مع الحكومة الإسرائيليّة على إجراء فريد يضع حواجز وضوابط أمام مُستعملي غوغل حول العالم كي لا تظهر خرائط إسرائيل إلا متأخّرة جدّاً، مع إجراءات لا يعلم عنها إلا قادة الموساد وخبراء الشركة، علّق بسرعة على اقتحام السفارة، ووصفه بالعمل «الصبياني». وزاد وائل غنيم (الوجه المقبول للانتفاضة المصريّة عند الرجل الأبيض، لأنّه يعمل في شركة مرضى عنها، ولأنّه لا يقول كلمة نقد ضد راعي مبارك الأميركي، كما أنّه لا يصرّح بموقف ضد إسرائيل) في تعليق على «تويتر» مُندِّداً باقتحام السفارة. وقد التقطت «يديعوت أحرونوت» بسرعة إشارة وائل غنيم، وعنونت خبر اعتراضه على اقتحام السفارة، وكأنّ الأخير هو الممثّل الشرعي والوحيد لانتفاضة ملايين الشعب المصري. صحيح أنّ غنيم عاد وكتب مُطالباً الحكومة المصريّة بموقف «قويّ»، بعد خبر وفاة الجندي المصري السادس، نتيجة جرحه بنيران العدوّ، لكن الردّ القوي بالمفهوم الليبرالي قد لا يتعدّى عدم تقبيل وجنات مسؤولي العدوّ أكثر من ثلاث مرّات في اللقاءات الرسميّة. الليبراليّة العربيّة ذات سمات مشتركة (ولا يجوز ربط بعض الليبراليّة العربيّة بأجنحة الليبراليّة العربيّة المرابطة في مضارب أمراء آل سعود، لأنّ هناك ليبراليّين مستقلّين في مصر). الليبراليّة العربيّة، في كل ألوانها وتشكيلاتها وأصنافها وأجنحتها، مُصابة بعقدة الرجل الأبيض: هي تحاول إرضاءه بشتّى الطرق، وخصوصاً في الموقف من إسرائيل. العداء الشعبي ضد إسرائل يصيب الليبراليّين العرب بالحياء والإحراج، لأنّهم تشرّبوا عقيدة الرجل الأبيض (وهو صهيوني) ويحاولون دوماً، وبذلّ، إثبات حضاريّتهم. لذلك، فإنّ الأصوات الليبراليّة علّقت على اقتحام السفارة بالتشديد على ضرورة الحفاظ على سلميّة الثورة المصريّة، وعلى رقيّها وحضارتها.
الثورات لم تكن حضاريّة يوماً. ليس هناك من حضاريّة في الثورات العالميّة التي تُعدّ اليوم نبراساً للإنسانيّة، مثل الثورة الفرنسيّة. لم يعر روبيسبير أهميّة للاتهامات ضده ووسمه بالإرهاب (لو عاش روبيسبير في عصرنا، لزجّته الولايات المتحدة في سجن غوانتانامو على عجل). لو كنتُ إرهابيّاً، كان روبيسبير يقول لهم، لسجدتم تحت قدمي. ثم كيف أصبح العنف ضد جدار خرساني (أنشأته دولة العدوّ على أرض مصر، بإذن من مجلس طنطاوي) عنفاً؟ علمنا منذ سنوات أنّ تعريف الإرهاب تطوّر بمشيئة صهيونيّة ليصبح أي عمل عنفي ضد أي إسرائيلي، ولو كان جنديّاً إرهابيّاً مدجّجاً بالسلاح، عملاً إرهابيّاً يجرّ إلى استصدار قرار من الأمم المتحدة بشأنه. لكن، هل أصبح تكسير جدار أو هدمه عملاً إرهابيّاً هو أيضاً؟ ثم، لماذا يثير اقتحام سفارة عدوّة ردود فعل تفوق ردود الفعل ضد قتل جنود الإرهاب الإسرائيلي جنوداً مصريّين ومدنيّين فلسطينيّن؟ الليبراليّة تلحق بأذناب الثورات، لكنّها لا تصنعها. مرحلة الفرز حتميّة وقد تكون بدأت بالفعل لتوّها. لندع أمين الريحاني يصف المرحلة في «هتاف الأودية»: «ألم نقصّ عليهم قصص باريس/ يوم دُكّ الباستيل وزفّ المحابيس/ يوم قُطع رأس الملك لويس/ وحُزّت رقاب كبار الفرنسيس».
* أستاذ العلوم السياسيّة في جامعة كاليفورنيا (موقعه على الإنترنت: angryarab.blogspot.com)