تبقى ظاهرة التعدد أو التنوّع الديني، والطائفي أو المذهبي، هي الظاهرة الأكثر تعقيداً في لبنان. وتبقى المحاولات الجادة، على أهميتها، من دون جدوى، ما لم يتوافر لها المناخ الملائم للأخذ بها، ووضعها موضع التنفيذ. والاقتراحات التي طرحت في محاور التعددية والتربية الدينية والأخلاقية، والتعددية وإعداد المعلمين في لبنان، لا يمكن أن تعطي ثمارها، ما لم يقتنع بها المعنيون على المستويين التربوي والسياسي. وشعارنا «وبالتربية نبني معاً...»، يلقي على عاتق كل منَّا مسؤولية التفكير والبحث عن الأساليب والوسائل الناجعة التي يمكن أن تساعد في بناء المواطن على أسس تربوية وعلمية مركّبة، تأخذ بالاعتبار الواقع اللبناني في كل مشكلاته وتعقيداته، وعلى الأخص تلك المتأتية من التعددية والتنوّع وما خلفته من انعكاسات اجتماعية واقتصادية وسياسية، كادت تقضي على كلّ مقوماته.يقول الدكتور ريمون ملّاط في كتابه «لبنان ما بين المأزق والحل» (1) «إنّ لبنان يبدو كأنّه مجموعة فئات تعيش ضمن حدود معينة، فإذا ما عجزت هذه الفئات عن مواجهة الواقع والتسليم بأنّها وحدة عضوية حيَّة لا تتجزأ، مرامها ازدهار الوطن الذي تترعرع على أرضه، والمضي بها سبيلاً إلى العلاء عبر تبادل الثقة والاحترام في ما بينها، إذا ما تخلفت عن ذلك، كان مصيرها التلاشي في الريبة...».
يضع ذلك التحذير الجميع أمام مسؤولياتهم، كما كلّ المخلصين والصادقين الذين يحاولون إبعاد كأس الإحباط المدمّر عن شفاه اللبنانيين المتعطشين إلى وطن الإنسان في لبنان.
من جانبه، يقول الإمام المغيّب السيد موسى الصدر، في حديث له نشر في جريدة النهار في 18/1/1977 «إنّ تعدد الطوائف، إذا كان يشكل عازلاً أو ضعفاً أو خطراً، فإنّه أيضاً إذا أدى في النهاية إلى تبادل المعارف والتجارب والحضارات، ومن ذلك ينتهي إلى قوة الوطن... فالخطر ليس إذاً في تعدد الطوائف بل في تحوّل هذا التعدد إلى السلبية». كما يرى السيّد في الإسلام ديناً ديناميكياً «وملوّناً، يعترف بالتعددية الناتجة بشكل طبيعي من اختلاف انفعالات الأفراد والجماعات»، ويعطي الإسلام مفهوماً عن المجتمع ينبثق من واقع الإنسان. كلّ ذلك يؤكد صواب نظريتنا في الحل الذي يعالج الواقع المتعدد.
وفي هذا الإطار، يقول السيّد محمد حسن الأمين، في خلال الندوة التي أقامتها «حركة حقوق الناس»، في مركز متخرجي الجامعة الأميركية في بيروت، بتاريخ 4 آذار 2000 إن «الهاجس المخيف في التعليم الديني في لبنان، هو هذا الخوف من مزيد من ضخ الحساسيات الطائفية أو التعصب الطائفي من طريق التعليم الديني». ويتابع: «من حق الطالب في لبنان تلقي عناصر في المعرفة الدينية في المدرسة. وأنا أطالب بتنشئة لا طائفية (وليس بتعليم ديني)، من أجل تحصين الطالب ثقافياً ـــــ دينياً ضد ثقافة الشارع الموغلة في الطائفية والمذهبية». ويقول في الندوة نفسها: «والدين من الأهمية بمكان، لدرجة لا يجوز معها أن يكون مهمة رجال الدين، بل يجب أن يكون أبعد من ذلك... أن يشرف عليه علماء مختصون في الديانات وعلماء تربية حقيقيون وهيئات فكرية وهيئات معنية في الاجتماع اللبناني، وفي تطوير ذلك الاجتماع حتى لا يظلّ اجتماعاً طائفياً».
ويتقاطع ذلك الطرح، إلى حدّ بعيد، مع طرح البحث القاضي بوضع منهج خاص بمادة الثقافة الدينية. ومن الاقتراحات المشابهة أيضاً، الاقتراح الذي تقدمت به «حركة حقوق الناس» (2) خلال المؤتمر الصحافي لإعلان كتاب «التعليم الديني الإلزامي في لبنان» في 8/3/2002، في نقابة الصحافة في بيروت، الذي يمكن إيجازه بخمس نقاط هي: أولاً، إدخال ما يسمى «التنشئة على عدم التمييز الطائفي» في المراحل التعليمية كافة، كجزء لا يتجزأ من «الثقافة الإنسانية حول المعتقدات»؛ ثانياً، منع فصل التلاميذ بحجة التعليم الديني؛ ثالثاً، اعتماد منهاج أو مادة «ثقافة إنسانية حول المعتقدات» لا تعليم ديني أو تربية دينية؛ رابعاً، يدرس ذلك المنهاج أو المادة، معلمون وأساتذة متخصصون في مجال التربية والتيارات الدينية؛ خامساً، إعداد كتب مدرسية في «التنشئة على عدم التمييز الطائفي» بمعدل كتاب واحد لكل مرحلة من المراحل التعليمية، تكون بمثابة دليل للمعلم.
وتحدث الاقتراح أيضاً عن مضمون المادة ولجان التأليف، وتدريب المعلمين، إلخ...
ويأتي اقتراح مشروع القانون الذي تقدمت به لجنة التربية النيابية والمرسل إلى المركز التربوي للبحوث والإنماء بموجب كتاب رقم 5904/11 تاريخ 21/12/2004 ويحمل توقيع وموافقة رئيسة اللجنة آنذاك النائبة بهية الحريري ومقرر اللجنة النائب روبير غانم، ليدعم بقوة الاقتراح الذي نعمل من أجله والقاضي بإعداد مادة للثقافة الدينية، كما ورد أعلاه. أما مضمون اقتراح مشروع القانون المذكور، فيطلب من المركز التربوي إمكان إعداد كتاب موحّد تحت عنوان «الثقافة الإيمانية والدينية» ليدرّس في مختلف المدارس اللبنانية، رسمية كانت أو خاصة. وقد عمِل المركز التربوي فوراً على تأليف لجنة لمتابعة ذلك الموضوع، ودراسة الملف في ضوء الاقتراح أعلاه، ووضع تقرير خلال فترة خمسة عشر يوماً. وهكذا كان، ولكن لسوء الحظ لم يرَ الكتاب النور حتى تاريخه.
تلك الاقتراحات والأقوال تعزز فلسفة هذا البحث القائمة على أبعاد ومرتكزات أهمها الثقافة الدينية إلى جانب الثقافة المكتسبة من مواد التاريخ الموحد، والتربية المدنية والتنشئة الوطنية، والحضارات والتربية على حقوق الإنسان، وغيرها من مواد المناهج، الكفيلة ببناء المواطن اللبناني القادر على تبادل المعارف والتجارب والحضارات، وعلى فهم الآخر والاتفاق معه على حلول دائمة للمسائل الطائفية الهادفة إلى قبوله من جهة، وتبادل الأدوار معه وتوزيعها على مسرح الوطن الواحد من جهة ثانية.
في ضوء ما تقدم من طروحات واقتراحات ووقائع، يؤكد هذا البحث مرة ثانية، أنّ الحل يبدأ بالتربية الهادفة إلى بناء ذهنية جديدة مختلفة كليّاً عن الذهنية الطائفية السائدة في المجتمع اللبناني اليوم، ومنها إلى بناء المواطنية الفريدة من نوعها، القادرة على التخلص من الانتماء الفئوي الضيق، إلى حيث الوطن، مع ما يستوجب ذلك من تغيير في سلوك المجموعات التي تعيش فيه، بدءاً بالعائلة.
ذلك الحل، على صعوباته وتعقيداته، ليس مستحيلاً وإن كان تحقيقه يتطلب حقبة طويلة، تتناول ربما أكثر من جيل. ذلك أمر طبيعي؛ لأنّنا سنكون أمام إعادة بناء طبقة جديدة من اللبنانيين، شرط أن نعمل بكل جدية على تطوير نظامنا العام، وبناء عليه نظامنا التربوي بعناصره ومكوناته كافة، من الفلسفة إلى الاستراتيجية إلى الهيكلية إلى المناهج، ومنها إلى الكتاب ومحتوياته. كذلك يجب إعداد المعلم وتدريبه وتأهيله، والطالب المواطن الإنسان الملتزم بلبنان، المتساوي في الحقوق والواجبات مع المواطن اللبناني الآخر، حيث لا تمييز ولا امتيازات ولا درجات في المواطنية، بل سقف واحد يحمي، هو القانون العادل للجميع. ويبقى ذلك السقف قوياً منيعاً بفضل تكاتف أبنائه، لأنّه في حال انهياره لن يستثني أحداً.
هناك سؤال موجّه إلى جميع الذين يعدّون أنفسهم مسؤولين عن مصير الوطن وشعبه، وعن بقائه وديمومته، من رجال دين، ورجال دولة، ومن الطائفيين والعلمانيين، ومن المسؤولين والحكام في الدول الصديقة في الجامعة العربية وهيئة الأمم، إليهم جميعاً: هل تريدون أن يكون لبنان حقاً وفعلاً وطناً نموذجياً ووطن الرسالة؟
الجواب، في ضوء اقتناعاتنا الناتجة من التربية والتعليم والتجارب والخبرة، هو في ما يأتي:
أولاً: حتى يكون الوطن اللبناني نموذجاً ومثالاً ورسالة، يجب أن يكون نظامه العام قائماً على فلسفة لبنانية واضحة، مبنية على قاعدة منطقية أساسها الإنسان اللبناني من دون تمييز ولا امتيازات، وهدفها المساواة الحقيقية كما جاء في المادة السابعة من الدستور اللبناني والفقرة «ج» من مقدمته، والمادة 12 منه، لا أن يفاجأ التلميذ والمواطن في ما بعد، بالتكاذب واللامساواة، كما جاء في الفقرة «ي» من مقدمة الدستور وفي المواد «24» و «95» والفقرة «ح» والمادة «22» وغيرها.
هذا بالإضافة إلى تكريس طائفية الرئاسات الثلاث: رئاسة الجمهورية للطائفة المارونية، رئاسة مجلس النواب للطائفة الشيعية، ورئاسة مجلس الوزراء للطائفة السنية. وغيرها من المواد التي تتحدث عن توزيع وظائف الفئة الأولى مناصفة بين المسلمين والمسيحيين، بالإضافة إلى العرف القاضي بحصر بعض الوظائف من الفئة الأولى، بطوائف معينة من دون غيرها.
ثانياً: تلك الفلسفة هي أساس بناء الدولة اللبنانية، الدولة التي تتكون من الأرض والشعب والمؤسسات. الأرض، المعترف بكل شبر منها، واضحة الحدود والمعالم الجغرافية والطبيعية والسيادية. الشعب، الواحد بانتمائه وأهدافه وتطلعاته ومصالحه المشتركة، يتميّز من غيره من الشعوب بشخصيته المتنوعة الغنية بالقيم الإنسانية. المؤسسات، التي تتولى إدارة وتنظيم وحماية الأرض والشعب، وتسعى إلى تحقيق الفلسفة التي بني على أساسها الوطن.
يجب على تلك المؤسسات أن تعمل على وضع استراتيجية لبنانية وطنية شاملة ومترابطة، تستوحي مرتكزاتها من الفلسفة العامة للدولة، على أن تعكس تلك الاستراتيجية الصورة المطلوبة للمواطن اللبناني الإنسان، في مختلف الاستراتيجيات المكوّنة للنظام اللبناني ومنها الاستراتيجية التربوية التي يجب أن يقوم عليها النظام التربوي في لبنان.
إنّ التقاطع والتناغم بين الفلسفة العامة للدولة، والفلسفة التربوية، يجب أن يؤديا أيضاً إلى التقاطع والتناغم بين الاستراتيجية العامة للدولة والاستراتيجية التربوية، والبحث عن الوزارات السيادية في أي نظام من الأنظمة ومنها لبنان، خارج الحديث عن سيّدة الوزارات التي هي وزارة التربية، يُعَدّ بحثاً عقيماً.
إنّ ما يعزز الحلول للتعددية بالتربية في لبنان، هو التسلسل المنطقي والعرض الموضوعي والواقعي للمواضيع ذات العلاقة. كذلك ينطبق الأمر على المواضيع الأساسية في نظامنا التربوي، بدءاً من خطة النهوض التربوي، والهيكلية الجديدة للتعليم، والمناهج الجديدة للتعليم ما قبل الجامعي، وإلقاء الضوء على الصعوبات التي حالت دون تعديل المناهج عموماً، ومناهج التربية المدنية والتنشئة الوطنية والتاريخ والتعليم الديني، خصوصاً. لقد بقيت مناهجنا منذ الستينيّات ولغاية 1997، من دون تعديل جوهري، إلى جانب مشاكل وعقبات كانت سبباً رئيساً في وجه تطوّر التربية والتعليم في لبنان، ومنها إلغاء الإعداد الأساسي في دور المعلمين والمعلمات وكلية التربية في الجامعة اللبنانية، والاستعاضة عن ذلك بالتعاقد مع معلمين وأساتذة معظمهم لأسباب سياسية بعيدة كل البعد عن الأهداف التربوية أو الغايات العلمية والوطنية.
كل ذلك، كان الدافع الذي جعلنا نبحث عن الحل الذي نراه صالحاً ومناسباً، فكانت التربية والعودة إلى الذات الإنسانية، وإلّا فسيبقى المصير مجهولاً كما هو حاصل في دول عديدة ومع شعوب وجماعات لا تزال حتى يومنا هذا تعاني الويلات وتتعرض لأشد أنواع المصائب.
وقد يكون مشروع إلغاء الطائفية السياسية الذي نصَّ عليه في مقدمة الدستور وفي المادة 95 منه، بالإضافة إلى ما طرحناه أعلاه، مدخلاً أو سبيلاً إلى إلغائها من النفوس، وتمهيداً إلى الانتقال من الدائرة الصغرى لكل طائفة أو مذهب، إلى الدائرة الكبرى حيث الوطن الحقيقي، وطن الإنسان اللبناني الذي تحدثنا عنه.
ولم يكن عبثاً تحليل الصحافي جان عزيز عندما كتب في «الأخبار» (العدد 1018، الخميس 14/1/2010) مقالة تحت عنوان «كلام بري، كلام حق» وهو يشير فيها إلى اقتراح دولة الرئيس نبيه بري رئيس مجلس النواب اللبناني في إنشاء الهيئة الوطنية لإلغاء الطائفية السياسية، تطبيقاً لما جاء في الدستور اللبناني.
ولا أدري لماذا أجد نفسي مرتاحاً، وعن اقتناع، وفي منتهى الواقعية والموضوعية والإيمان، حيال ذلك الطرح، مع الإشارة إلى أنّ كثيرين سينظرون إليّ بعين الريبة أو الاستخفاف أو السطحية، من رجال دين أو مدنيين أو غيرهم. لكنّني أقول لهم جميعاً إنّ التطور الطبيعي للأمور سيقودنا إلى مصير مجهول، إن لم نتدارك أو نأخذ العبر من شعوب سبقتنا، وكان مصيرها الضياع والهلاك والهجرة في أحسن الأحوال؛ لأنّها لم تتمكن من استنباط الحلول التي تعكس سبب وجودها، وأهمها أنسنة النظام، في ظل دولة قويَّة وعادلة، شعارها المساواة بين جميع المواطنين في الحياة العامة، والحرية للجميع في أساليب التعبُّد لله الواحد.

هوامش
(1) د. ريمون ملّاط، لبنان ما بين المأزق والحل. الصفحة 148.
(2) «حركة حقوق الناس» مؤسسة غير حكومية، أنشئت بموجب علم وخبر رقم 57/أد سنة 1988، في بيروت، لبنان.

* اختصاصي في الإدارة التربوية، أستاذ محاضر في الإدارة التربوية (جامعة الكسليك)، رئيس لجنة التربية والثقافة في المجلس الأعلى لطائفة الروم الملكيين الكاثوليك